آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  فلسفة التجديد

قضايا التجديد    |    إتجاهات الإصلاح    |    التعليم و المناهج

  •     

تجديد التراث و المأزق المنهجي في نقده ؟

الحسن حما


إن المتأمل في حال الأمة ليصعب عليه أن يتبين مقدار التخلف الحضاري و العجز الفكري الذي وصلت إليه ، رغم ما تمتلكه من إمكانيات بشرية و مادية و قيم و مبادئ إنسانية سامية. وتشكل الأزمة المنهجية في الفكر الإسلامي أحد أبرز المؤشرات على هذا التخلف ،إذ ما تزال إلى اليوم تعيش على ما أنجزه الأسلاف في عصور ماضية، فأصبح أمر الإبداع لديها معطلا، و حديثنا هنا ليس من أجل ستحضار القصور و جذور الأزمة المنهجية للتعاطي مع التراث، بل الذي يهمنا بالدرجة الأولى هو التوجهات الرئيسة التي انبثقت عن التلاقي الحضاري بين الغرب و الإسلام في مرحلة شهذ فيها العقل الاسلامي زخما فكريا و ثورة في العلوم والمعارف، بفعل البحث عن النموذج المفقود، يكون قادرا على المواجهة الحضارية مع الغرب. و هي ثلاثة توجهات رئاسية: الأولى ذات موقف تقليدي للحل الأجنبي والثانية موقف تقليدي تاريخي و الثالثة محاولة التوفيق بينهما . و هذا الانقسام في حد ذاته عائق من العوائق المنهجية التي تقف وراء تجديد التراث الاسلامي في إطار المراجعة إذ بدون حسم في المنهج يكاد الامر لا يعدو تلفيقات منهجية من مشارب متعددة مما يفقد الأمر خصوصيته و أبعاده .

أولا: التوجه التقليدي الأجنبي.

و هذا الموقف ينظر إلى التراث من منظار العلاقة مع الغرب ، المتفوق عسكريا و علميا وتنظيميا ، فراح يدعو إلى القطيعة مع التراث من أجل اللحاق بركب الحداثة "[1].

و لعل ما غاب عن هذا الاتجاه عدم قدرة النموذج الغربي على النهوض بمقومات الأمة الإسلامية باعتبار مادية الأولى و روحانية الثانية ، "فالحل الأجنبي ما هو إلا مجموعة من الحلول المستوردة جوهريا من التجربة الغربية الحديثة بكل أشكالها الفردية و الشمولية و العلمانية والإلحادية ( الرأسمالية والماركسية)".[2]

و هذه المنطلقات التي تؤسس لنظريتها على التجربة الغربية لا تنسجم مع مبادئ الحضارة الإسلامية الخلاقة . لهذا "لا يصح للمسلم أن يقلد النمط الحداثي للغرب لأن هذا النمط بني أساسا على نبذ الأخلاق نبذا كاملا و على اعتبار دخولها في العلم و التقنية سببا من أسباب التقهقر وإضعاف الإنتاجية فيهما ؛ومتى خلا العلم و التقنية من الأخلاق، اتخذ منحى ماديا لا يلبث أن ينقطع عن النفع " [3].

فاختلاف الأسس التي يعتمد عليها الحل التقليدي الأجنبي – الغربي- عن مكونات المنطق الإسلامي تجعل هذا الموقف غير سليم في تعامله مع المنظومة الغربية " و سر فشل منطق التقليد الأجنبي الدخيل ليس أمر يصعب فهمه أو تبيان أسبابه الموضوعية لمن أراد الفهم والإدراك، فالأمم ككائن إنساني حي، هي أشد تعقيدا من الأفراد في تكوينها ... فلكل أمة تكوينها في قيمها وعقائدها و مفاهيمها و لها دوافعها ونفسياتها و تاريخها شأنها في ذلك شأن مكوناتها من بني الإنسان"[4].

فإذا تم تغييب هذه الأبعاد في التعامل مع الحضارة الإسلامية فمن الصعب تحريك تراثها و تجديده، فبالأحرى تحريك مكامن القوة فيه.

ثانيا: الحل التقليدي التاريخي.

