آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الفكر السياسي  .  الدين و الدولة

التراث السياسي    |    الحقوق و الحريات    |    الإسلام السياسي

  •     

الصراطات المستقيمة: مخرجا من الصراع الديني مدخلا إلى الليبرالية

محمد أبو الخير السيد


عنوان الكتاب : الصراطات المستقيمة: قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية

المؤلف : عبد الكريم سروش

الناشر : مؤسسة الانتشار العربي

المدينة : بيروت

السنة : 2009

صفحات : 327

 

بجرأته المعهودة ولغته الممزوجة بشعر جلال الدين الرومي وجمعه بين موروث الفكر الإسلامي ومستجد الفكر الغربي يواصل المفكر الإيراني عبد الكريم سروش[1] تنظيره في حقل المعرفة الدينية -الذي اشتهر من خلال "نظرية القبض و البسط في الشريعة"- في كتابه الجديد "الصراطات المستقيمة . . قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية"، ويمتاز جهد الدكتور سروش بشيء من الخصوصية لكونه يتحرر من قيد مذهبيته (الشيعية) لينفتح على فضاء التجربة الإنسانية بتنوعها، إضافة لتناوله القضايا الدينية لا بوصفه رجل دين مختصاً، بل بوصفه متديناً من خارج المؤسسة الدينية يرفض أن تُحتَكَر السلطة الدينية أو تُحصر في طبقة أو فئة.

كان الدكتور سروش قد خصص كتابه الأول "نظرية القبض والبسط في الشريعة" لمعالجة ما يسميه إشكالية الثابت والمتغير في الفكر الإسلامي، ففرَّق بين "الدين"بوصفه ثابتاً متمثلاً في الوحي وبين "المعرفة الدينية" النسبية والمتغيرة والتي "تنقبض وتنبسط" تبعاً لما يجري في حقول المعرفة الأخرى من تقدُّم أو تأخُّر، فَنَصُّ الوحي ساكتٌ لا يتكلم إلا إذا استنطقناه بأدواتنا النسبية، ولا يمكن التسوية بين نصٍّ متعالٍ وبين قارئ مرتهَن لنسبيته في كل شيء؛ مما يعني رفع القدسية عن كل ما سوى الوحي، والمطالبة بقراءة جديدة له تستجيب لمتطلبات العصر وتسعى لحل إشكالاته، وقد أثار هذا الكتاب – منذ أن كان مقالات متفرقة - موجة كبيرة من النقد داخل المؤسسة الدينية في إيران كما حشد له –في الوقت نفسه- كثيراً من المؤيدين والأنصار بين مثقفين وغيرهم

أما كتابه الجديد "الصراطات المستقيمة"، فهو وإن بدا للوهلة الأولى مجموعة من سبع مقالات ومحاضرات قُدِّمت مفرَّقةً زماناً ومكاناً إلا أنه في الحصيلة محاولة لتأصيل التعددية وشرعنتها دينيةً كانت أو اجتماعيةً وسياسيةً والعمل على الإفادة منها، وسواء كان سروش يهدف لتحقيق التعددية السياسية والاجتماعية من خلال إقرار التعددية الدينية أو بالعكس فإنه قد انطلق في رؤيته هذه من الواقع كما هو لا كما ينبغي أن يكون، بعبارة أخرى فإنه أنشأ رؤية "معللةً" أكثر منها "مدلَّلَة" كما يصطلح هو في كتابه، وامتزج جدله الكلامي الفلسفي فيه بنظرة صوفية عميقة عن الله والكون والإنسان مستقاة من مأثورات الشعر العرفاني.

 

البلورالية . . عندما تعكس الحقيقة الواحدة ألوانها المتعددة

في المقالة الأولى من الكتاب يبني الدكتور سروش التعددية الدينية على ركيزتين أساسيتين هما: "تنوع الأفهام في تعاملها مع المتن الديني" و: "التنوع في فهم التجارب الدينية"، ويرى سروش في هاتين الركيزتين أهم سببين للتعددية الدينية[2].

