لا يخفي على الدارس لتاريخ الجزائر ما عانته من ويلات همجية الاستيطان الفرنسي، وسعيه لطمس سمات الهوية الجزائرية عبر قرن وثلث من الزمن، استخدم لذلك شتى أنواع الوسائل بغية الوصول إلى المسخ المنشود.
...لكن، قيض الله عز وجل من أبناء الجزائر من يحمل على عاتقه جهد التصدي لهذا التشويه، وكان من بين الذين عرفهم تاريخ الجزائر ناشطين للحفاظ على معالم الهوية الجزائرية العربية الإسلامية الأصيلة، ساعين لدحض كل ما كان يحيكه الاحتلال وأعوانه للقضاء على الشخصية الجزائرية.
... إنه الشيخ الإمام البشير الإبراهيمي.
عُرف على أنّـه أحد رواد الإصلاح في الجزائر، مؤسسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين رفقة صاحب دربه الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس، اجتمعا ذات يوم بعيدا عن أرض الجزائر المغتصبة، لكن كان ذلك من أجل الجزائر، سعيا لتوحيد الجهود وعملا على مقاومة مخططات فرنسا، بمختلف ما أُتيح من وسائل لذلك.
فإن كان يعسر على الباحث في الفكر الإصلاحي لشيوخ وعلماء الجمعية أن يفصل معالم فكرهم عن المبادئ الإصلاحية العامة للجمعية، لكن يمكن الحديث عن الرؤية الإصلاحية التي كان يتبناها الشيخ الإمام البشير الإبراهيمي في ظل نشاطه ضمن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من خلال ما كان يكتبه في مختلف جرائدها، ومن خلال المراسلات التي كانت تقوم بينه وبين من عرفهم، سواء داخل الجزائر أو خارجها في سعيه لتدويل قضية الجزائر، مثلما عُرف عضوا في الجمعية، عُرف مناضلا في حزب تحرير الجزائر بالقاهرة، سعيا منه في المساهمة من أجل أن تسترد الجزائر عافيتها، فكان نعم الرجل، مصلحا، ومدرسا، وإماما، وسياسيا.
البشير الإبراهيمي... الرجل المصلح.
ثلاث كليات كانت تسري سريان الدم في العروق في شخصية الإمام البشير الإبراهيمي، وما يفتأ يتكلم عنها في مختلف كتاباته: الإسلام دينا، والعربية لغة، والجزائر وطنا، فكان لا يلبث يدعو إلى هذه الكليات التي لا ينبغي أن تنفصل عن كل جزائري، آمن بقضية بلده، وسعى لفكها من أسر الاستعمار، وكان شعاره في ذلك " كن مسلما كما يريد منك القرآن وكفى..."، فغير مطلوب منك غير هذا، تتحلى بما أمر به القرآن، وجسده النبي e في حياته، فصدق قول الله فيه ) وإنك لعلى خلق عظيم(.
والدعوة الإصلاحية التي تبناها البشير الإبراهيمي ترتكز على علم بحال الجزائريين، وآمالهم وآلامهم، وتطلعاتهم نحو صباح جديد، تشرق فيه شمس الحرية عليهم، وكان هذا لب مبدأ جمعية العلماء المسلمين، وفي ذلك يقول الإبراهيمي:"... مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة فالمبدأ هو العلم والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان: تحرير العقول والأرواح وتحرير الأبدان والأوطان والأول أصل الثاني، فإذا لم تتحرر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية، والأوطان من الاحتلال متعذرا أو متعسرا، حتى إذا تم منه شيء اليوم، ضاع غدا لأنّـه بناء على غير أساس، والمتوهم ليس له أمل، فلا يُرجى منه عمل، لذلك بدأت جمعية العلماء من أول يوم نشأتها بتحرير العقول و الأرواح، تمهيدا للتحرير النهائي...". فسارت الجمعية على مبدئها حتى وصلت إلى نتائج عظيمة عظم ابن باديس والإبراهيمي ومن نحا نحوهما وتبع دربهما في إصلاح ما انخرم من قيم في المجتمع الجزائري.
