- 1 –
كيف نقرأ التاريخ ؟ سؤال في الصميم لأنه يطرح مسألة في غاية الأهمية ، تتعلق بالمعرفة التاريخية و الثقافة التاريخية ، تأسيسا على أن معنى كلمة تاريخ أو ايسطوريا (Historia ) اليونانية، هو الاستقصاء والبحث عن حقائق الأشياء والأحداث والوقائع الإجتماعية.
فالسؤال المطروح يشير من خلال الاستفهام، طلب الفهم لاستكشاف ومعرفة الماضي والحاضر والمستقبل..
من منطلق أن النظر إلى أحوال الماضي، يندرج ضمن الرؤية الواعية لفهم حقائق الحاضر، ووقائعه، و التطلع إلى معرفة ملا مح المستقبل ...
إلا أن الإشكال الذي نواجهه يتمثل في الفهم أي في قدرتنا على فهم الحقيقة عندما يتعذر علينا إدراك المقاصد الكامنة وراء الوقائع أو العوامل المؤثرة في مسار الأحداث و اتجاهاتها ...
إن الفكر الرومانسي يعتمد في مقاربته للوقائع التاريخية على ربط الفهم بمفهوم الخيال ) الذوق أو الحرس ( مما يعطيه القدرة على تمثل الحدث في الذهن..
و يرى رينان " بهذا الصدد ، و هو يكتب عن المسيح (la vie de jésus ) ، بأن تشخيص عمالقة الماضي يتطلب قدرا من التكهن و التخمين (1) .
ويقول ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر بأن التاريخ فن من الفنون تتداوله الأمم و الأجيال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام ، والدول، و السوابق من القرون الأول .. فالتاريخ إذن عبارة عن خبر عن أحداث الماضي و بحث في أحوال البشر و وقائعهم، و بالتالي فهو علم يهتم بالصيرورة التاريخية أي أنه يشمل الماضي و الحاضر والمستقبل.
و لنتوقف قليلا عند كلمة " أرخ " في اللغة العربية يقال أرخ و ورخ توريخا و تأريخا بمعنى الإعلام بالوقت ، و من ثمة فإن تاريخ كل شيء آخره و وقته الذي ينتهي إليه زمنه ، و منه قيل فلان تاريخ قومه، و ذلك بالنظر لإضافة الأمور الجليلة إليه ..
و نستنتج من هذا أن التاريخ و التأريخ تعريف بالوقت بمعنى وضع الحدث التاريخي في سياقه الزمني والمكاني.
وقد قامت طائفة من مبرزي المؤرخين مثل " روبرت فلنت " في كتابه ) فلسفة التاريخ ( و المؤرخ بارنز في كتابه عن تأريخ الكتابة و غيرهم من الباحثين ، بالبحث في جوانب التاريخ المختلفة، إلا أنه كلما اتسعت دائرة الكشوفات الأثرية ، و كلما كثر البحث في نطاق المخطوطات و الوثائـق،
و الآثار و النقوش ، كشفت مصادر كانت مجهولة ، و تجلت حقائق لم تكن معروفة ...(2) ، و قد لاحظ " ماكس نوردو " أن هناك خلط بين التاريخ في ذاته و كتابة التاريخ و تسجيل أحداثه، و أخذ على الباحثين أن جهودهم اتجهت إلى جعل الوصف و الموصوف شيئا واحدا ...
فالتاريخ له وجوده القائم بذاته، و هو بطبيعة الحال أوسع نطاقا و أبعد مدى من التاريخ المكتوب ...
فتأثير الأحداث الطبيعية الكبرى على البشرية ، قد يكون أشد و أخطر من تأثير النظم الاجتماعية ، و السياسية و المعتقدات الدينية ... (3)
فالتاريخ إذن بمعناه الضيق يتناول حدثا في الزمان و المكان ، أما التاريخ بمعناه العام فيتناول الحضارات البشرية من جميع زواياها و أبعادها ، و أحوالها سواء كانت كبيرة الشأن أو ضئيلة الشأن ، لا فرق بين الإنسان المغمور و الفاتح الذي ملأت شهرته الآفاق ...