وتفصيلاً فإن المتن (النص) الديني بطبيعته قابل للقراءة من زوايا عدة وبمستويات عدة، الأمر الذي يستلزم اختلاف الفهوم الحاصلة عنه وتنوعها باختلاف قرَّاء النص زماناً ومكاناً وثقافة، وبما أن قارئ المتن الديني قد صاغ فهمه للنص بحسب ما لديه من أدوات ممكنة فليس لأحدٍ مصادرة قراءته أو إلغاؤها، وعلى هذا فإنه "من غير الممكن الفصل بين الدين وتفاسيره . . فلا يتمثل الدين في مذهبٍِ أو فئة، بل الدين هو مجموع تفاسيره ومذاهبه" [3]، وهذا ما يؤدي للقول بأن "تعدد التفاسير للمتن الديني يمثل وجوهاً متعددة للحقيقة" [4]، ويستعمل سروش في هذا المقام المصطلح الإنكليزي "Pluralism" الذي يُقابَل في العربية بـ "التعددية"، وإن كان مترجم الكتاب قد نقل المصطلح كما هو من غير تعريب فاستعمل لفظ "البلورالية".

أما تنوع فهم وتفسير التجربة الروحية - وهي تجربة اتصال الإنسان بعالَم الغيب بإطلاقه وسموه ولا ماديته، وتجلي الله تعالى لكل إنسان على نحوٍ ما بحسب مقامه ووعيه، وهذه التجربة الروحية مرت بمراحل متعاقبة وأشكال متنوعة عبر التاريخ والأمم والديانات، وتتجلى في مظاهر دينية وشعائرية فردية أو جماعية شتى؛ ويمكن تسميتها بـ "وحي القلب" [5] الذي هو على مراتب، وأعلاها وحي الأنبياء وتجاربهم[6]- فإن "إحدى وظائف الأنبياء هي تعليمنا كيفية تفسير تجاربنا الباطنية" [7]، وهم بطبيعة الحال "كانوا يعيشون في مراتب مختلفة" [8]، ويقدمون - بحسب ظرفهم التاريخي وسياقهم المعرفي - نماذج متنوعة في الرقي الروحي وتحقيق الكمال الإنساني واتصال الإنسان بعالَم الغيب، وقد بقي أثرهم بل واتسع عبر أتباعهم، وبات من غير المعقول حصر الناس في ديانة واحدة، وإذا كان أول من غرس بذور التعددية في العالم هو الله كما أوردنا آنفاً فإن كل نبي قد عزز من هذه التعددية بوصفه نبياً مخصوصاً بقومه[9]، مما يسوِّغ في الحصيلة القبولَ برؤية الفيلسوف (المسيحي الموحِّد) جون هيك للأديان المختلفة بأنها عبارة عن "انعكاسات وتجليات لحقيقة الألوهية الواحدة" [10].

والواقع أن ما اعتبره سروش أهم سببين للتعددية الدينية إنما هما في الحقيقة أهم تجليين أو مَظهَرَين للتعددية الدينية وليسا سببين لها، أما الأسباب فقد ذكرها بعدُ على سبيل التبعية وأوصلها إلى ثمانية، لكنّ بعضها أيضاً لا يصلح أن يُعدَّ سبباً بقدر ما هو تأويلٌ صوفيٌّ لظاهرة التعدد مستوحى من أشعار جلال الدين الرومي.