وعَرفوا أن تمسك الجزائريين بالإسلام هو سبيل وحدتهم، ونهج تخلصهم من ليل الاستعمار الحالك، وما ذلك إلا لأن الأولين السابقين عرفوا قيمة الإسلام، فابتغوا العزة فيه، وسادوا الأمم سنينا وقرونا، فـ:" ...لو صدقت نسبة المسلمين إلى الإسلام، وأُشربوا في قلوبهم معانيه السامية ومثله العليا، واتخذوا من كتابه ميزانا و لسانه العربي ترجمانا، واتجهوا إلى هذا الكتاب الخالد بأذهان نقية من أوضار المصطلحات، وعقول صافية لم تعلق بها أكدار الفلسفات، لسعدوا به كما أراد الله، ولأسعدوا به البشر كما أمر الله، ولأصبح كل مسلم بالخير والصلاح سفيرا، ولكان المسلمون في أرض الله أعز نفرا وأكثر نفيرا، ولكان التقاء المسلم بالمسلم كالتقاء السالب بالموجب في صناعة الكهرباء ينتج النور والحرارة والقوة".
ويمكن إجمال معالم الفكر الإصلاحي للشيخ البشير الإبراهيمي فيما يلي:
1- الدعوة للتمسك بكتاب الله:
كانت أول دعوة يدعوا إليها الإبراهيمي، لأنّـه أيقن تمام اليقين منزلة القرآن، وعظمته، لأنه نبراس العقول، وهاديها إلى المجد في دنياها، وإلى الفلاح في أخراها، فلما علم الإبراهيمي هذه المنزلة، وأدرك أن بالقرآن سعادة الأمة، وأن شقاءها وهوانها في غيره، فكيف" ... يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟ أم كيف يتفرقون ويضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى؟ فلو أنهم اتبعوا القرآن لما سخر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان، ولكن الأولين آمنوا فأمنوا، واتبعوا فارتفعوا، ونحن فقد آمنا إيمانا معلولا، واتبعنا إتباعا مدخولا وكلٌ يجني عواقب ما زرع....
أما أن المسلمين الأولين سعدوا بالقرآن و اتباع الرسول فهذا ما لا مراء فيه، وهو الحقيقة العارية التي جلاها التاريخ على الناس من جميع الأجناس، وزكاها بشاهدين من آثار العلم ونتائج العقل فإن احتمل أن يجهل هذه الحقيقة جاهل فهم سواد المسلمين قبل غيرهم، وإن وقف باحث عند الظواهر السطحية وقال سعدوا بالاتحاد مثلا قلنا له: وما الذي وحدهم بعد ذلك التفرق الشنيع غير القرآن؟ أو قال قوم استيقظت فيهم عواطف الخير ونوازع الشرف حين ماتت في الأمم فسادوها وقادوها. قلنا له: نعم. ولكن ما الذي أيقظ فيهم تلك العواطف وتلك النوازع وما هم إلا ناس من الناس. بل قد كانوا قبل القرآن أضل الناس".
فالإمام البشير رحمه الله يؤكد على أن التمسك بالقرآن والسير على نور هديه هو الضمان للسعادة بنوعيها، وإن كل بُعْدٍ عنه، أو قصور في فهمه، أو فتور في العمل به، هي القاصمة التي لا تبقي ولا تذر من هذه الأمة، وهي في حاجة إليه أكبر من أي وقت مضى، فالسابقون أخذوا جزاءهم لما عاشوا بالقرآن، أما نحن فإننا لا زلنا نتخبط في تيه وبعد عن الرشاد، فالحق الذي لا محيد عنه هو العودة إلى نبع الصفاء، ونور الضياء.