ظهر تعبير " إسطوريا " أي التاريخ عند الإغريق في القرنين السادس و الخامس قبل الميلاد، و كان يقصد به البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة : معرفة البلاد و العادات و المؤسسات السياسية ..
ثم أصبحت الكلمة مقتصرة على معرفة الأحداث التي رافقت نمو الظواهر ، وبذلك ولد تعبير التاريخ بمعناه الشائع ..
إن كلمة التاريخ في الاستعمال المألوف مصطلح يشمل معنيين مختلفين في معظم الأحيان يقصد به الأعمال و المنجزات التي قام بها الإنسان فيما مضى من الزمان . و كثيرا ما يدل على رواية الأعمال والمنجزات و تسجيلها ... (4)، و في بادئ الأمر كانت للأساطير و الأوهام أثر ظاهرة في تكوين التاريخ و نرجع نشأة التاريخ بهذا المعنى إلى قدرة الإنسان على تخيل الماضي و الإحساس الفني الذي يلم به حينما يروي الأحداث الماضية و يستحضرها ...
وكان الأدب في أول ظهوره مقصور على الشعوب التي تمجد العبقرية في الملاحم، وذلك بإبراز سير الأبطال وتخليد بطولاتهم. (5)
فكانت المنظومات الشعرية الملحمية مشوبة بالأساطير والخرافات بعيدة عن وصف الواقع الحقيقي ..
وقد ظهر أدب الملاحم الأسطوري قبل ظهور الأدب التاريخي..
عند اليونان ظهر<< هوميروس >> قبل << هيرودوت>> بزمن طويل، وفي إيطاليا ظهر <<دانتي>> قبل << ميكيا فيلي>> .. ألخ.
ولم يستطع العقل الإقبال على الكتابة التاريخية إلا بعد أن تخلص من قيود التقاليد وأغلال الأساطير والأوهام والخرافات ..
ونتيجة تقدم الثقافة ونشاط الحركة الفكرية والسياسية في الدويلات الإغريقية التي أنضجت العقليات..
إن أقدم الوثائق التاريخية كانت كتابات ورسوما ونقوشا على المعابد والقصور والمقابر التي أقامها الملوك والغزاة الفاتحون، لتسجيل انتصاراهم والإشادة بأخبار المعارك التي خاضوا غمارها، والبلاد التي استولوا عليها، كما سجلوا حلقات أنسابهم وما جمعوا من ثروات وصنعوا من منجزات ..
-2-
بعض الحضارات رغم ما وصلت إليه من تقدم حضاري، لم تظهر عندها قدرات فنية في الكتابة التاريخية المنظمة ..
فالحضارة الفرعونية وضعت قوائم تضم أسماء الملوك بغية تعظيم شأنهم ..
أما في بابل، فقد أخذت الكتابة التاريخية صورة النقوش المرسومة على المباني، و ظهرت عند الأشوريين وثائق و حوليات ملكية تضم مغامرات الحكام في الحرب و الصيد، و القيام ببناء بعض القصور طبعا غابت الحاسة النقدية في هذا التسجيل البدائي للتاريخ و كان الهدف من النقوش تمجيد الملك الحاكم ، و أعلاء شأنه في نظر الأجيال التالية ، و قد تغلب على تلك الوثائق المبالغة و التهويل و الروح الدينية، و نسبة المباني المشيدة للآلهة، و من الحق القول أن مصر تعتبر متحفا تاريخيا ضخما يحفظ مصادر وافية و قيمة للمعلومات التاريخية، في مقابر الملوك و القصور و المعابد و الآثار)6).
و حينما تأثرت الثقافة المصرية القديمة بالثقافة الهيلينية ظهر كاتب مصري هيليني الثقافة اسمه مانتو Manatho)) قام بجمع حوليات عن تاريخ مصر و كتب سردا تاريخيا ، و قد عرف هذا الكاتب بإجادة البحث و تحري الموضوعية في جمع المادة التاريخية ، و تفسيرها إلا أنه لم يبق من كتبه سوى مقتبسات ، و قد شابتها الشوائب نقلها المؤرخ اليهودي يوسفوس(7) .
