تـقديـــم:
مهما اختلف المرء مع الباحث فريد الأنصاري في بعض أفكاره، بل ومنطلقاته المرجعية، وكنا قد سجلنا ذلك في أكثر من مناسبة، لا يملك الباحث المنصف إلا أن يثمن مجهوده الكبير في كتابه "البيان الدعوي، وظاهرة التضخم السياسي" وأن يشيد بشجاعته في نقد التنظيم الإسلامي المعاصر، ودق ناقوس الخطر، بصراحة كبيرة، لما أصابه من انهيار واندثار، ولما ينتظره من تحديات.
فالإخوان بنظر فريد الأنصاري، لم يستطيعوا التخلي عن بريق الشعارات الزائفة، فأتى الله بنيانهم من القواعد.(ص8) وهذه المحاولة النقدية يرجع فريد أساسها إلى القرآن الكريم، لأن الحركة نسيت كتاب الله وهجرته هجرانا غريبا وانحصرت في مقولات فكرية وفقهية تحولت إلى أوثان بيد الإسلاميين.(ص.9).
فالعمل الإسلامي انحصر في العمل السياسي، وهو ما حوله حقيقة إلى وصف الإسلام السياسي، بكل موضوعية ونزاهة، وليس ادعاء خصوم أو حاقدين. والإسلام السياسي يقصد به أصحاب الاختيار السياسي الصدامي، أو أصحاب الاختيار السياسي المشارك؛ فهما وجهان لعملة واحدة بنظر الباحث.
إن الحركة الإسلامية، بنظر فريد، قد ابتعدت عن المنطلقات وانزلقت إلى تصورات و ممارسات وهمية، وحصل الانحراف ! (ص9).
هذه الانتقادات اللاذعة أحس الباحث فريد الأنصاري أنها ستعرضه لهجوم الإخوان واتهاماتهم على عاداتهم في التعامل مع المخالفين، فاستبق القول داعيا إلى الحوار الهادئ، داخليا وخارجيا، وترك أسلوب الاتهام الإيديولوجي، مما كانت تنعاه الحركة على الاتجاهات الماركسية في السابق، كأسلوب (للتخلص السهل) من الرأي الآخر برمي صاحبه بالتخاذل، والجبن، والعمالة للمخابرات، والانحياز إلى النظام، والركون إلى الذين ظلموا...) وغيرها من شتى أنواع السباب التي تدل، بنظر الباحث، على تلك ( الحيل النفسية ) المستهلكة لحظة العجز عن ممارسة الحوار العلمي المتبصر، وذلك بوضع صاحب البرهان، ورافع راية الاستدلال في قفص الاتهام؟ ولكن، إلى متى؟ وها كل تجربة مهما اعتقد الناس من قداستها يفضحها محك التجارب. (ص11).
وقدم فريد بحثا تاريخيا للحركة الإسلامية المعاصرة، وانتهى إلى أن حركة الصحوة الإسلامية بعامة هي تعبير اجتماعي عن مكنون المجتمع الديني، أي إنها (بيان دعوي ) وتعبير اضـطراري. (ص 39 ). فهي رغبة طبيعية في التدين مع إحساس بالحرمان، مما جعلها تكتسي طابع رد الفعل.(ص41).
وناقش الباحث الأحكام السياسية من حيث مرتبتها التشريعية، مقدما مرافعة أصولية ضد تسييس العمل الدعوى وتحويل التنظيمات إلى أحزاب سياسية موسمية محدودة الفكر والأداء، وأتباعها إلى كائنات حزبية وانتخابية عصابية، لا يختلفون عمن أتت الحركة أصلا بديلا عنهم !
فقد رفض الباحث فريد مقولة، مفتاحية أي أسبقية العمل السياسي في الإصلاح والتجديد سواء لدى من يعتبره غاية في نفسه أو وسيلة لغيره.(ص 44-45). واستدل على ذلك بتبيين موقع المسألة السياسية في نصوص الشريعة ومقاصدها. وانطلق من قاعدة أصولية تقول: إن ما كان من أصول الدين الاعتقادية أو العملية إنما يكون أصل تشريعه في القرآن، ولا يترك منه للسنة إلا ما كان من قبيل البيان والتفصيل؛ من توضيح الهيآت وبيان الكيفيات، وذلك شأن الإيمان بالله واليوم الآخر والصلاة والصيام والزكاة والحج، من الواجبات، وكذا شأن الخمر والميسر والزنى، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب، من المحرمات. فقد ورد تشريع كل ذلك في القرآن أساسا.(ص45). والقرآن هو أصل التشريع الأول. فلا يصح، بنظر فريد، أن يعتقد أن بعض الأصول الدينية التشريعية قد أهملت من القرآن لتتولى السنة تشريعها؛ فهذا مما يخالف قصد الشارع، وطبيعة التشريع الإسلامي وقواعده الكلية الاستقرائية.(ص46). فالسنة بنظر الباحث، تؤكد التشريع ولا تؤسسه. فمن أخطأ هذه القاعدة الأصولية الجليلة فاته كثير من فقه الدين.(ص47).