ويبين الإمام حق القرآن علينا فيقول:"... يجب أن نتخذ الآيات المنبهة عليه فواتح في المدارسة وأن تتجاوب أصداؤها في جوانب نفوسنا حتى لا ندخل حرمه إلا بعد أن نكون عرفنا حقه، إنّـه لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عصرهم فيه أبعد أن تكون عن القرآن منهم في هذا العصر ولم يمض على الدعاة إلى الحق وقت عظمت فيه العهدة واستغلظ الميثاق مثل هذا الوقت ، وأنّـه لا مخرج لهم من هذه العهدة ولا تحلل من هذا الميثاق إلا بالدعوة إلى القرآن، فلا عجب ونحن نشعر بثقل هذه الأمانة من أن ترتفع أصواتنا بالدعوة إليه، وإنما العجب الذي لا عجب بعده أن نسكت أو نقصر، وإن من أحكم الوسائل لجذب الأمة إلى القرآن وصف القرآن وتشويق الناس إلى الإقبال عليه وتدبره وفهمه".
ثم يدعو الدعاة إلى الدعوة إلى القرآن بمثل ما دعا القرآن نفسُه، لأن أفضل منهج للدعوة إلى القرآن هو المنهج القرآني ذاته، فيقول:" ...وليسْلك الدعاة سبيلهم إلى نفوس الناس بهده الأوصاف- عدد أوصافا قبل هذا الكلام- الرائعة من هذه الآيات الجامعة فإن ذلك أدعى للتأثير والتأثر وأبلغ في باب التشويق من كل تبويب في الكلام وتحبير وتزويق".
وكثيرا ما تحدث الشيخ الإبراهيمي عن سبب انحسار و انهيار حضارة المسلمين لما ابتعدت عن القرآن، وابتغت المناهج البعيدة عن نهجه فحصل ما حصل من تكالب الأمم عليها:" إن الآفة الكبرى التي قضت على الحضارات وجعلت عاليها سافلها هي التفرق بين بناتها والمستحفظين عليها، وقد كان للمسلمين من بين الأمم القديمة والحديثة معتصم باذخ لو اعتصموا به لوقاهم من التفرق فوقى حضارتهم من الانهيار، وهو القرآن ودينه الإسلام نعمة خصوا بها دون الأمم.
كانت تعصف بهم من عواطف التفرق وتثور فيهم من طبائع الملك وغرائز المنافسة فيه، ما أقله كاف في تدمير الممالك وتتبيـر الحضارات فيرجعون إلى القرآن ويعتصمون بالإسلام، فيجدون فيهما الوزر الواقي، إلى أن داخلتهم الأعراق المدسوسة، ومازجتهم الجراثيم الغريبة وابتلوا بلقاح سوء، مما أفسد من قبلهم وكان من تأثير ذلك أنهم انتقلوا من التفرق الذي يعصم منه الدين إلى التفرق في الدين نفسه، وفي القرآن نفسه، ثم زهدوا في الدّين فلم تبق إلا الصور العملية بلا روح وزهدوا في القرآن إلا الألفاظ المتلـوة بلا نذير، حتى كانت عاقبة أمرها خسرا وذاقت بما صدت عن سبيل الله".
ثم بين لماذا حقق أسلافنا الخلافة على وجه البسيطة حينما عاشوا بالقرآن للقرآن، فقال:" ... إن أسلافنا قاموا بما شرط عليهم القرآن في قوله: )الذّين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر( فتحقق معهم وعد الله في القرآن:) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا(، فكانوا خلفاء الأرض يقيمون فيها الحق والعدل وينشرون فيها الخير والرحمة، ويُطهرونها من الشرك والوثنية ويحققون حكمة الله بإقامة سننه الكونية والشرعية، لا يراهم الله إلا حيث يرضيه أن يراهم، لأن مما أفادهم القرآن استجلاء العبر من قوله تعالى: ) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون(، وقوله تعالى: )هو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم(، وقوله تعالى: ) أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم(.