البابليون و الآشوريون كانوا أكثر تقدما في جمع الوثائق التاريخية ، و لكن لم يظهر بينهم مؤرخ من طراز " مانتو " ، و أقدم الكتابات التاريخية الآشورية هي الوثائق التي كتبها الكتاب السوماريون ، إلا أنه لم يعثر على سرد تاريخي منظم يمكن أن يعزى إليهم .
إن ازدهار الكتابة التاريخية كان يستلزم جوا من الحرية ، تنمو فيه الملكات ، و تتفتح المواهب، و غياب الحرية هو الذي حصر الكتابة التاريخية في تسجيل أخبار قلة من الملوك و أعيان الدولة ...
يقول " روبرت فلنت " بأن الصينيين تفوقوا في الأدب التاريخي نتيجة إحساسهم بحقائق الحياة ، وفرط احترامهم لأسلافهم و شدة تعلقهم بالماضي ، و حسن إدراكهم السياسي، و اعتدالهم في إصدار الأحكام، و تقديرهم العالي للمعرفة والثقافة و ميلهم إلى الجد في طلب العلم . و عند الصينيين عدد كبير من المؤرخين منذ ألفين و ستمائة سنة ...
و الأدب التاريخي الصيني حافل و ضخم ، و يشمل على تاريخ أسر، وملخصات حولية، ومذكرات مختلفة الأنواع، و سير لا يكاد يحصيها العد، و مدونات تاريخية زاخرة بالمعلومات، تتناول شتى العصور و مختلف جوانب الحياة ..
إلا أن الكتابة التاريخية رغم ذلك لم ترتفع عن مستوى الطريقة الحولية ، فالمؤرخون الصينيون قد بذلوا جهدا في جمع المعلومات واستقصاء الوقائع و تنسيقها . إلا أنهم لم يضعوها في موازين النقد، و لم يسبروا أغوارها، فالتاريخ عندهم تعوزه دقة العالم، و شمول الفلسفة وإحاطتها، ولم يستطع الصعود إلى وجهة نظر عامة . وهم يتناولون التاريخ باعتباره فنا قوميا نافعا لا باعتباره مرآة تنعكس فيها الطبيعة البشرية .
وأشهر المؤرخين الصينيين شهرة هما : " سيزماتيان " المولود حوالي ) 145 ق – م ( و " سرجها كوانج " الملقب بأمير المؤرخين و قد ذاعت شهرته في القرن الحادي عشر ..
كتب الأول وثائق تاريخية تشمل كل ما له أهمية في الحوليات الصينية منذ عهد ) هونج تي ( : ) 2697 ق - م ( إلى العصر الذي عاش فيه، واستقصى الثاني تاريخ الصين خلال ألف و ثلاثمائة و اثنين و ستين سنة (8).
اهتم اليابانيون بالتاريخ مثل الصينيين، و يرى المتخصصون الأربيون في الدراسات اليابانية أن الكتابة التاريخية اليابانية ، ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد . و قد ترجمت إلى الانجليزية الحوليات اليابانية التي تمت سنة 720 ميلادية ، تبدو فيها طابع التأثير الصيني، إلا أنه حدث تطور ملحوظ في الكتابة التاريخية اليابانية ما بين القرنين الميلاديين ) 10 – 13( حيث اتسمت بأحكام السرد و إجادة التفكير التاريخي . أما في عهد الإقطاع ظهرت حوليات كثيرة و لكن قل ظهور المؤرخين الممتازين ...
و أول مؤرخ ياباني صعد بالتاريخ إلى المرتبة العالمية هو " هاليسكي " ) 1657 – 1725 ( و يعتبره اليابانيون أعظم مؤرخيهم أصالة و أوسعهم إحاطة ، ومن كبار مؤرخي اليابان )ربي سانجو ( ) 1780 – 1833 ( و في العصر الحديث ظهر في اليابان مؤرخون لهم وزنهم مثل ) موتوري نوريناجا ( ) 1730 – 1801 ( و هرانا استاني ) 1776- 1843 ( و ميزات الأدب الياباني كثرة الروايات اليابانية التاريخية التي ترجع إلى القرن العاشر و القرن الحادي عشر .