ويقصد الباحث بالأحكام السياسية التي بحث في مراتبها، بناء على التصور السابق، كل التشريعات المتعلقة بتدبير الشؤون العامة للدولة، على المستوى الدستوري والإداري والتنفيذي، أو ماسمي قديما بالأحكام السلطانية.(ص54).
ويذهب الباحث إلى أن الأحكام السياسية لم تنل من التشريع الإسلامي إلا المرتبة الثالثة. ومجالها الاجتهاد المحض؛ فالقرآن الكريم يخلو من نصوص مخصوصة بالشأن السياسي، ما عدا آيتي الشورى "وشاورهم في الأمر"أل عمران: 159، "وأمرهم شورى بينهم" الشورى: 35 والآيتان، بنظر الباحث، ليستا نصا على الشورى بالمعنى السياسي إطلاقا.(ص 61). وهذا التخريج الذي قدمه الباحث يزيد مسألة الشأن السياسي في تفكير الحركات الإسلامية تعقيدا. فما الفرق إذن بين ما استنتجه الباحث وبين رأي من يدعو إلى إبعاد التخريجات السياسية أصلا عن النصوص الشرعية، خاصة القرآن الكريم؟
فالأحكام السياسية إذن ليست مقصودة للشارع بالأصالة. وأما السنة فأغلب ما ورد فيها من أحاديث عن الشأن السياسي هو من "أحاديث الفتن" أي ما أخبر عنه الرسول (ص) من حوادث عما سيقع خاصة فيها يتعلق بالخلافة والملك. وهذه الأحاديث في أغلبها أخبار، وليست إنشاءات، والأحكام الشرعية تؤخذ من الإنشاء لا من الخبر. (ص 63).
وعلى هذا الأساس وقعت الحركات الإسلامية في خطأين استدلالين بنظر فريد: الأول اعتماد الأحاديث الضعيفة والموضوعة، بل والخرافات في بعض الأحيان في خطابها السياسي، والثاني الاستدلال على المواقف السياسية والتوجهات الحركية من مثل معارضة النظام والثورة ضده أو الزحف عليه على أحاديث الفتن، والتي لايؤخد منها التشريع.
وخص الباحث بالنقد مشروع الأستاذ عبد السلام ياسين الذي اعتمد حديث "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت/ (رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم5).
فقد اعتبر الباحث فريد أن الاستدلال بهذا الحديث لرسم الخط السياسي، خاطئ من وجهة نظر استدلالية؛ فالحديث هو مجرد وصف خبري لما سيكون عليه الحال بعد النبي (ص)، فهو إذن من أحاديث الفتن، وليس من نصوص التشريع. ثم إن تعيين هذا الحديث وتنزيله أو ما يسميه الأصوليون "بتحقيق المناط" مجرد اجتهاد بشري؛ فلا ندري أي نظام هو من الخلافة، أو من الملك العاض، أو من الملك الجبري. يضاف إلى هذا أن الملك العاض والجبري داخلان تحت مفهوم الخلافة وإن كانا ليسا على منهاج النبوة؛ فالخلافة قد تكون على منهاج النبوة، وقد تكون ملكا عاضا، وقد تكون ملكا جبريا. ومن هذا المنطلق قال ابن تيمية بجواز شوب الخلافة بالملك في الشريعة الإسلامية. (ص 64). ثم يستنتج الباحث من الحديث أن الخلافة تجربة بشرية ذات مراتب متعددة.