وكان هؤلاء السلف يعلمون لماذا أنزل القرآن؟؟ ويعلمون أنّـه كتاب الدهر ودستور الحياة وحجة الله الباقية إلى قيام الساعة، وأنّـه واف كل الوفاء بإسعاد البشر في الحياتين وإن عدم فهمه وعدم العمل به وعدم تحكيمه، كل ذلك تعطيل له ففهموه أولا، وحكموه في أهوائهم ونزعاتهم فاستأصل باطلها ولطف من نزواتها، ورجعوا إليه في فهم الحقائق الغامضة في الحياة والدقائق المشكلة في الكون والأخلاق التي يجب أن يتعايش بها الناس، فرجعوا إلى معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
ويضيف في موضع آخر: " تدبُر القرآن وإتباعُه هما فرق ما بين أول الأمة وآخرها، وإنه لفرق هائل. فعدم التدبر أفقدنا العلم، وعدم الإتباع أفقدنا العمل، وإنّنا لا ننتعش من هذه الكبوة إلا بالرجوع إلى فهم القرآن وإتباعه ولا نفلح حتى نؤمن ونعمل الصالحات:) فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون(.
وتتعالى نظرة البشير إلى القرآن وتسمو، وتهفوا به نفسه وترنو، لأنه"... إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر ولا يهضم له حق على أساس من الحب والعدل والإحسان، والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية، والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، والجسم لا يضيع له مطلب هذا هو القرآن الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه...فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير".
فهذه دعوة الشيخ البشير الإبراهيمي إلى القرآن، وإلى التمسك به، وفهمه كما فهمه السلف، والعمل به كما عملوا، وتحكيمه في النفوس كما حكموا، وجعل المشارب والأهواء إليه تابعة، كما فعلوا، فلو فعلنا ذلك لكنا به أعزة في أنفسنا وأئمة لغيرنا.
2- الدعوة للتمسك بسنة النبي e:
الدعوة إلى القرآن لا تنفصل عنها دعوة من الإبراهيمي للتمسك بسنة المصطفى e، لأنها المحجة التي ترك عليها هذه الأمة، لا تزيع ولا تضل إن هي عضّت عليها بالنواجذ، وهي أكبر بيان على حبـه e، وليس بالتفنن في ابتداع طقوس توحي للسامع أو الناظر، شدة التعلق به e، ويشدد شيخنا النكير على الذين يتفننون في البدع ليلة مولده وبين أن:" .. الحب الصحيح لمحمد e فهو الذي يدع عن البدع، ويحمله على الاقتداء الصحيح، كما كان السلف يحبونه، فيحيون سنته، ويذودون عن شريعته ودينه، من غير أن يقيموا له الموالد وينفقوا فيها الأموال الطائلة التي تفتقر المصالح العامة إلى القليل منها فلا تجده".
وبين أن الطريقة الصحيحة للتعبير عن حبه e قائلا:" ...ونحن نحتفل بالمولد على طريقة غير تلك الطريقة، وبأسلوب غير ذلك الأسلوب، فنجلي فيه السيرة النبوية، والأخلاق المحمدية، ونكشف عما فيها من السر، ومالها من الأثر في إصلاحها إذا اتبعناها، وفي هلاكنا إذا أعرضنا عنها، ففي احتفالاتنا تجديد للصلة بنبينا في الجهات التي هو بها نبينا ونحن فيها أمته".