وأقوى ما ذكره من الأسباب التي أوجدت التعددية الدينية وعززتها هو قصور المعرفة الإنسانية وتدرجها وعجزها عن الإحاطة بالواقع الواسع والمعقَّد من جميع جوانبه، وهي في شقٍّ منها معرفةٌ دينيةٌ ولابد أن التمحيص والتدقيق فيها أصعب منه في المجالات المعرفية الأخرى، وقد سبق للمؤلف تفصيل جزئيات هذه المسألة ومناقشتها في كتابه "نظرية القبض والبسط"، والسبب الثاني أصالة الفردية والتوحد لدى الإنسان حتى كأن "كل إنسان يمثل عالَماً قائماً بنفسه"[11]، مما يوجب الاختلاف في التجربة الروحية وتفسيرها لزوماً مثلما يوجب الاختلاف في فهم المتن الديني، وسببٌ ثالثٌ يصطلح عليه سروش بـ "عدم الخلوص" في أمور العالم، ويقصد به تداخل الأشياء في هذا العالم وامتزاجها ببعضها لدرجةٍ يصعب فيها فصل الشيء وتخليصه مما عداه، ومثلها المفاهيمُ والمعاني، فلا يوجد حق خالص أو باطل خالص ولا مصلحة خالصة ولا مفسدة خالصة، بل يمتزجان ويتداخلان، وعدم الخلوص هذا ليس في مجال التدين فقط بل هو موجود أيضاً في اللغات والأعراق وحتى في الطبيعة "التي لا نجد فيها إلى الآن قانوناً علمياً صادقاً ودقيقاً مئة في المئة"[12]، وربما جاز لنا أن نعد هذا السبب فرعاً من السبب الأول الذي هو قصور المعرفة الإنسانية، ثم يستعين سروش – في بيان سبب رابع للتعددية - باللازم المنطقي لاسم الله "الهادي" ليصل إلى أصالة الهداية الإلهية وعمومها وعدم جواز حصر الهداية بفئة قليلة من المتدينين – في أي دين كانوا – ووسم بقية الناس بالضلال، وإلا فستكون جهود جميع الأنبياء قد باءت بالفشل إلا نزراً يسيراً جداً منها، وستكون إرادة الشيطان في الإغواء غالبة على إرادة الخالق في هداية عباده[13]، و يفقد اسم "الهادي" دلالته.

 

التدين المدلل والتدين المعلل

إلى هذا الحد يكتمل التصور الإجمالي الذي يطرحه الدكتور سروش عن التعددية الدينية، لينفتح باب الإشكالات والمآخذ التي ترِد عليه، وخروجاً منها يؤكد في المقالة الثانية على نسبية الهداية وأنها أنواع ودرجات[14]، وبهذا يكون كل فرد مهتدياً بالنسبة إلى من هو أضل منه، وضالاً بالنسبة إلى من هو أهدى منه.

ثم ينحو سروش باتجاه تمييز معنيين للكفر أحدهما "فقهي" والآخر "واقعي" [15] ليغدو تفسير الكفر لا بمعنى المخالفة للعقيدة، بل بمعنى العناد للحق وتكذيبه بعد معرفته[16]، كما يؤكد على أن الاختلاف بين الأديان لا ينبغي أن يُنظَر إليه على أنه اختلاف تضاد بل اختلاف تنوع ودرجة، فإذا انتقلنا بهذا التصور إلى مجال التدين سلوكاً يصبح المطلوب من المتدين "ليس إخراج الآخرين من اللعبة، بل على العكس: التنافس معهم على أداءٍ أفضل"[17]، وبعبارة أوضح:"لا ينبغي أن نستند في معيار التدين الحق إلى مجموعة من المعتقدات أو الشعائر أو التعاليم الكلامية أو الفقهية، بل لا بد من النظر إلى العمل الصالح والأخلاق الحسنة على أنها أفضل دلالة على التدين مما سواها"[18]، وهكذا تخرج المسألة من الاستقطاب الحاد بين الحق والباطل أو الهداية والضلال إلى معادلة الحسَن والأحسن.