وحتى إذا سلم الباحث لمن يأخذ الأحكام السياسية من أحاديث الفتن غير التشريعية، فهو يرى أن أحاديث فتن أوثق وأصح تلزم بالسمع والطاعة لخلافة الملك العاض والجبري، وتحذر من الفتن والعصيان والخروج. ونحن نعلم أن فقه السنة والجماعة في معظمه عرف بالدعوة إلى طاعة الأمراء، ولو كانوا ظلمة فساقا رعيا للمصلحة الراجحة المتمثلة في اجتماع كلمة المسلمين من جهة، ولتأخر رتبة الأحكام السياسية في التشريع الإسلامي من جهة أخرى، ولهم في ذلك أحاديث صحيحة مليحة، تواتر معناها تواترا كليا، ووردت عند الشيخين.(ص67) و قد أورد الباحث نماذج كثيرة منها، فلماذا لم يأخذ بها الأستاذ ياسين؟ إنه إذن الانتقاء في استثمار الأحاديث خارج المواصفات الاستدلالية المعقولة.
و لقد أحس الباحث بحرج البحث في هذه النقطة، فأكد أكثر من مرة أنه لا يسعى إلى تزين واجهات هذا النظام أو ذاك، ولا يقبل جور السلطان، ولا مفاسد الطغيان. (ص 65، 07، 89 ).
إن أحاديث الفتن إذن التي تتكئ عليها الكثير من الحركات الإسلامية السياسية، ليست أبدا محل التشريع. من هنا فالقضية السياسية في الفقه الإسلامي هي من باب الاجتهاد البشري المحض، ولا تكون بالنسبة لجوهر الدين من حيث هو (دين) إلا وسيلة لا ركنا ولا غاية. وليست من أصول الإسلام وأركانه الإيمانية والعملية، المشكلة لمعمار العبادات المحضة، مما نص عليه في الكتاب والسنة؛ فحديث جبريل المشهور مثلا عن الإيمان والإسلام والإحسان، والذي رواه عمر بن الخطاب، هو حديث وأصل جامع من أصول الإسلام، بل فيه، بنظر الباحث، كل ما هو مسمى (دين) في الإسلام، إلا الشأن السياسي. (ص75) فالشأن السياسي لا يدخل، إذن، بنظر فريد الأنصاري ضمن الدين. وعليه ما مبررات كل هذه المجهودات التي ظلت تبشر بها الحركات الإسلامية لإقامة الخلافة الإسلامية المفقودة، وما شرعية الحرص على تأسيس الأحزاب الإسلامية وتعبئة المناضلين، على أساس أن العمل السياسي عمل شرعي في حكم الواجب؟ وما هي حدود الاختلاف بين هذا الطرح. وبين من يطالبون بضرورة إبعاد الدين عن جزئيات الصراع السياسي، ولا أقول فصل الدين عن السياسة؟ أو ما يسميه عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية، والتي لا يرى ضيرا فيها. ينظر العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مجلدان، عبد الوهاب المسري، دار الشروق الطبعة الأولى (1423 ه/2002م).
لقد ذهب الباحث الأنصاري إلى أن إقامة أركان الإسلام ليس مرتبطا البتة بإقامة الخلافة أو إنشاء الدولة. وفي هذه النقطة بالضبط حصل للباحث اضطراب كبير، فأركان الإسلام في غنى عن دولة الإسلام، وقيام الدولة، من جهة أخرى، وبنظر الباحث، مطلب شرعي ضروري. (ص 79) إلا أن اختزال الدين في حزب أو برنامج سياسي، يعتبر خطيئة؛ لأن الدين قضية وجودية كبرى، تتعلق بكينونة الإنسان في الوجود، والدين مذهبية شاملة في الخلق والمنشأ. (ص80) أما المسألة السياسية فلا تنتمي إلى الدين من حيث أصوله العقدية والتعبدية. (ص91)
وانتقل الباحث إلى معالجة قضية شائكة في العمل الإسلامي، وما زال يتخبط فيها مناضلوه نظريا وعمليا، وهي علاقة الفقه السياسي بالفقه الدعوى؟ فضبط العمل الدعوى بنظر الباحث يمر عبر ضبض أصول الفقه السياسي، وفرق بين البرنامج السياسي وأصول الفقه السياسي؛ فالأول جزئي تطبيقي والثاني مجرد كليات وقواعد. ولما كان البرنامج السياسي ذو طبيعة جزئية فهو لا يصلح أن يكون مفتاحا لبعثة التجديد الإسلامي، أي ليس مدخلا للعمل. وعليه فالمشاركة السياسية، بنظر الباحث، سواء كانت مساندة أو معارضة، هي في حد ذاتها انحراف عن متطلبات العمل الإسلامي/الدعوى وتجاوز لأولياته.