لقد جاء هذا الحل التقليدي كرد فعل على الموقف الأول ، فانصرف بذلك إلى الاحتماء العاطفي بالتراث ليملأ الفراغ النفسي الذي شعر به إزاء تفوق الآخر ، فلا يجد عزاء إلا في التراث لتضميد الجراح التاريخية و تخدير الحس التاريخي كلما توالت علينا الهزائم و النكبات و النكسات ... إنه موقف يعيش في "غيبوبة سعيدة " إسمها " المجد التاريخي " و " العصر الذهبي " " و " سبق الإسلام إلى هذا منذ أربعة عشر قرنا ". [5]

و الواضح أن هذا الحل كسابقة لا يمكن أن يقوم بالنهوض " إذ يلغي الأبعاد الزمانية و المكانية لكيان الأمة و مسيرتها التاريخية "[6] . فالانزواء و الانطواء على الذات ، عبر التستر وراء التاريخ وتمجيد الإنجازات الماضية لا يَعْدُ و أن يكون الأمر مجرد تذكير بتاريخ عريق للأمة دون أن يقدم هذا الشيء في عملية البناء الحضاري عبر تجديد التراث .

فمن أهم الدروس التي تستقى من فكر الفرقة و العزلة و الانطواء هو فشلُ المدرسة التقليدية التاريخية وأن العودة إلى العيش في الأحلام التاريخية هو أمر ضد طبائع الأشياء و حركة الحياة في الزمان و المكان والفكر و الإمكانات " [7].

إن فهم الداء شيء ضروري و محوري لتشخيص العلاج و إعطاء الدواء ، لذلك فإن كل الاتجاهين المذكورين يشكلان حلولا لا تنسجم لمعطيات واقع التراث ، و مقومات البناء الحضاري للأمة الإسلامية ، و يبقى الحل الثالث – منطلق الأصالة الإسلامية المعاصرة – الحل التوفيقي الذي يجمع بين النظرتين السابقتين البديل الأنسب لكن مسألة التلفيق تبقى غير ذي جدو بدون منهج يعطي للعملية المراجعة نفسا تجديديا بدون الانغماس في التراث و بدون الانفتاح على العلوم المعاصرة، فالمسألة تحتاج إلى مراجعة معرفية للمناهج نفسها ، لذلك عمل أغلبية المفكرين على إنضاج الرؤى حول الطبيعة الفكرية للتجديد المنشود للتراث فأنجزوا بذلك دراسات وأبحاثا بل مشاريع فكرية عند بعضهم و هذه الأعمال هي التي تشكل الانطلاقة الراشدة إذا ما أخذت بالأدوات المنهجية فلابد و أن تصل إلى المراد المفقود

ثالثا : التجديد التكاملي[8] للتراث.

و التجديد الذي ينشده الفكر الإسلامي و ينادي به لفيف من المفكرين الذين يشتغلون بالتراث؛ أي أولئك الذين يتوسلون بمناهج تنطلق من التراث نفسه، يكون تقويمهم و قراءتهم للتراث تستجيب للتحديات الحضارية للأمة ، على عكس القراءات التي تنطلق من مناهج غربية و التي يصفها الأستاذ الطيب بوعزة بأنها "تخلص إلى استنتاجات و أحكام زائفة بعيدة جدا عن طبيعة هذا التراث الإسلامي بسبب استعمالها لمناهج الغرب المناقضة لطبيعة التراث الإسلامي مما يجعل قراءتها للتراث تزيفا له و من أجل تأكيد هذا الكلام يكفي التمعن في الأدوات البحثية التي يعتمدها هؤلاء.فإن المتأمل يجد أغلبها أدوات اصطنعها المحدثون من مفاهيم و مناهج و نظريات ، معتقدين أنهم بهذا التقليد قد استوفوا شرائط النظر العلمي الصحيح.يقول طه عبد الرحمان: "أو لم يدروا أنه ليس كل ما نقل عن المحدثين بأولى بالثقة مما نقل عن المتقدمين و لا كل ما نسب إلى العلم الحديث بأقرب إلى الصواب مما نسب إلى العلم المتقدم ..." [9]

و بالتالي فان العملية التجديدية التي ينشدها المشتغلون بالتراث الإسلامي ، هي الانطلاقة أولا من مناهج وتصورات تعتمد في أدواتها على مقومات الحضارة الإسلامية ، ثم بعد ذلك لابد و أن تكون عملية التجديد ليس فقط عملية شاملة تستوعب كل العلوم الموروثة فحسب بل و لا تقتصر على إيقاظ روح الإبداع في آفاق هذه العلوم فقط ، و إنما تتجاوز ذلك إلى محاولة تدشين علوم جديدة تفرضها مقتضيات الزمان وأسئلته " [10].

إن التجديد المستوعب لعناصر التراث هو الذي يستطيع أن يبدع لينتج علوم جديدة ، لابد فيه و أن يعمل على " إحياء الأصول الإسلامية و ثوابته بالعودة إلى المنابع الجوهرية و النقية لهذا الدين الحنيف والنظر فيها بعقل معاصر ، يفقه أحكامها كما يفقه الواقع الذي يعيش فيه ، عاقدا القران بين " " فقه الواقع " وفقه الأحكام " ليصل إلى التجديد في الفروع ... حتى يستجيب للمصالح الشرعية المعتبرة التي طرحتها وتطرحها مستجدات الواقع الحديث و المعيش "[11].