والإشكالية الأكبر من كل ما سبق تتمثل (إبيستيمولوجياً) فيما يسميه سروش بـ "الحقانية" وتمثل مفتاحاً مهماً لفهم التعددية، وتُعنى بالإجابة عن سؤال كيفية معرفتنا للحق وتمييزنا له من الباطل، وينطلق الدكتور سروش في الإجابة من رأيه في نظرية المعرفة، فيرى بأن المعرفة في مرحلة سابقة كانت تعول على الدليل (النظري المجرد) أكثر مما تعول على العوامل والأسباب، فهي:"معرفة مدلَّلة"، لكنها في مرحلة متأخرة راحت ترفع من قيمة التجربة وتهتم بالعوامل والأسباب أكثر مما تعتمد على الدليل النظري، وهذه:"معرفة معلَّلة"، ومنذ القرن الثامن عشر أخذت المعرفة المعللة تأخذ مكان الصدارة على حساب المعرفة المدللة، لأن الانطلاق من الاستدلال النظري والتركيز عليه وحده حجَبَنا عن رؤية الواقع كما هو بعوامله وأسبابه، وأوصلنا في الوقت نفسه إلى ما يسمى في علم الكلام بـ "تكافؤ الأدلة"، وهنا تظهر أهمية الأسباب والعلل لتأخذ دورها كمرجحات لما تكافأ من الأدلة، وبالاستطراد في هذا المسألة مع التمييز بين نوعي المعرفة نصل إلى "تدينٌ معلَّل" وآخر "مدلَّل"، فالتدين المعلل ناشئٌ بحسب الظروف والبيئة والعوامل المحيطة، وهو الغالب على المتدينين من أي دين كانوا، وهم "العوام"باصطلاح المتكلمين، أما التدين المدلل فهو المستند إلى البراهين والحجج، وهو شأن "المحققين" الذين هم قلة في المتدينين بطبيعة الحال، ورغم أهمية بناء التدين على الدليل لا على مجرد ما تلقّاه المرء في تنشئته، فإن التكليف به ومطالبة الناس به هو من قبيل "التكليف بما لا يطاق"، وبناءً على هذا فإننا إذا قبلنا بنجاة العوام في دينٍ ما لعجزهم عن "التدليل و التحقيق"، فما الفرق بين عوام المسلمين وعوام أي دين آخر؟ وما المانع من القول بنجاة العوام الآخرين في باقي الديانات

يدرك الدكتور سروش صعوبة طرح فكرته أو مناقشتها من داخل الدين، ويؤكد على ضرورة النظر إليها "من خارج الدين"[19]، و لهذا يقلُّ بل يندر اعتماده على النص الديني في تأصيل "البلورالية" وشرعنتها - رغم إمكانية تحقيق شيء كثير من ذلك - ويبقى معتمداً على البرهنة الفلسفية أو "الكلامية" لفكرته، لكنه مع ذلك يفرد المقالة الرابعة: "الفهم المتين للمتن" ليؤكد على أهمية الانفتاح على النص الديني وقراءته حاملين في أذهاننا الانسجام مع روح العصر وفلسفته وعلومه الجديدة[20]، فهي وإن كانت أسبقيات ذهنية في التفسير والتعاطي مع النص إلا أنها أولى بالاعتبار من أسبقيات من يعيش خارج هذا العصر من الماضين، ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يدعي "بطوباويةٍ ومثاليةٍ"[21] الموضوعية والحياد والتجرد من الأسبقيات في قراءة النص، هذا مع التمييز الضروري بين قدسية النص الديني وبين فهمه النسبي والمتغير[22].

 

الدين والليبرالية والأمل

يبدأ الدكتور سروش بعدئذٍ التمهيد للتعددية الاجتماعية والسياسية في المقالة الخامسة "خدمات وحسنات الدين" فيركز على أهمية الحاجة القلبية والمعنوية التي يتكفل الدين بتلبيتها، ودوره في إثراء التجربة الروحية للفرد، وتوثيق صلته بعالَم الغيب علماً وعملاً، فهذه – بنظره - أهم وأعظم الخدمات التي يسديها الدين للإنسان، ثم تأتي في الدرجة الثانية الحاجة الأخلاقية، فالدين داعم ومؤيد لها ولكنه غير منشئ لها، لأن العقل – خلافاً للأشاعرة – يمكنه إدراك الحسن والقبح دون وسيط ديني، و" الأخلاق مستقلة عن الدين . . وتمثل ركيزةً (قبْليةً) له"[23]، أما الفقه وأحكامه فهو – في ذاته - قانون يهتم بسلوكيات فردية واجتماعية للإنسان لا أكثر، وليس له سوى بُعْدٍ "حقوقي"،كما ليس من شأنه تناول قضايا المجتمع والاقتصاد والسياسة التي هي مسائل ومشاكل علمية لا فقهية، وحلها بيد العلم لا بيد الفقه[24].