إن القضية السياسية هي أشد القضايا اختلافا بين المسلمين عبر التاريخ وإلى اليوم. فلا تجد شيئا من النصوص والإجماعات تعول عليه فيها، إنما هو الرأي والرأي الآخر. (ص84 ) فالأحكام السلطانية كلها ذات طابع عرفي واجتهادي محض. (ص89) فليس من حق أي واحد، بنظر فريد، أن يتكلم سياسيا باسم الدين الكلي، وإنما حقه أن يتكلم باسم رأي، والرأي كل الرأي، قابل للخطأ والصواب. (ص93) ومهما احتج المناضلون الإسلاميون بآيات الحكم، منذ المودودي وسيد قطب، اللذين كرسا مفهوم الدولة الثيوقراطية ورفضا الديموقراطية، فإن تصورهم قد جمع بين ما هو تشريعي قضائي وما هو سياسي سلطوي في مفهوم التوحيد. فتحولت المسألة السياسية إلى قضية من قضايا أصول الدين. وهذا الخلط هو الذي سبب اضطرا بات كثيرة في الفهم والممارسة عند الكثير من الجماعات الإسلامية، إلى درجة تشييد معمار تصوري وحركي في المفاصلة وهجرة المجتمع، والقول بجاهلية المجتمعات الإسلامية، كما برز عند سيد قطب. وحاول يوسف القرضاوي رفع بعض الالتباسات في فكر قطب والمودودي، إلا أن الباحث الأنصاري استدرك عليه، موضحا أن البون شاسع بين (الحاكم) كما جاء في مصنفات علم أصول الفقه، ومفهوم (الحاكمية) كما عرضها المودودي وسيد قطب؛ فالأصوليون بحثوا الحاكم بمعنى الشارع، أما المودودي وقطب فيتكلمان عن الحاكم بمعنى رئيس الدولة، أو الخليفة أو الإمام، وهذا مبحث سياسي لا علاقة له بأصول الفقه.(ص98 ).
ويرجع الباحث أسباب هذا الخلط التصوري عند المنظرين الإسلاميين إلى عدم التحري من تسرب رد الفعل النفسي إزاء الظلم السياسي والاجتماعي الغالب على وضع العالم الإسلامي. فالقرآن الكريم استعمل مادة (حكم) في سياقات متعددة منها التشريع والقضاء والحكمة والقدر الإلهي، ولم يخلط بين السياقات. ولكن لا دلالة في القرآن للحكم على المعنى السياسي أي السلطة. فدلالة الحكم استقرت في تاريخ التشريع الإسلامي على معنى (القضاء). أما دلالته السياسية فهي دخيلة وليست أصيلة ! (ص100-101) ولم يمنع هذا التصور الباحث الأنصاري من الرد على الذين أنكروا مفهوم الحاكمية الإلهية، حتى بالمعنى التشريعي، وانتقد محمد سعيد العشماوي في كتابه المعروف (الإسلام السياسي). (ص 101-103).
وأشار الباحث إلى ظهور جيل ثاني من المفكرين الإسلاميين، تجاوز التخريجات الضيقة لمدرسة الرواد المؤسسين كالمودودي وقطب، وقد استفاد الجيل الثاني من التجارب السياسية المحلية التي انخرطت فيها الحركات الإسلامية، وكان أبرز ممثل لهذا الجيل وملهم له هو الدكتور حسن الترابي الذي خاض تجربة في السودان متنوعة وشيقة ومتناقضة، وما زال إلى اليوم. فقد اشتغل الترابي بالتأصيل لمفهوم الديموقراطية باعتبارها عين الشورى الإسلامية. وعلى نهجه سارت جزئيا بعض القيادات الحركية الإسلامية كالغنوشي، وتجربة الإصلاحيين في إيران بزعامة محمد خاتمي، وأحمد الريسوني بالمغرب.
وخص الباحث الفكر السياسي لعبد السلام ياسين بنقد خاص وسجل عليه اضطرابا في تصور الديموقراطية من خلال كتابه (الشورى والديموقراطية). وانتقد اعتبار ياسين المسألة السياسية وخاصة قضية السلطة والحكم، من أصول الدين. وانتقد الباحث اعتماد ياسين على حديث الخلافة بما سبق ذكره؛ ذلك أن الحديث في الفتن التي لا علاقة لها بالتشريع. وانتقد مصطلح القومة الذي يستثمره ياسين كثيرا أو غيره، فهو من نتاج التاريخ السياسي لا النص الشرعي، برغم اعتماد ياسين على قوله تعالى "وإنه لما قام عبد الله يدعو"(الجن: 19). فمفهوم القومة كما تصوره ياسين لاتدل عليه الآية بنظر فريد لاعبا ريا ولا تبعيا ولا إشاريا ولا إيمائيا ولا اقتضائيا، ولا بالمفهوم الموافق ولا المخالف، ولا بأي طريق من طرق الاستدلال كما عرفت عند علماء أصول الفقه.(ص108) كما وقع عبد السلام ياسين في ما وقع فيه المودودي وقطب والقرضاوي، من خلط في ربط قضية الحكم، بدلالتها على القضاء، بمفهوم السلطة والحكم، ورئاسة الدولة، وبنى على ذلك نظريته في التاريخ والإصلاح أدان بها تاريخ الإسلام كله، ورهن الإصلاح والتجديد بتغيير الحكم، وهو بناء على أسس مفهومية باطلة.(ص111).
