تحت عنوان "السُبُل إلى الجنة: التصورات الإسلامية لأشراط الساعة والآخرة" عقد معهد الدراسات الشرقية في جامعة غوتنغن في ألمانيا مؤتمره الدولي منتصف العام الحالي.
قُدِّمت خلال المؤتمر ثمانية وأربعون ورقة تدور حول مفهوم"Eschatology and Concepts of the Hereafter in Islam"وكلمة "Eschatology" تعود إلى أصل يوناني يُقصَد بها نظرية آخر الزمان.
تناول المؤتمر خلال محاوره الستة عشر أهم القضايا المتعلقة بنظرة المسلمين ونصوصهم الدينية لموضوع آخر الزمان، وجاءت أهم المحاور تحت هذه العناوين: الجنة ونعميها، الاسكاتولوجي المقارن، الرؤى الفلسفية للجنة ويوم القيامة، الرجعة والمهدي المنتظر، أساطير يوم القيامة والآخرة، الخطابات المنتشرة والشائعة بين المسلمين حول الجنة، الجنة في عقول المسلمين اليوم، الفلسفات الشيعية حول يوم القيامة، أوصاف حياة الآخرة في الفن والأدب، ومفاهيم آخر الزمان ورموزه والتصورات حوله، الجنة الملموسة المرئية. ويأتي هذا المؤتمر ليكون مشروع كتاب في سنة 2010 تصدره مؤسسة"BRILL" التي نشرت "Enyclopaedia Islamica" الأكثر شهرةً في الغرب، والتي تعد مرجعاً هاماً للباحثين في قضايا الإسلام ونصوصه وتاريخه.
شارك في هذا المؤتمر ما يقارب ستون باحثاً من جامعات غربية وعربية مختلفة. وقد أتى هذا المؤتمر ليرسم صورة من خلال الأوراق المقدمة فيه عن أهم التصورات التي قدمتها النصوص الإسلامية عبر القرآن والسنة وتأويلهما عن يوم القيامة وما بعدها من النعيم والعذاب.
من أهم الأوراق التي قدِّمت في المؤتمر ورقة الدكتور فرد دنر "Fred Donner" من جامعة شيكاغو تحدث فيها عن تحديد المفاهيم والمصطلحات التي تدور حول يوم القيامة، وكيف يمكن الدخول إلى فهم يوم القيامة من خلال هذه الاصطلاحات التي تناول فيها: معنى العالم الآخر وعالم اليوم، يوم القيامة بمعناها العلمي والديني، يوم القيامة الوجودي والعدمي، القيامات الفردية والجماعية والكونية.
كما قدم الدكتور سباستيان غونثر "Sebastian Gunther" مدير معهد الدراسات الشرقية في جامعة غوتنغن والذي جاء المؤتمر ثمرة لجهوده بالتنسيق مع الدكتور تود لاوسن"Todd Lawson" من جامعة تورنتو في كندا. ورقة الدكتور غونثر ركزت على التصورات والرموز الموجودة في القرآن حول آخر الزمان من خلال تحليل آية "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً" [البقرة: 26] تكلم فيها عن الرجعة الجسدية بعد الموت، ويوم الحساب، وحقيقة الجنة وجهنم كحقائق وعوالم مادية في الخطاب القرآني. وتحدث كيف أن الأدب الاسكاتولوجي في العصور الوسطى ازدهر عبر تصوير العلماء المسلمين لأفكار يوم القيامة وإخراجها متسقة مع أفكار الثقافات الأخرى، وركز بشكل خاص على اللغة القرآنية من خلال الأمثال التي عبر بها الله عن فضاء يوم القيامة وعالمه، وكيف أن هذه الأمثال توجهت بشكل خاص لرسم مقارنات بين عالم اليوم وعالم اليوم الآخر، مما خلق صوراً محسوسةً في وعي المخاطَب حول عالم يوم القيامة تتمثل في حركات وانفعالات وعوالم مستحضرة في أذهان المسلمين.
بدوره تحدث الدكتور جاكو هامين انتيلا "Jakko Hameen-Anttila" الذي قام بترجمة كاملة للقرآن إلى اللغة الفلندية، عن صورة يوم القيامة من خلال اللغة الجاهلية المستخدمة في أشعار العرب ما قبل الإسلام، وعقد مقارنات بين التصورات الشعرية الموجودة قبل الإسلام وبين القرآن حول الأرض، وركز على السؤال التالي: هل النظرة القرآنية لحياة ما بعد الدنيا تعكس الصورة الزاهية للأرض المفعمة بالنعيم عند العرب البدو، وكم كانت النظرة القرآنية قريبة من هذه المفاهيم العربية آنذاك.