ومن هنا يفتح الباب على مصراعيه في المقالة السادسة للحديث عن الحاجة إلى الليبرالية رافضاً إقحام الدين في السياسة ناهيك بـ"الاستبداد الديني"، ومفسراً ما جاء في السيرة النبوية من تشريعات دنيوية بكونه عرضياً طارئاً وليس من صلب الدين، وأنّه على كل الأحوال خاضع لسياقه التاريخي والثقافي وغير قابل للمد باتجاه العصر الحديث[25]، وفي استعراضه لـ"أضلاع الليبرالية الثلاثة . . الاقتصادية والسياسية والمعرفية" يحتفي بـ"التحرر" الذي حققته الليبرالية لشعوب أوربا وما بَنَتْه لهم من "دولة الرفاه"[26]، ثم يعرض بعد ذلك الفرق الجوهري بين بنية الخطاب الديني وبين بنية الخطاب الليبرالي ليصل إلى أن "الليبرالية تتجه إلى التصالح مع الدين الحقيقي غير الرسمي بمقدار ما تتقاطع وتتعارض مع الدين الرسمي الإجباري" [27]، وهنا تشتد الحاجة إلى قراءة ليبرالية للدين تفصل ذاتي الدين عن عرَضيِّه، وتُساءِل نصوص الدين عن حاجاتها المعاصرة بدلاً من الارتهان للموروث، كما تقر بنسبية الفهم وتاريخيته، وتتخلى عن سلطة الإكراه على الدين لتدع الناس يختارون مسارهم الدنيوي ومصيرهم الأخروي، فهذه القراءة الليبرالية للدين بنظر سروش هي "الطريق الوحيد لحفظ سلامة الفكر الديني في العالم المعاصر"[28].

ويبدو لجوء سروش إلى الليبرالية وحديثه عنها كملاذ –كما يعنون المقالة السادسة:"الخلاص من اليقين واليقين بالخلاص" أقرب إلى تبني حلٍّ جاهز منه إلى التنظير لحلٍّ يراعي الخصوصية، ولهذا نرى واحداً من كبار الفلاسفة الإيرانيين المعاصرين، وهو سيد حسين نصر[29] يعيب على سروش وينتقد منهجه ويشبهه بـ "مثقفي الدرجة الثانية الغربيين الذين لا يعرفون الإسلام ولا الغرب، وأن جهود هؤلاء المصلحين الإسلاميين الفكرية التي ترمي إلى التوفيق ما بين الإسلام والحداثة لا تعني شيئاً آخر سوى تفريغ الإسلام من مضمونه الأساسي . . بينما المطلوب إيجاد الملائمة والانسجام للحداثة مع الإسلام وليس العكس"[30].

ويختم الدكتور سروش كتابه في المقالة الأخيرة: "الإيمان والأمل" بالحديث عن الأنواع الثلاثة للتدين وهي باصطلاح المتصوفة: شريعة وطريقة وحقيقة، ويدعو إلى إخراج العوام من الإيمان السطحي إلى الإيمان الاعتقادي "التدين المعرفي" ومنه إلى التجربة الروحية العميقة "التدين التجريبي"[31]، ويرى – خلافاً لمن ينتقد دور المتكلمين وأثرهم - أن جهد علماء الكلام كان جهداً مشكوراً وفاعلاً في تقوية الإيمان وتهيئة الفرد لخوض تجربته الروحية المتفردة التي تبقى حاجة عليا لبَّاها الدين على أتم وجه وكان الأنبياء أبطالها على مدى التاريخ الإنساني[32].