وعليه فالفكر التغييري عند الحركات الإسلامية يقوم على أسس باطلة، إذ التبست لديها المفاهيم واختلطت الرؤى، ووظفت آيات في غير سياقاتها. بل تحول الموقف السياسي عند هذه الحركات، وهو محض اجتهاد، وليس أصيلا في الدين، تحول إلى مقياس يصنف على أساسه التدين، مما يعد بنظر الباحث انحرافا خطيرا عن معنى الدين والتدين معا.(ص 112).
ويخلص الباحث إلى خطورة تسييس العمل الإسلامي، وهو ما مسه في جوهره، فأصبحت الدعوة إلى التدين، صلاة أو غيرها، هي في عمقها دعوة قائمة عمليا على التعبئة لموقف سياسي معين، كما أن ذلك الموقف السياسي يصوغ التدين في صورة معينة وأصبح التدين حركة احتجاجية أكثر مما هو حركة تعبدية.(113-114)؛ والاحتجاج يثير الوجدان النفسي السياسي للمنخرطين في الجماعات الإسلامية و يولد فيها نفسيات الصدام السياسي، ويتحول إلى غلو في الدين، أي تضخيم الجانب السياسي تصورا وممارسة، مع استثمار وظيفي للطبيعة الوجدانية للتدين، وإثارة العواطف الوجدانية والشعور الإيماني للمتدينين، مما يؤدي إلى الاشتعال والالتهاب.(ص120)، عندها يتحول مناضل الجماعة الإسلامية إلى نار محرقة مزودة بقوة دفع كبيرة من الخصومة والتوثر ومغلفة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية خاضعة لتأويلات غير سليمة، فيحصل الصراع وينقسم الناس في الدين، شيعا وأحزابا، معتقدين أنهم يتدينون به الله، وهم في الحقيقة إنما يدافعون عن آراء وتأويلات وليس بالضرورة عن الدين.
لقد أصبحت إذن الحركات الإسلامية علة من علل الغلو في الدين، بنظر الباحث الأنصاري، أجج ذلك بنظره، احتلال فلسطين ومظاهر الاستبداد في الوطن الإسلامي، وهيمنة أمريكا وقهرها للشعوب الإسلامية ورد الفعل على الإيديولوجيات الماركسية القديمة والمستفزة للشعور الديني للمسلمين، والتأثر بالفكر الشيعي عموما، وثورة الخميني خصوصا. ومنجزات حزب الله اللبناني. ثم الاستلاب لظاهرة "الجهاد الأفغاني" في مقاومة الروس تحت لافتات دينية ملتهبة وقيادات إسلامية بارزة. ثم تدهور الوضعية الاجتماعية للمسلمين، وقلة معرفتهم بالجوانب العلمية والشرعية في الممارسة الإسلامية؛ ذلك أنه وقعت القطيعة بين شباب الحركات الإسلامية وعلماء الأمة.
وفي الفصل الرابع من الكتاب وصل الباحث إلى مقترحاته لتجاوز هذه الوضعية المرتبكة التي يعاني منها التنظيم الإسلامي المعاصر، الذي تحول إلى حزب سياسي ضيق الأفق التصوري، والممارسة العلمية، وسمى دعوته بالبيان القرآني للدعوة الإسلامية.