و هذا المنهج الذي يعتمد الشمولية و لا يستند إلى النظرة التجزيئية هو ما يسميه الدكتور طه عبد الرحمان ب " دعوى التقويم التكاملي ".

إن إمعان النظر في القراءة التقويمية التي يقول بها الدكتور طه عبد الرحمان لا يجدها بالفعل تقارب المنحى الذي ينبغي أن تسلكه المناهج التي تسعى إلى إحياء التراث الإسلامي، حيث تستند إلى المقومات التراثية . يقول موضحا هذا المنهج: " لا يصح تقويم إنتاج أحد علماء المسلمين أواحد حكمائهم ما لم يقع التسليم بأن تداخل إنتاجه مع أقرب العلوم إلى مجال التداول الإسلامي العربي أقوى من تداخله مع ما دونه قربا من هذا المجال ، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك".[12]

و الخلاصة التي يمكن الخروج بها هي أن من أول الخطوات لإبراز معالم التجديد المنشود للتراث الإسلامي ، هي الأخذ بمناهج تنطلق من التراث نفسه و تستطيع أن تبدع في التراث بما ينسجم و مقومات الحضارة الإسلامية ، حيث يتم بناء ما يسميه برهان غليون " بناء السلطة الدينية و الخروج من حالة الفوضى و الهمجية التي نعيشها في التعامل مع الدين " [13]. لذلك لابد لأي عملية تجديدية للتراث أن تسعى إلى إعادة تركيب المنظومة العقدية بما يسمح للعاطفة الدينية أن تتقدم " [14].

على أن ما سبقت الإشارة إليه من رفض المناهج الغربية لا يعني بالمقابل الانحياز إلى الدعاوي التي قد تضفي القداسة على التراث و إنما لابد من التوجه نحو ما يعتبره الدكتور يوسف القرضاوي"التحيز و الانتقاء وخصوصا في مجال التربية و التثقيف أو مجال الدعوة و التوجيه أو مجال الحكم والتشريع " [15]

و الأمر الذي يلزم المسلم في تعامله مع التراث الإسلامي هو أن نأخذ فيه ما هو سديد وصواب كما هو الحال في تعاملنا مع ما يصطلح عليه الأصوليون " بشرائع الماضيين " [16]يقول الإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني " إن العقل لا يحل إيجاب إتباع أحكام الشرع من قبلنا إذا لم يرد في شرعنا ناسخ له". [17]

إن هذا الأمر الايجابي العقلاني في التعامل مع التراث سعيا إلى تجديد يوافق مقومات الحضارة الإسلامية ، هو التجديد الذي ينشد التمييز بين ما هو صالح و ما هو طالح و المطلوب هو الانتفاع الواعي بالتراث لأن الوعي هو الذي يميز بين ما يصلح و ما لا يصلح.



[1] مجلة منتدى الحوار – نحن و التراث هشام السوباعي ص : 18.

[2] أزمة العقل المسلم د عبد الحميد أحمد أبو سليمان الطبعة الثانية.ص : 29.

[3] سؤال الأخلاق د طه عبد الرحمان الطبعة الثالثة 2006 ص : 189.

[4] أزمة العقل المسلم ص : 34.

[5] مجلة منتدى الحوار هشام السوباعي ص : 18.

[6] أزمة العقل المسلم ص : 37.

[7] أزمة العقل المسلم ص : 40.

[8] مصطلح التكاملي يستعمله الدكتور طه عبد الرحمان في مشروعه الفكري – أنظر كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث .

[9] تجديد المنهج في تقويم التراث مرجع سابق ص : 10.

[10] جدل التراث و العصر مرجع سابق ص " 70.

[11] مستقبلنا بين التجديد الإسلامي و الحداثة الغربية مرجع سابق ص : 6.

[12] تجديد المنهج في تقويم التراث مرجع سابق ص : 92.

[13] الاجتهاد و التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر برهان غليون ص : 103.

[14] نفس المرجع ص :99.

[15] الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة و المعاصرة مرجع سابق ص : 63.

[16] البرهان في أصول الفقه تأليف الإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجو يني أبو المعالي الجزء الأول ص: 189 الطبعة الأولى .

[17] نفس المرجع ص : 189.


تاريخ النشر : 30-09-2009

6431 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com