ويدقق سروش – في لفتةٍ عقديةٍ مهمة - على الفرق بين الإيمان وبين الاعتقاد، فالاعتقاد لا يتجاوز مجرد القناعة المتيقَّنة، أما الإيمان فاعتقادٌ ممزوج بحالاتٍ قلبيةٍ متنوعةٍ من توكل ومحبة وخضوع ورجاء ونحو ذلك من أعمال القلوب، والتي هي في الحقيقة مناط التكليف والمسؤولية، لأن الاعتقاد بمفرده أمر ضروري لا اختيار فيه، والكافر في الحقيقة لا يمكنه "التغلب" على اعتقاده الناشئ بحكم الضرورة، بل إنما يقوم بمعاندته و"تغطيته"، ولهذا فمن الطبيعي في المقابل أن يمر المؤمن بحالاتٍ عارضةٍ من "زيادة الإيمان ونقصانه" تبعاً لتقلّب قلبه وأحواله، مما يسمح لنا أن نرى في "الإيمان" ضرباً من "المخاطرة" و"طرق الباب بأمل أن يخرج لك صاحب الدار" كما يقول جلال الدين الرومي وليس كله حالة دائمة من اليقين الخالي من التذبذبات، وهنا يمكننا أن نفهم آيات عدة على ظاهرها دون تأويل مثل "يظنون أنهم ملاقو ربهم" و"يرجو رحمة ربه"[33].

ويميز سروش في ختام المقالة بين من يحق له تأويل النص وعدم الالتزام بـ"صورته" وبين من لا يحق له، فالعوام من المسلمين يمثل النص لهم المرجعية الدينية المحورية ويصعب عليهم فصل الصورة عن المعنى بخلاف النوادر الذين يعيشون التجربة مباشرة ولا يمثل النص محورية لهم منذ البداية، لكن رغم ذلك لا يتيح لهم مقامهم المساس من قدسية "الصورة" الثابتة في النص حفاظاً على الوحدة الجامعة للأمة[34].

ومهما يكن في طرح الدكتور سروش من إشكالات أو على هامشه من تساؤلات فإنه على الأقل ذلَّل عقبة كؤوداً في طريق الحوار مع الآخر المختلف ديناً أو فرقة، وأتاح فرصة لتفهم حاله قبل مقاله، كما أنه شق طريقاً جديدة للوصول إلى التعددية السياسية والاجتماعية التي يبدو أنها بقيت مستعصية بسببٍ من أحادية التدين الغالبة.

ومن جهة أخرى يصعب الفصل بين طرح الدكتور سروش وبين مناخه الذي تكون فيه، فالحال التي وصلت إليها إيران من سلطة رجال الدين عززت الحاجة إلى الحديث لا عن التعددية السياسية فحسب، بل حتى التعددية الدينية التي يحاول سروش أن يجعل من تأصيلها –الفلسفي في غالبه رغم إمكانية تأصيله الشرعي- معبراً للتعددية السياسية خصوصاً بعد أن كُبِتت كثيرٌ من محاولات الإصلاحيين في إيران لتغيير قواعد اللعبة السياسية أو إدارة المجتمع الفتي الذي استدبر مرحلة عنفوان الثورة الإسلامية منذ أمد بعيد.

_______________________

[1] عبد الكريم سروش مفكر إيراني إصلاحي، من مواليد طهران (1945م)، درس الصيدلة في جامعة طهران وتخرج منها ليكمل دراسته للكيمياء التحليلية في بريطانيا، لكنه انتقل إلى جامعة لندن فدرس فلسفة العلم وتوفر على معطيات أحدث تياراتها خاصة النقدية المحدثة فضلاً عن تراث المدرسة الوضعية. عاد إلى إيران بعد الثورة عام 1979 ليصبح عضواً في لجنة الثورة الثقافية ثم غادرها مبكراً إثر خلاف في الرأي وانتقل إلى جمعية الحكمة والفلسفة في طهران كباحث متفرغ. عالجت كتاباته الأولى موضوعات في الماركسية وفلسفة العلم، ومن أعماله البارزة تلك الفترة كتاب (ما هو العلم، ما هي الفلسفة)، بعد أن خفت الحدة الثورية في إيران في النصف الثاني من الثمانينات شارك سروش في المساهمات النقدية لمعالجة الأوضاع القائمة في البلاد من خلال مقالات نشرت في مجلة كيهان فرهنكي أصبحت فيما بعد كتاباً مستقلاَ بعنوان "نظرية القبض والبسط في الشريعة."مؤخراً صدر له بالعربية كتابان مترجمان هما "الصراطات المستقيمة"، وهو الكتاب الذي نعرض له هنا، وكتاب "بسط التجربة النبوية".