ويعتمد هذا البيان مرجعيا على القرآن الكريم، والدعوة إلى تجديد القراءة له تدبرا وتفكرا وإيمانا وعملا.(135) فالحركة الإسلامية بنظر فريد، في حاجة اليوم إلى هذا البيان القرآني؛ لأنها استهلكت في مهمات إدارية ذاتية، وانشغالات جدلية وإعلامية لا تنتهي، واستدرجت لتلعب خارج حلبة الصراع، مهما تزيت بأزياء المواجهة السياسية والتصعيد الرافض، أو المشاركة السياسية النقدية.(ص135) فالرهان اليوم، بنظر الباحث، على تدين المجتمع، وبعث شعور ديني شامل خارج التقيد بالإطارات التنظيمية الضيقة، ذات النزوعات الاستعراضية. وحمل الباحث على ظاهر عرض التدين للناس على أساس جماعات وتنظيمات؛ فعندها يستجيب المنخرطون لخدمة التنظيم من حيث هو اجتهاد معين، ولا يهتمون بخدمة قضية الإسلام والهوية الدينية للمجتمع. وعليه يصل الباحث الأنصاري إلى أن التنظيمات الإسلامية منذ مدة وهي تضرب في التيه، مما يفترض بعثة إسلامية جديدة تجدد المضمون الوجودي للدين, من خلال وظيفتين: الأولى تجديد الوعي بالمفاهيم الدينية على مستوى الفهم، والثانية تجديد الإحساس بها على مستوى الوجدان أو القلب؛ وهذا ما يؤهل مشروع التجديد الديني للتوغل في البنية الاجتماعية للمجتمع. (ص138) ولن تتحقق هذه البعثة التجديدية بكل وظائفها إلا من خلال الدعوة إلى الله والقطع مع أساليب الدعوة الإيديولوجية, وهي الدعوة إلى الأحزاب والهيئات والتنظيمات؛ حيث ثم إيهام المتدينين بأن الدعوة إلى التنظيم هي دعوة إلى الله، فانحصرت الموارد البشرية للحركات الإسلامية في أولئك الذين عندهم استعدادات تلقائية للعمل التنظيمي بمواصفات خاصة. بل تسرب إلى مناضلي الجماعات الإسلامية شئ مما يسميه الباحث ب"الوثنية الخفية"؛ إذ يقيم المنتمون نوعا من قياس الشبه بين جماعتهم وبين الإسلام؛ فأصبح الداخل إلى هذه الجماعة أو تلك كأنما قد دخل إلى الإسلام، ومن بقي خارجها كأنما بقي خارج الإسلام. (ص149) وهذا إحساس خفي لدى الأعضاء التنظيميين، قد لايعترفون به شكليا، لكنه يتحكم في سلوكاتهم ومواقفهم ومعاملاتهم، وهذا انحراف عقدي كبير بنظر الباحث. ودعا الأنصاري إلى استقلالية الدعوة عن التنظيم، وليس فقط عن العمل السياسي، فربط العمل الدعوى بالإطارات التنظيمية خطأ شرعي فادح ومحال اجتماعي واضح.
إن العضو التنظيمي اليوم، في الجماعات الإسلامية، يعاني, بنظر الباحث, من العطالة، وإنما يوظف انتماءه لتحقيق نوع من الاقتناع اللاشعوري بإفراغ الذمة من المصير الأخروي: فأصبح الانتماء عند مناضلي الجماعات الإسلامية أشبه ما يكون، نفسيا، بصكوك الغفران البابوية.(ص150).
إن التنظيم الإسلامي، بنظر الباحث، مهما تعددت ألقابه وأشكاله وشعاراته، ليس إلا أداة إيديولوجية تدافع على رأي في السياسة أو النقابة أو الإدارة أو الاقتصاد, أما الدعوة إلى الله فهي غير ذلك؛ إنها عمل عام تلقائي مع كل الناس, إنها دعوة إلى الإيمان وتعلق القلب بالله عز وجل وبالغيب. أما الدعوة بالتنظيم وإليه، فتحوله، أي التنظيم, إلى واسطة بين الخلق وربه، بل الأدهى أنك تجد من الأعضاء المنتظمين, بنظر الباحث، من يشعر أن تعبده في إطار هذا التنظيم أفضل من تعبده في إطار تنظيم آخر، غالبا ما يكون التنظيم الآخر خصما ومنافسا في الإيديولوجية التنظيمية والسياسية، تحت لافتات دينية عدة !
إن الدعوة إلى الله، بنظر فريد الأنصاري، ذات عمق جمالي، تلوثه الحركية الانتمائية، وتوقع الدعوة في شرك خفي باعتماد أشكال متعددة مما يسميه الباحث "التلبيس الانتمائي".