أما في الهند فإن التنافر في العادات و التقاليد و اللغة لم يساعد على ظهور الكتابة التاريخية ، لذلك ليس للهندوس تاريخ قومي مكتوب و قد استطاع الهنود أن يعبروا عن أفكارهم و خوالجهم في الكتب المسماة " فيدا " و هي تضم وصفات الحياة الاجتماعية لطائفة الهنود الآرين وآرائهم في الله و الكون و الإنسان و كذلك في الملاحم العظيمة مثل المهاراتا و االرامايانا، و مجموعة الحكم و الأمثال المسماة سوترا، و لكنهم لم يعنوا بتدوين أخبار الحياة الإجتماعية والأحداث الخارجية العادية .
وأقدم المؤلفات التاريخية الهندية لا ترجع إلى أبعد من القرن الحادي عشر الميلادي و أشهرها كتاب ) ملوك كاسميرا ( و تغلب عليه الروح الشعرية والنزعة الأسطورية (9) .
أما فيما يخص بني إسرائيل يرى " بارنز barnes " في كتابه ) أصول الكتابة التاريخية( بأن الرخاء العظيم الذي استمتع به اليهود و المكانة التي ظفروا بها في ظل المملكة المتحدة في عهد " (شاول و داوود و سليمان( من البواعث الحافزة على كتابة التاريخ، وأقدم محاولتهم للكتابة التاريخية عهدا تتمثل في الأسفار الخمسة ، و سفر يشوع و سفر صمويل و سفر الملوك ..
ويرى الأستاذ برستيد brasted بأن هذه الأسفار هي أقدم ما نملك من الكتابة التاريخية عند قوم من الأقوام ومؤلفها المجهول هو أقدم مؤرخ في العالم القديم (10).
فكيف إذن ظهر هذا الأدب التاريخي عند بني إسرائيل؟ و بالرجوع إلى المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس ) 37 – 105 م ( الذي يعتبر مؤرخ اليهود القومي فقد كتب بعد أن فقد اليهود وحدتهم و سقوط دولتهم و حاول إعادة ذكرى أمجادهم السالفة ليهون عليهم، لذلك عمد إلى المبالغة و الإشادة بالماضي .
يرى " فلنت " أن اليهود كانوا يعتقدون أن الله هو المحرك الأسمى للتاريخ ، و أن مملكته هي الغاية التي يتجه إليها التطور التاريخي .
و قد عرف اليهود بشدة اعتزازهم بماضيهم وإكبارهم لتاريخهم ... (11)
و يعتبر التلمود أهم الكتب اليهودية، و هو مستودع للتراث اليهودي كله سواء التاريخي أو الجغرافي أو السياسي أو الأدبي و يقول عالم النفس الأمريكي " اريك فروم " في كتابه )الدين و التحليل النفسي) بأن العهد القديم من الكتاب المقدس ) أي الكتابات اليهودية (قد كتبت بروح الدين التسلطي و صورة الإله فيها صورة الحاكم المطلوب لقبيلة أبوية (12) Patriacal
و بخصوص الكتابات اليهودية يقول " اسبينوزا " : " لا ندري في أية مناسبة و في أي زمن كتبت هذه الأسفار التي نجهل مؤلفيها الحقيقيين، و لا نعلم ممن جاءت المخطوطات الأصلية التي وجد لها عدد من النسخ المتباينة، و لا نعلم أخيرا إن كانت هناك نسخ كثيرة أخرى في مخطوطات من مصدر آخر ... ( (13)و يضيف نقلا عن ابن عزرا : " إن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة بل إن مؤلفها شخص آخر عاش بعده بزمن طويل " (14) أي بقرون عديدة و يقول أيضا بأن أسفار الأنبياء ) أي أنبياء بني إسرائيل ( قد أخذت من كتب أخرى ورتبت ترتيبا معينا ، لم يكن دائما هو الترتيب الذي سار عليه الأنبياء في أقوالهم أو في كتاباتهم ، كما أن هذه الأسفار لا تتضمن جميع النبوات ، بل بعض النبوات فقط التي أمكن العثور عليها هنا و هناك، وبالتالي فليست الأسفار إلا مجرد شذرات صيغت على شكل رواية هي مجموعة من الفقرات المأخوذة من كتب الأخبار المختلفة ، بالإضافة إلى إنها تكون خليطا دون ترتيب و دون مراعاة للتواريخ ..(15)
إن الفريسين هم وحدهم الذين اختاروا أسفار العهد القديم ) من بين الكثير غيرها (ووضعوها في المجموعة المقننة.