[2] الصراطات المستقيمة، ص16.

[3] الصراطات المستقيمة، ص18، ويستطرد سروش في بيان هذه الركيزة في المقالة الثانية ليصل أن للنص الديني إبهام وغموض ذاتي يوجب التعددية في المعنى، وأن الله تعالى أراد تعدد المعنى و قصَده ؛ ص148.

[4] الصراطات المستقيمة، ص33.

[5] الصراطات المستقيمة، ص25.

[6] "أول من غرس بذور التعددية في العالم هو الله تعالى الذي أرسل رسلاً وأنبياء مختلفين، وتجلى لكل واحد منهم بمظهر خاص، وبعث كل واحد منهم إلى مجتمع خاص" ص32.

[7] الصراطات المستقيمة، ص27.

[8] الصراطات المستقيمة، ص33.

[9] الصراطات المستقيمة ص92.

[10] الصراطات المستقيمة، ص37.

[11] الصراطات المستقيمة، ص57.

[12] الصراطات المستقيمة، ص51، ومن المؤكد أن عبارته الأخيرة هذه مستندة إلى خبرته التخصصية في مجال الكيمياء.

[13] الصراطات المستقيمة، ص48، "البلورالية لا تعني سوى الإذعان برحمة الله الواسعة، والاعتراف بنجاح الأنبياء في مهمتهم، وضعف كيد الشيطان، ورؤية رحمة الله الواسعة منبسطة في جميع أرجاء عالم الوجود" ص49.

[14] الصراطات المستقيمة، ص71.

[15] الصراطات المستقيمة، ص72.

[16] يتوسع سروش في تجلية مفهومَي الإيمان والكفر طبقاً لرؤيته هذه في المقالة الثالثة : "تجديد الإيمان" ص154.

[17] الصراطات المستقيمة، ص20.

[18] الصراطات المستقيمة، ص50.

[19] الصراطات المستقيمة، ص93 – 94.

[20] الصراطات المستقيمة، ص180.

[21] الصراطات المستقيمة، ص183.

[22] الصراطات المستقيمة، ص194.

[23] الصراطات المستقيمة، ص223 و242.

[24] الصراطات المستقيمة، ص234، و ص237، يذكر سروش في موضع آخر أنه يرى "أنسنة الدين" بدلاً من "أسلمة العلوم"، الصراطات المستقيمة، ص194.

[25] الصراطات المستقيمة، ص277.

[26] الصراطات المستقيمة، ص268 إلى 271.

[27] الصراطات المستقيمة، ص285.

[28] الصراطات المستقيمة، ص287.

[29] واحد من أشهر وأكبر الباحثين في العلوم الإسلامية في الغرب، تلقى تعليماً مختلِف المشارب في جامعات إيران وحوزاتها ثم في الجامعات الأمريكية، عانى من مضايقات وملاحقات في إيران بعد الثورة بسبب صلته الوثيقة بنظام الشاه المخلوع، مما اضطره للهجرة إلى الولايات المتحدة ليشغل – وما يزال - كراسي تعليمية راقية في أهم جامعاتها.

[30] فرج سركوهي، الأصوليون يكتسحون المصلحين الإسلاميين، مقال مترجم عن الألمانية منشور على الموقع الألماني الثقافي "قنطرة" .

[31] الصراطات المستقيمة، ص307.

[32] الصراطات المستقيمة، ص319.

 

[33] الصراطات المستقيمة، ص293-297.

[34] الصراطات المستقيمة، ص325 .

نقلا عن موقع ببليو اسلام

 


تاريخ النشر : 28-10-2009

6449 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com