ويعتبر الشيخ البشير الإبراهيمي أن التمسك بسنة محمد e عمل بالقرآن، لأن محمدا eكان قرآنا يمشي بين الناس، فمن شـدَّ على سنّة المصطفى e ودعا إليها إنّما هو داع للقرآن، عامل بما جاء فيه، فيقول:" أيها الإخوان: إنّ نبيّنا منا لقريب لو جعلنا الصلة بيننا وبينه حبل الله القرآن، فقد تركه فينا ليكون النور الممتد بيننا وبينه، وقد كان خُلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويقف عند حدوده ويصنع أفعاله وتُروكه من أوامره ونواهيه، وينحت من معدنه تلك الآداب التي ربى بها نفسه وراض عليها أصحابه، ثم تركها كلمة باقية فينا وحجة بالغة لنا أو علينا، وقد شرفنا e تشريفا يبقى على الدهر، وشهد لنا شهادة نتيه بها على الغابرين إذ قال لأصحابه: " أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي".
ففي كلامه دعوة للتأسي به e والإقتداء بسنته والعمل بها، والدعوة إليها، لأنها المرجع الإلهي المعصوم، التي بها تحيى النفوس من سباتها، والذلة التي ضربت عليها من شدة جهلها، بدستورها في هذه الحياة.
كما أن الإقتداء به e لا يعني المغالاة في وصفه، ولئن كان هذا من حبه e، لكن دون إغفال ما تصفو به النفس من كريم خلقه، وصفاء سريرته، وفي هذا يقول:"... ألستم ترون أن أكثر المؤلفين في السير يصرفون اهتمامهم إلى الجهات التي لا محل فيها للاقتداء الذي يزكي النفس – أكثر مما يصرفونه إلى الجهات التي تزكي النفس وتطبعها على الخلال النبوية، يهتمون بالمواطن السطحية البشرية مثل كيفية لبسه وأكله وشربه ونومه وملابسة أهله، ويغفلون المكامن الروحية الملكية مثل تعلقه بالله ومراقبته له وتأديته الأمانة الشاقة وصبره وشجاعته وتربيته لأصحابه، وتدريبهم على جهاد أنفسهم حتى تكمل، وعلى السمع والطاعة للحق وفي الحق، وعلى التعاون والتناصح والتحابب والتآخي والاتحاد...".
فإذا حققت الأمة التمسك والتأسي بسيرته وسنته e، فهي قد خطت الخطوة الثانية بعد العض على القرآن نحو تحقيق الشهود الحضاري لها بين سائر الأمم.
3- الاقتداء بسير العلماء والصالحين:
ليس أفضل بعد اتباع الرسول الأمين من اتباع العلماء الصالحين الربانيين، الذين عاشوا بهذا الدّين وله، فكانوا النور الذي يسطع في ظلام الجهل، والبعد عن الهدي الإلهي، فكانوا بحق يجددون أمر هذه الأمة، كلما بدت بوادر خُفوت نورها الذي جعله الله عز وجل النبراس لغيرها من الأمم، تهتدي بهدي القرآن، وبهدي نبيها الأعظم e.
فأيقن الشيخ البشير الإبراهيمي ذلك فدعا الأمة المسلمة عموما، والأمة الجزائرية خصوصا، للاقتداء بسير الصالحين والعلماء، للخروج مما تعانيه من استعباد وضياع بلاد، وهلاك مال، وتشرد ولدان، فخطب قائلا:"... إنّ من البر لأنفسنا أن نذكر مع كل مشارقة عظماءنا ومصلحينا الذّين كان لهم أثر مشرق في تاريخنا، وأن نحيي ذكرياتهم لنحيا بها، ونأخذ العبر منها، ونجعلها دليلنا إذا أظلمت علينا السبل، وقدوتنا إذا أوعزنا الإمام القائد....".
لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، في دنياهم، وعملوا لأخراهم بتعمير أولاهم، فقال فيهم البشير:"... لقد صدق أولئك العلماء ما عاهدوا الله عليه، وفهموا الجهاد الواسع فجاهدوا في جميع ميادينه، فوضع الله القبول في كلامهم عند الخاصة والعامة، وإن القبول جزاء من الله على الإخلاص يعجِّله لعباده المخلصين، وهو السرّ الإلهي في نفع العالم والانتفاع به، وهو السائق الذي يدعّ النفوس المدبرة عن الحق إلى الإقبال عليه، ونفوذ الرأي وقبول الكلام من العالم الديني الذي لا يملك إلا السلاح الروحي...".