كما قدَّم الدكتور هرمان لندلت "Hermann Landolt" وهو أستاذ كبير في جامعة ميجل الكندية "McGill University" ورقة مهمة حول مفهوم "الكون متجهاً إلى الرجعة" في الفلسفة الشيعية، رأى من خلالها أن هنري كوربان قدم مفهوم "الكون متجهاً إلى الرجعة" كمدخل تأويلي لفلسفة ملا صدرا الشيرازي الوجودية خلافاً لما قدمه هيدجر في مفهومه "الكون باتجاه الموت"، تتبع لندلت من خلال ورقته "الفلسفة الشيعية المبكرة " حسب تعبير باول والكر، مركزاً على ثلاثة مؤلفات في تاريخ الشيعة هي: "كشف المحجوب" لأبي يعقوب السجستاني المتوفى في القرن الرابع الهجري، و"روضة التسليم" لنصير الدين الطوسي المتوفي في القرن السابع الهجري، وجزئين من "الأسفار الأربعة" لصدر الدين الشيرازي، محاولاً من خلال ذلك تقديم تفسير فلسفي لموضوع الرجعة الجسدية في الدين الإسلامي، كما فرق من خلال ورقته - وبالاعتماد على أفكار السهروردي في كتاباته الكشفية خاصة "هياكل النور" - بين الرجعة الجسدية والرجعة الروحية، وفي الرجعة الروحية توقف متعجباً عند تعبير السهروردي "المظهر الأعظم" في إشارته للرجعة الروحية، وتساءل: ماذا يريد السهروردي بذلك؟ ربما أراد السهروردي بذلك – كما أرى - ما أراده هنري كوربان عندما تحدث من خلال عمل مهم له حول الإمام المهدي عن "عالم المثال" الذي ليس بعالمنا ولا بالعالم الأخروي، وهو العالم الذي فيه الإمام الغائب المنتظر، وهو بهذا يقترب من فكر المدرسة الشيخية التي ظهرت في إيران في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر من خلال الشيخ أحمد الإحسائي. الدكتور لندلت لم يُشِر إلى ما قاله كوربان في تفسيره لهذا العالم، ولكن أبدى إعجابه الشديد بتعبير السهروردي عن فكرة "المظهر الأعظم" الذي يفسره بعض المتصوفة السنة بـ "الإنسان الكامل" وفقاً لما قاله الشيخ الأكبر في "فتوحاته المكية"،
وأتت ورقة الدكتور تود لاوسن "Todd Lawson" من جامعة كندا، ليتحدث عن اللغة الشعرية الموجودة في القرآن حول يوم القيامة وما فيها من اللوحات الفنية الموحية بعالم الآخرة ومخلوقاته، أراد الدكتور لاوسن أن يركز على هذا الموضوع لما رآه من حالة النقص في الدراسات المهتمة بهذا الشأن مقارنة بما قام به العلماء والدارسون حول هذا العالَم في الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية والزردشتية والبوذية.
كما قدَّم البروفيسور الشهير ولفرد مادلنغ "Wilfred Madelung" من جامعة أكسفورد ورقة حول التفسير التقليدي للاسكاتولوجي الإسلامي عند الإمام أبي حامد الغزالي من خلال مخطوطته غير المنشورة حتى الآن "المسائل المضنون" التي تعني "المضنون بها على غير أهلها" رأى فيها أن الغزالي يتجه اتجاهاً مختلفاً عما ارتآه في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي كتبه في بداياته العلمية، والذي ذهب فيه إلى الإنكار على من ينكر الرجعة الجسدية، وأن المؤمن بإنكاره لهذه الرجعة يخرج من دائرة الإسلام، ولكن من خلال عمله المتأخر "المسائل المضنون" غير المنشور حتى الآن، حاول أن يتجه اتجاهاً فلسفياً انسجم فيه بعض الشيء مع ما جاء به الفيلسوف ابن سينا في رؤيته الفلسفية، ومقدماً فيه رؤية تصالحية بين المعتقدات الإسلامية التقليدية والعقائد الفلسفية حول قضية الرجعة الجسدية ومثبتاً فيه ما ذكره الفلاسفة عن البقاء الروحاني للنفس الإنسانية دون وجود الجسد. واستعرض عدة مفاهيم اسكاتولوجية في حديثه عن هذه الرجعة كـ"الشفاعة" و"الميزان" و"الصراط" و"الحساب"، هذه الرؤية التصالحية التي قدمها الغزالي اقتُبست بشكل مجهول – حسب مادلنغ – بعد فترة صغيرة مِن كتابتها وقام ابن الملاحمي المعتزلي بنقدها بشكل شديد من خلال كتابه تحفة "المتكلمين في الرد على الفلاسفة".