إن إحياء هذا المفهوم الجديد/ القديم للدعوة إلى الله خالصة، وخارج كل الحسابات الانتمائية والمصلحية الضيقة، يمر عبر بعث الرسالة القرآنية، بما هي هداية إلى العالمين، وليس "مانفيستو" إيديولوجي، على عادة بعض الجماعات في التعامل الوظيفي والاستخدامي مع القرآن الكريم، استشهادا واقتباسا..والبعث الجديد ينجز عبر عملية التبليغ للناس يقودها الربانيون والمستمدون من نور القرآن العظيم، ويستبعد منها الايديولوجيون والمتحزبون الدينيون. إن مهمة البلاغ والتبليغ تتجسد في طرق الأبواب بالقرآن الكريم، والدخول إلى المؤسسات والبيوت، واقتحامها بنور الله، وليس بالإيديولوجيا. إن التبليغ هو حمل كلمة الله إلى الناس لأنهم في حاجة ماسة إلى القرآن الكريم، فهو مادة الإسلام الأولى.
والدعوة بالقرآن الكريم، تعفينا من أصر و أغلال البرمجة التنظيمية والدعوية الثقيلة والبطيئة، وتخرجنا من دوامة تنظيمية سيزيفية أحكمت قبضتها على الكثيرين، واستلبتهم لإطاراتها المغلقة والعنصرية، في بعض الأحيان للأسف؛ فتشكلت كائنات تنظيمية عصابية ومهووسة، لاتخرج من لقاء تنظيمي إلا لتدخل إلى آخر، ولا تتلذذ إلا بجمع ركام من المسؤوليات والمهام، لاينجز منها شئ، عبث في عبث، وحلقة مفرغة، وزمن وهمي لاينتهي، وطموحات, أو بعبارات أدق, أحلام وهذيان.
إن دعوة الرسول (ص) وإسلام الصحابة رضوان الله عليهم، كان ببساطة مدهشة، إذ تحولت عقول وقلوب، ملأها الجحود والعداء والكفر إلى عقول وقلوب مؤمنةو مطمئنة تضحي بكل شئ من أجل رسالة الإسلام، رسالة التوحيد والهداية للناس. إن القصص مدهشة وبسيطة، لكنها تعبر عن قوة مادة التبليغ وهي القرآن الكريم، الذي يغشى العقول والقلوب، ويشعر الناس بالانتقال من الظلمات إلى النور "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"(الاسراء:9).
ويسجل الباحث أن أغلب الحركات الإسلامية ابتعدت عن القرآن الكريم، فخطابها يشدو خارج سرب القرآن بسبب انشغالها بكلام قادتها وأشياخها وأقطابها؛ وهي التي تدعو إلى ذاتها وأعتابها؛ وهي وثنية من الوثنيات الباطنة.(ص164).
إن التجديد الديني، بنظر الباحث، يمر عبر فقه مراتب الأولويات الدعوية، واستبعاد العمل السياسي كممارسة جزئية حرفت مسار العمل وسببت له المشاكل بل وأزالت الدعوة من الطريق ودحرتها. ولا نحتاج إلى إعطاء الأمثلة فهي أوضح، ربما للمبصرين، من الشمس في واضحة النهار !! والمرحلية ليست فقها لأحكام الشريعة، وإنما هي فقه لأحكام الدعوة، وهي منهج في الدعوة وليست منهجا في الفتوى.(ص168).
ودعا الباحث إلى جعل الدعوة الخلقية في مقدمة المهام، لأنها تمس جانبا أخطر مما قد تلمسه السياسة أو الثقافة،و استند إلى العلامة الأخلاقي بديع الزمان النورسي في قوله إن نسبة الأخلاق والعبادة وأمور الآخرة والفضيلة في الشريعة هي تسع وتسعون بالمائة، فيما نسبة السياسة لا تتجاوز الواحد بالمائة. (صيقل الإسلام للنورسي.(ص 446). ويعطي الأنصاري لكلمة أخلاق معنى تعبديا شاملا.
لقد سعى الأنصاري إلى توجيه نظر الحركات الإسلامية من الإهتمام بالدولة إلى الإهتمام بالمجتمع، مما يؤكد أن دعوة الإسلام هداية وتربية وأخلاق، وليست مغالبة على الحكم والسلطة. أمر يحتاج إلى مراجعة في التصورات والمفاهيم والمناهج. فليس سهلا على المناضلين الإسلاميين قبول أن العمل السياسي ليس أصلا من أصول الدين ولا التدين، وليس هو، بناء على ذلك، أصلا من أصول الدعوة، وقد تذوقوا حلاوة الممارسة السياسية.(ص 181). سيقولون، بلا شك، إنها علمانية جديدة تتخفى وراء الدعوة. ثم ليس هينا على الإسلاميين الإقتناع بأنهم أساؤوا للإسلام بتحزيبه.(ص 182). أو أن حركاتهم لم تنجح نجاحا حقيقيا في تحقيق الأمانة في ذاتها، ولا في التبشير بها كقيمة دينية كبرى.(ص 182).