فوضع بهذا أساسا آخر ينضاف إلى الأسس السابقة في طريق الإصلاح الذي انتهجه الشيخ البشير الإبراهيمي ليعبر عن عمق وأصالة الانتماء إلى هذه الأمة.
4- التمسك باللسان العربي:
يولي الشيخ البشير الإبراهيمي اللغة العربية اهتماما منقطع النظير، فقد عرف رحمه الله بشدة حبه لللغة العربية، فبان ذلك في عمق الكتابة التي يكتبها، وأصالة الخطاب الذي يلقيه، ولما أيقن أن اللغة هي أساس الهوية، وعنصر الانتماء لهذه الأمة، وأن فوات اللغة موت للأمة، قال: " إن هذه الأمة تعتقد وتموت على اعتقادها أن لغتها جزء من كيانها السياسي والديني وشرط في بقائها، وقد التقى على الكفاح في سبيلها الدين والسياسة، فلم يختلف لهما فيه رأي، ولم يفترق لهما قصد..".
ويرى الشيخ البشير الإبراهيمي أن لغة الأمة هي ترجمان أفكارها وخزانة أسرارها، و أن الأمة الجزائرية ترى في اللغة العربية زيادة على ذلك القدر المشترك، أنها حافظة دينها، ومصححة عقائدها، ومدونة أحكاهما، وأنها صلة بينها وبين ربها، فهي لذلك عليها يد الضنانة، وما تود أن تبدل بها لغات الدنيا، وإن زخرت بالآداب وغاضت بالمعارف، وسهلت سبل الحياة وكشفت عن مكنونات العلم فإن أخذت بشيء من تلك اللغات فذلك وسيلة إلى الكمال، في أسباب الحياة الدنيا، أما الكمال الروحاني والتمام الإنساني، فإنها لا تنشده ولا تجده إلا في لغتها التي تكَوَّن منها تسلسلها الفكري والعقلي، وهي لغة العرب.
ولا تعتبر اللغة العربية في رأي الإبراهيمي لغة جامدة غير قادرة على استيعاب ما وصلت إليه مختلف الحضارات، فهو يرى فيها قالبا يتسع لأكثر من ذلك، كيف لا؟ وهي من حوت تاريخ وحضارة الإنسانية يوم كانت اللغات الأخرى في حالة جمود ونسيان، ويؤكد ذلك بقوله:" ...وقد كانت هذه اللغة ترجمانا صادقا لكثير من الحضارات المتعاقبة التي شادها العرب بجزيرتهم، وفي أوضاع هذه اللغة إلى الآن من آثار تلك الحضارات بقايا وعليها من رونقها سمات، وفي هذه اللغة من المزايا التي يعز نظيرها في لغات البشر الاتساع في التعبير عن الوجدانيات، والوجدان أساس الحضارات والعلوم كلها". ويضيف في السياق نفسه:" أيها الإخوان: لو لم يكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن لغة متسعة الآفاق غنية بالمفردات والتراكيب، لما استطاع أسلافكم أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب فارس والهند، وَلَألزمَتْهم الحاجة إلى تلك العلوم تعليم تلك اللغات، ولو فعلوا لأصبحوا عربا بعقول فارسية وأدمغة يونانية، ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمته... لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون".
وما هذا الفضل الذي تحوزه اللغة العربية إلا أنها نقلت يوما العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وإن المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية ويوفونها حقها من التمجيد والاحترام، ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم.