كما قدم الدكتور وليد صالح من جامعة "تورنتو" في كندا ورقة حول عملين غير مدروسين يصفان عجائب الآخرة، العمل الأول: "كنـز الأسرار" لمحمد بن سعيد الصنهاجي المتوفى في القرن الثامن الهجري، والعمل الثاني: "بهجة الناظرين" ليوسف الكرمي، قدم ورقته بالنيابة عنه الدكتورة كارول باخوس "Carol Bakhos" من جامعة "UCLA" في كاليفورنياالمتخصصة في الدراسات اليهودية.
وحاضَر إلى جانب هؤلاء عدة أساتذة بارزين في الجامعات الغربية كالدكتورة أسماء افسرودين "Asma Afsaruddin" من جامعة نوتردام الأمريكية، والدكتور جوزيف فان اس"Josef Van Ess" من جامعة "Tubingen" والدكتورة بتريس غروندلر "Beatrice Gruendler"من جامعة ييل الأمريكية، والدكتور سيمون عميرة من الجامعة الأمريكية في الكويت، والدكتور أسامة أبي مرشد من جامعة جورج تاون، والدكتور أسعد خير الله من الجامعة الأمريكية في بيروت، والدكتور شهزاد بشير من جامعة ستانفرد الأمريكية، والدكتور فراس حمزة من الجامعة الأمريكية في دبي، والدكتور أميد قائم مقامي الذي قدم ورقة استثنائية عن الإمام الغائب في المصادر المبكرة عند الشيعة تحدث فيها عن تأويل آية "وأشرقت الأرض بنور ربها" [الزمر: 69] وآخرون غيرهم.
وتحت محور "المهدي المنتظر، وعالم الرجعة" شاركتُ بورقة بعنوان "المهدي المنتظر في دراسات المتصوفة من أهل السنة: ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" نموذجاً" حيث عقد الشيخ الأكبر في كتابه فصلاً مثيراً عن شخصية الإمام المهدي (ج 3/ ص319 – 332) تحدث فيه عن رؤيته العرفانية المنبثقة عن قراءة النصوص الدينية، قدم فيها أفكاراً بالغة التعقيد حول صفة المهدي وسياق زمانه ومكانه.
ركزتُ في هذه الورقة على أهمية الكشف العرفاني في الفتوحات المكية، وكيف أنها تنطلق إلى آفاق أوسع خارج الرؤى التقليدية الرسمية، حلَّلت من خلال هذه الورقة نصوص ابن عربي وعلاقة هذا الفصل بالرؤى العرفانية عامةً وكتابات ابن عربي خاصةً، وابن عربي من خلال هذا الفصل يبين أن زمن مجيء المهدي كان في القرن الرابع الهجري حيث انتشر الفساد وعاثت الذئاب وسفكت الدماء في أراضي المسلمين، وما كان هذا الفساد ليحصل لولا إفساد الفقهاء ومقلدوهم في حرْف الإسلام عن معناه الصحيح، ولذلك يرى – أي ابن عربي – أن المهدي أتى ليقضي على سلطة هؤلاء المفسدين الذين حرَّفوا الدين وغيروا معناه، وعليه فإن أعدى أعداء المهدي عندما سيأتي – وفقاً لابن عربي – هم الفقهاء وأتباعهم بمدارسهم المختلفة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ...) ولهذا فإن المتصوف العارف بالله الذي يكون من أهل الحق لا ينتمي لهذه المدارس، وإنما ينهل من معين الحق وفيوضاته، وطالما أن الفساد انتشر وعمَّ وتغيرت معالم هذا الحق فإن المهدي يأتي ليرجع الدين إلى صفائه، ومن هنا يروي ابن عربي حديثاً نبوياً مثيراً في مكان آخر من الفتوحات، نصُه: "إن صلحت أمتي – أي أمة النبي محمد – فلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم" (ج 1/ ص157) والمقصود باليوم هو ما أراده الله في قرآنه "إن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون" [الحج: 47] وهو يرى أن نصف ذلك اليوم هو الصالح في السياق الإسلامي بسبب الفساد الذي عمَّ ديار المسلمين، ثم ينطلق ابن عربي ليصف مدة بقاء المهدي وأنها – عبر طريق الكشف – ستكون تسع سنوات، هذه السنوات التسعة هي وزراء المهدي الذي سيعينونه على نشر العدل في هذه الأرض، وأن هؤلاء الوزراء يحملون صفات تسعة، وبتحليلي الخاص أرى أن السنوات هي أشخاص، والأشخاص هي صفات، والصفات هي أمر الله عند مجيء المهدي. ويبقى سؤال بالغ الأهمية لمن يقرأ الشيخ الأكبر في نصه هذا، هو: من هو المهدي وفقاً لابن عربي؟ هل هو متبَّعٌ أو متبِّعٌ؟
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.