إن المجامع (synodes ) هي من قرر أي الأسفار يجب وضعها بين الكتب المقدسة و أيها يجب إبعادها، و بالتالي فإن سلطة جميع هذه الأسفار مستمدة من سلطة المجامع الدينية و سدنة الهيكل، إلا أن هذا لا يكفي لإثبات المصدر الإلهي لهذه الأسفار، فضلا عما تتضمنه الروايات و القصص الواردة في هذه الأسفار من أساطير و أوهام و خرافات، تجعلها أقرب إلى الآداب التاريخية البدائية ...
إن الكتبة التاريخية اليونانية لم يتيسر ظهورها قبل القرن السادس قبل الميلاد ، )و قد أشرنا إلى ذلك من قبل (، و لا شك أنه توجد في أسفار هوميروس معلومات وافرة عن المجتمع اليوناني و الثقافة اليونانية تقدم صورة واضحة لحضارة عصره ...
إلا أن شيوع الكتابة النثرية، و كذلك النظرة النافذة إلى الأساطير الشائعة، وبواعث البحث عن أصول المجتمع و نشأة النظم و القوانين والعادات والتقاليد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد ساهمت في توفير الشروط، والمستلزمات للسرد التاريخي..
ففي مطلع القرن السادس بدأ ) كادموس الميليتي ( ممارسة الكتابة النثرية بدلا من الكتابة الشعرية ، و يعد في طليعة الكتاب الناثرين في الأدب اليوناني ، و في نفس الوقت بدأ ظهور الفلسفة التي وضعت أصول التفكير الحر و شجعت على النقد (16)
ثم إن إنشاء المستعمرات و التبادل التجاري، أثر في تقدم الحضارة اليونانية ) في إيونيا وبحر إيجي( كما أن بروز الروح الناقدة ساعدت على تقدم الفلسفة و الأدب و الكتابة التاريخية.
و كذلك فإن احتكاك الثقافات يثير حب الاستطلاع و يحفز إلى التفكير و ينمي العقل.
إن نشوء الكتابة التاريخية كان جزءا من الحركة الفلسفية التي بدأت في ذلك العصر ...
و قد ظهرت الرغبة لدى بعض البارزين لإبراز أدوارهم و مكانتهم الاجتماعية و عراقة أنسابهم ، فظهر كتاب يقومون بمهمة تمجيد الأسر الحريصة على إثبات عراقة الشرف و النسب ...
و أدى هذا الاهتمام إلى تحري النساب الميل إلى العناية بالجغرافيا و دراسة أخلاق الشعوب المختلفة و عاداتها ، و تقاليدها و وسائل أحوالها الإجتماعية و الثقافية و التاريخية ...
لذلك يغلب في الكتابة التاريخية عند اليونان الوصف الجغرافي و الإسهاب في الحديث في مختلف جوانب الحياة الإجتماعية للأمم التي يرد ذكرها ، و تسرد أخبارها " (17)
و قد بدأ المؤرخ ) هيكاشيوس ولد 550 ق- م( الكتابة العلمية للتاريخ بتحريه الحقيقة في المعلومات التي أوردها، كما كان له موقف ناقد من الأساطير المتداولة، و يقول بهذا الصدد " ما أكتبه هنا ) كتاب الأنساب ( تقرير و بيان لما أعده حقا، و ذلك لأن الأقاصيص اليونانية كثيرة و في رأيي أنها تدعوا إلى السخرية (18) .
و هناك كتاب التاريخ الذي ألفه ) هيرودوت 425 – 484 ق - م ( و هو مؤلف تاريخي شامل . و يعتبر " هردوت " بمثابة الأب لعلم التاريخ.
كان رحالة مطبوعا على حب الاستطلاع ، و الحرص على التزود من المعرفة ، و كان يسأل و يستفسر ، و يجمع المعلومات و الأخبار بمختلف الوسائل و السبل ، و يحاول أن يتعرف على العادات ، و التقاليد ، و العقائد و الأديان و القوانين و النظم ، لا يكاد يفلت من اهتمامه الفاحص و نظرته الشاملة شيء، و بقوة عبقريته استطاع أن يضمن كتابه كل ما رآه بعينيه و سمعه بأذنيه في أسلوب جذاب وعرض شائق مما جعل كتابه من طرائف كتب التاريخ الخالدة (19) .