ولما حاول الفرنسي إحلال البربرية مكان اللغة العربية وذلك تفريقا للأمة الجزائرية وسعيا منه لدس الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، دافع الإبراهيمي على ترسيخ عروبة الجزائر ماضيا وحاضرا، في الكثير من المحافل أينما حل، وحيثما ارتحل فيقول:" اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة ولا دخيلة، بل هي في دارها، وبين حماتها ، وأنصارها،وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل... ".
وحيث أن اللغة العربية هي لغة الإسلام الرسمية، ومن ثم فهي لغة المسلمين الدينية الرسمية، ولهذه اللغة على الأمة الجزائرية حقان أكيدان- كما يرى الشيخ البشير الإبراهيمي- كل منهما يقتضي وجوب تعلمها، فكيف إذا اجتمعا:
- حق من حيث أنها لغة دين الأمة، بحكم أن الأمة مسلمة.
- وحق أنها لغة جنسها، بحكم أن الأمة عربية الجنس، ففي المحافظة عليها محافظة على جنسية ودين معا.
5- العمل على وحدة الأمة:
وحدة الأمة الجزائرية واجتماعها على كلمة حق واحدة، هي سبيل التحرر من كل ما قد يأسرها من جهل أو استعمار، فنادى البشير في الشعب الجزائري أن اتحدوا تسلموا من كل نكير، كتب تحت عنوان "وحدة الدين واللسان"، قائلا:" الأمة الجزائرية هي قطعة من المجموعة الإسلامية العظمى من جهة الدين، وهي ثلة من المجموعة العربية من حيث اللغة التي هي لسان ذلك الدين.
والأمم الإسلامية على اختلاف أجناسها ولغاتها ما برحت تفاخر أمم الأرض بذلك الدين وهذا اللسان، وإن كان بعضها ضعيف الحظ فيهما أو في أحدهما.
تفاخر بالإسلام لأنّـه في حقيقته الأصلية مجمع للفضائل الإنسانية، وتفاخر باللسان العربي لأنّـه ترجمان هذا الدين وكتابه المبين، وهو بعد ذلك مستودع الحكم ولسان الشعور والخيال.
فالأمم الإسلامية بهذا الدين وبهذا اللسان، وحدة متماسكة الأجزاء يأبى لها الله أن تتفرق وإن كثرت فيها دواعي التفرق، ويأبى لها دينها – وهو دين التوحيد- إلا أن تكون موحدة، وتأبى لها الفضائل الإسلامية إلا أن تكون مظهرا للفصيلة في هذا العالم الإنساني، فإذا كان في تلك الأمم من يضار الفضيلة أو يخونها في اسمها فما ذلك من الإسلام في شيء، وإنّما هو انحراف مزاج سببه سوء فهم، أو غلبة وهم، أو دعوى طباع أو هو تقليد واتباع...".
ويرجع سبب تفرق الأمة إلى العصبية التي نشأت بين أفراد الجزائريين، مهما اختلفت أشكالها وأنواعها، إن للجنس أو القبيلة أو الأصول، أو المذهب، فحذر منها، لأن ما تجره على وحدة الأمة من ويلات في وقت ضئيل قد تعجز عن لم شمله السنون، فيقول:" ...ثم عاد المسلمين من ذكرى تلك الهنات عيد وطاف بهم طائف من العصبية التي محاها الإسلام لأول ظهوره، وإن العصبية لأصل البلاء كله، فنشأت فيهم العصبية إلى الجنس وإن لم يعمر من التاريخ صفحة، والعصبية إلى الرأي وإن لم يتعلق به من السداد نفحة، والعصبية للآباء وإن لم يكن لهم في الصالحات أثر، والتعصب للأشياخ حتى فيما زاغ فيه الفكر وعثر.
لهذه العصبيات، صارت الأمة الواحدة أمما وصارت السبيل الواحدة سبلاً إذ نشأت عن العصبيات آثارها اللازمة لها فساءت الحال وتراخت حبال الأخوة الإسلامية، وضعف أثر الوازع الديني في النفوس...".