إن هذا النقد لم يوجهه خصم سياسي متعصب على الحركات الإسلامية، أو علماني مأجور، أو عميل لجهة ما، إنما صدر من باحث متمرس، وعارف بخبايا التنظيم الإسلامي، فهو إلى وقت قريب عضو المكتب التنفيذي في حركة التوحيد والإصلاح، وصاحب مساهمات حركية ودعوية في مجالات عدة، قبل أن يطلق التنظيم ويغادره، ويصرح برأيه الصريح والشجاع. وهو يحمد عليه كثيرا. قد يفقد الإخوان الأصدقاء، والأتباع التنظيميين، وقد يخسر سمعته، لما يمكن أن يشن عليه من تحامل وتجاهل، وقد بدأ بالفعل, حيث حملات التشكيك والتهوين من أفكاره، ولكنه سيربح حريته ومصداقيته، وقدرته الكبيرة على البحث الموضوعي الصريح. كما ستفرح به حركة النقد والمراجعة والتصحيح التي بدأت تتبلور وسط الصف الإسلامي بالرغم من حملات الأجهزة التنظيمية ومستخدميها ضد كل صوت ناقد، وبرغم اختلاف زوايا نظر أطراف الحركة النقدية المباركة.
[1][1] انتقل الأستاذ الدكتور فريد الأنصاري إلى رحمة ربه ليلة الجمعة 18 ذي القعدة 1430 الموافق 5 نوفمبر 2009 بتركيا حيث كان في رحلة علاجية من مرض عضال أصيب به . والأستاذ الدكتور عالم ديني مغربي وكاتب وشاعر وخطيب ، ولد في قرية الجُرف بإقليم سلجلماسة جنوب شرق المغرب سنة 1960 م . ويحمل دكتوراه الدولة في الدراسات الإسلامية تخصص أصول الفقه. عمل رئيسا لشعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة المولى إسماعيل بمكناس/ المغرب. وأستاذاً لأصول الفقه ومقاصد الشريعة بالجامعة نفسها. ورئيس لوحدة (الفتوى والمجتمع ومقاصد الشريعة) في قسم الدراسات العليا بالجامعة نفسها. وعضو مؤسس لمعهد الدراسات المصطلحية التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله. وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية. وخطيب وواعظ تابع للمجلس العلمي لمدينة مكناس / المغرب. وأستاذ لكرسي التفسير بالجامع الأعظم لمدينة مكناس. أنجز من الدراسات العلمية:
1- التوحيد والوساطة في التربية الدعوية "الجزء الأول والثاني" نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، صدر ضمن سلسلة كتاب الأمة القطرية بالعددين 47 و 48 السنة : 1416 هـ / 1995 م.
2- أبجديات البحث في العلوم الشرعية : محاولة في التأصيل المنهجي.
3- قناديل الصلاة "كتاب في المقاصد الجمالية للصلاة".
4- الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب: دراسة في التدافع الاجتماعي.
5- المصطلح الأصولي عند الشاطبي (أطروحة الدكتوراه).
6- جمالية التدين: كتاب في المقاصد الجمالية للدين.
7- بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطريق.
8- سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة.
9- البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي :يعالج الكتاب الإشكال الحاصل في الميدان الدعوي: (علاقة السياسي بالدعوي)، في مشروع التجديد الإسلامي، أو بتعبير أدق: موقع (المسألة السياسية) من مشروع التجديد الإسلامي.
10- مجالس القرآن: (مَدْخَلٌ إلى مَنْهَجِ تَدَارُسِ القرآن العظيم وتَدَبُّرِه من التَّلَقِّي إلى التَّـزْكِيَة )
11- مفاتح النور : ( مدخل لشرح المصطلحات في رسائل النور).
12- التوحيد والوساطة في التربية الدعوية.
ومن أعماله الأدبية :
1- ديوان القصائد ( الدار البيضاء 1992).
2- الوعد ( فاس 1997 ).
3- جداول الروح ( بالاشتراك مع الشاعر المغربي عبدالناصر لقاح ) مكناس 1997 .
4- ديوان الاشارات ( الدار البيضاء 1999).
5- كشف المحجوب (رواية) فاس 1999 .
6-مشاهدات بديع الزمان النورسي ( ديوان شعر) فاس 2004.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.