و الموضوع الرئيسي في كتاب ) هرودوت (هو الحرب الفارسية و بخاصة القضاء على حملة ) اكسيركسيس ( و المعلومات التي جمعها حول هذا الموضوع رجحت أهميتها و فائدتها ..
و قد أخذ عليه تقصيره في وصف المعارك الحربية التي دارت بين الفرس و اليونان ..، و لكن مزاياه البارزة، أن عاطفته القومية لم تتغلب على أحكامه ، و بهذا نجده ينصف الفرس ، و يقر لهم بالشجاعة والإقدام ، الأمر الذي عرضه لنقد اليونانيين الشديدي التعصب لقوميتهم(20).
كانت الحرب الفارسية اليونانية في رأي هيرودوت تمثل تصادم طرازين من طراز الحضارة و هما الحضارة الهيلينية و الحضارة الشرقية و لذلك عمد إلى وصف سكان الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط و العالم الآسيوي ، في القرنين السادس و الخامس قبل الميلاد و صفا تناول فيه الأحوال الإجتماعية و الثقافية ..
و يمتاز وصفه بالنزاهة التامة و التخلص من التعصب الجنسي أو الإقليمي، و قد أكدت البحوث الأثرية الحديثة صدق الكثير من أقاصيصه و أوصافه الإخبارية، و كان يفرق بين ما رآه بنفسه و بين ما يعتقده ، و بين ما يرويه من الأخبار السائدة و الأخبار المتداولة ..
و قد أظهر إيثاره لانتصار أثينا على اوتوقراطية الإمبريالية الفارسية ..
و في كتابه الذي يعتبر ملحمة إنسانية ضخمة ، يبدو تأثره بفكرة تدخل الآلهة في الشؤون الإنسانية ...
إن مكانته بوصفه مؤرخا فنانا ، قدم أروع النماذج في السرد التاريخي الرفيع الحي النابض ، فوق متناول الشكوك(21) .
ومن معاصريه المؤرخ ) توقديد thucydide ( ) 396 – 456 ق – م ( الذي تناول الكتابة التاريخية بطريقة مخالفة لطريقة " هيرودوت " فقد أثر الجدية في البحث وتشدد في أبعاد الأساطير و الخرافات التي كان " هبرودوت " يميل إليها و يجد متعة في روايتها.
و قد وضع حدا فاصلا بين المنهج الملحمي ، و التأثر بالاعتقاد بما فوق الطبيعة ، و بين الكتابة التاريخية التي تقوم على تمحيص الحقائق، و استقصاء الأسباب المعقولة للأحداث و العلل الدنيوية ، و أعرض عن الاستطرادات ، واختار موضوعا محدد المعالم هو ) الحرب البليونسية 431 – 404 ق–م) و مجالها أقل اتساعا من المجال الذي اختاره " هيرودوت " ، و قد أعد كتابه في عهد نشوب الحرب و وقوع الصدام ، و يقول " برنز " بأن الصورة الموجزة التي قدمها في كتابه حول ارتقاء بلاد اليونان من حكومات المدن إلى الإمبراطورية الأثينية تبين أن (توقديد) كانت له قدرة عظيمة على بلورة رؤية تاريخية مؤسسة على قراءة دقيقة للأحداث و صيرورتها ..
و قد أظهر بأن أهمية الكتابة التاريخية متوقفة على دقة المعلومات، و صحتها، أكثر مما هي متوقفة على العرض الجذاب .
و هو في تماسك أسلوبه، و اكتفائه بالتفاصيل الوثيقة الصلة بموضوعه ، يعد في طليعة أوائل الداعين إلى التزام المنهج العلمي في كتابة التاريخ ...
و قوام هذا المذهب الدقة في تمحيص المادة التاريخية التي يجمعها المؤرخ وهو القائل بأن المعرفة الوافية الدقيقة لما حدث مفيدة و نافعة، لأنه من المرجح احتمال وقوع أحداث شبيهة لما سبق أن حدث(22)
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.