فخلاصة وحدة الدين ووحدة اللسان، ووحدة القبلة، هي عوامل الإتحاد بيننا، كمسلمين أولا، وكعرب ثانيا، وكجزائريين ثالثا، وذاك هو شعار جمعية العلماء.
6- العمل على نشر العلم:
آمن الشيخ البشير الإبراهيمي إيمانا راسخا بأن العلم هو السبيل لتخليص الجزائر مما تعاني منه من استضعاف وتبعية وهوان، فراح يدعو في كل مناسبة ومن كل منبر يعتليه إلى الجد في تحصيل العلم، لأننا أعطينا المثل في الجهل والتخلف، في حين رسخت الأمم الأخرى أقدامها فيه، فتحكمت في مقاليد الأمور، وساستنا بجهلنا وبعلمها.
ويؤكد الإبراهيمي على أن العلم لازم من لوازم التحضر والرقي، فيقول:" وأما اللازم الثالث وهو العلم بمعناه العام، فالحقيقة الواقعة أننا لا زلنا فيه في مؤخرة الأمم، وغاية ما نبني عليه الأساس في هذا الباب هو هذا الشعور الذي نشاهده في جميع طبقاتنا وأوساطنا بلزوم العلم، وهذه الرغبة المتأججة في صدور الناشئين منا للعلم".
لأن العلم أساس حياة الأمم، إن قامت عليه تحيا، وإن تخلت عنه طواها النسيان، كما بادت أمم لم يحفظ لها التاريخ اسما ولا رسما، فيقول:" إن الأمم الحية في وقتنا هذا ما حييت إلا بالعلم الاختباري التطبيقي وأساس هذا العلم وإن علا القراءة والكتابة".
فبما أن حياة الأمم بالعلم، فإن أعلنتها حربا شعواء لا نهاية لها على الأمية وأعداء العلم، الذين يتقوتون بجهل الجاهلين،و أشباه المتعلمين، فكان يدعو كل من له القدرة على المساهمة في نشر العلم والإتيان على الأمية للعمل سويا بغية تعليم الناس ما ينفعهم، وعاب على الذين يفرطون في هذا الواجب الوقتي، في حين بلغت نسبة القضاء على الأمية لدى الأمم الأخرى نتائج يذهل عنها القاعدون، وفي ذلك يقول:" ...فأين نسبتنا من هؤلاء؟ وأين مساعينا من مساعيهم؟ وأين خطباؤنا؟ لم لا يحملون على الأمية حملة شعواء؟ ولم لا يعطونها من الاهتمام ما أعطوه لقرن الثور وفضائل الشهور.؟ وأين شعراؤنا؟ لم لا يشاركون في حملة منظمة ويدعون إليها بقصائدهم المثيرة المحركة؟ وأين علماؤنا الذين برأهم الله من داء الأمية؟ لماذا لا يسعون في تطبيب غيرهم منها؟ أم هم يريدون أن تبقى الأمة أمية ليبقوا سادات ومشائخ، فإن كان هذا مرادهم فأنبئوهم عني أنّـه ليس من الشرف السيادة على طغام والرعاية على أغنام، وأين أغنياؤنا؟ يخرجون الأموال ويشيدون المدارس ويقفون في مكافحة هذا الداء الفتاك موقف الأبطال".
والسبيل للقضاء على الأمية والجهل كما يرى الإبراهيمي هو تشييد المدارس، وتعميرها بطلاب العلم، ليحصل لهم وبهم النفع لهذه الأمة، فـ" ...حياة الأمم في هذا العصر بالمدارس، وما في هذا شك، إلا في قلوب ران عليها الجهل، وغان عليها الفساد، ونفوس ختم عليها الضلال، وضرب على مشاعرها المسخ، الحياة بالعلم، والمدرسة منبع العلم، ومشرع العرفان، وطريق الهداية إلى الحياة الشريفة، فمن طلب هذا
تاريخ النشر : 12-10-2009
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.