يتناول هذا البحث بالدراسة والتحليل الإشكال الذي قد يثيره الفهم الأولي والظاهر لبعض الأحاديث النبوية التي تشير إلى "شؤم المرأة"، حيث يحاول، عن طريق استخدام المنهج النصي التحليلي المناسب في هذا المقام، دراسة هذه الأحاديث والتأكد من صحتها، وتتبع طرقها وكامل رواياتها، في مصادر السنة الشريفة، كما يسعى إلى تتبع أساليب فهمها وتلقيها ومعالجتها في مدونات شروح الأحاديث قديما وحديثاً، منطلقاً من ضرورة رفع هذا الإشكال الذي يتناقض من حيث المضمون والمقصد مع ما جاء في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة من معانٍ متواترة تؤكد عدم وجود الشؤم أصلاً، وتؤكد مكانة المرأة، وضرورة حفظ وحماية حقوقها المادية والمعنوية.
وبذلك يتأكّد لنا من خلال هذه الدراسة النصيّة مدى انسجام وتماسك النصوص الشرعية كتاباً وسنةً في تناولها لهذه القضية.
تمهيد
شكَّل الإسلام بمجيئه إصلاحاً جذرياً في منظومة القيم الإنسانية، حيث أصلح ما أفسده الناس قبله من فِطَرهم التي فطرهم الله U عليها، وما أفسدوه من الرسالات السماوية التي أرسلها الله U إليهم، بسبب التحريف الذي أدخلوه عليها، حسب ما أملته عليهم أهواؤهم، وأهواء رؤسائهم من أهل الدين والدنيا معاً.
وكان مركز إصلاح الإسلام القِيَمي هذا، هو إصلاح أحوال الإنسان ـ ذكراً كان أم أنثى ـوإعادة الاعتبار والفعالية له، حيث حرَّر هذا الإصلاحُ الإنسانَ من عبوديته للبشر والطبيعة والمخلوقات، وحرَّره من كل المخاوف التي عجز عن مقاومتها، فتذللَ لها شيئاً فشيئاً حتى تحوَّل إلى عبدٍ عاجزٍ لا يملك أمامها حولاً ولا قوةً، وذكَّره بأنه عبدٌ لله تعالى فقط، ولا يملك أيُّ أحدٍ أو أيُّ شيءٍ في هذا الكون أيَّ ضرّ، ولا أيَّ نفع له، وأعاد له بالتالي كلَّ الحقوق والمكاسب التي خسرها عندما خسر عبوديته الخالصة لله تعالى فقط.
ولعل من مفاخر الإسلام وقيمه التي يفتخر بها المسلمون، تلك المكانة السامية والرفيعة التي أعطاها الإسلام للمرأة، والحقوق المادية والمعنوية التي كفلها لها أسوةً بشقيقها الرجل، فأصبحت المرأة في ظل الإسلام تشارك الرجل في المكانة والقيمة والقَدْر، وتشاركه أيضاً في كل الحقوق التي كان الرجال عادةً ما يحتفظون بها أو بجلِّها لأنفسهم.
ولكن وعلى الرغم من إصلاح الإسلام لأحوال المرأة وتصحيح أوضاعها، وجدنا منْ يشير بإصبع الاتهام إلى الإسلام بأنه أساء للمرأة، وهضم حقوقها في بعض القضايا، وحطَّ من كرامتها في بعض المواقف عندما نسب لها على سبيل المثال: الشؤم، ونقص الدين والعقل، وقد وجدنا بعض المسلمين يؤكد هذه الاتهامات، ويقوم بإثباتها، وقد احتج كلا الفريقين على دعواهم الباطلة تلك، والتي تتناقض كلياً مع روح الإسلام ونصوصه وأصوله ومقاصده، بظاهر بعض الأحاديث النبوية الشريفة، الأمر الذي سبَّب إشكالاً حتى بالنسبة لبعض المؤمنين بعظمة الإسلام وكماله، لذلك انبرى عدد من العلماء قديماً وحديثاً، ووقفوا في وجه هذه الفهوم الخاطئة لهذه الأحاديث النبوية الشريفة، وقاموا بدراسة هذه الأحاديث الموهمة للإشكال بطريقة علمية تُزيل ما تبادر للذهن من هذه الإشكالات.
وأنا في هذا البحث الموجز أحاول أن أعرض وأحلل موقف هؤلاء العلماء في قضيةٍ من تلك القضايا المشكِلة، وهي قضية "شؤم المرأة"، التي كثر الجدل والنقاش حولها قديماً وحديثاً على السواء محاولاً الوصول إلى رأي حاسم، تدعمه الأدلة الشرعية في هذه المسألة المهمة.
المبحث الأول: عرض روايات الحديث وطرقها والحكم عليها
توجد ثلاث روايات يشير ظاهرها- مع اختلافٍ فيها- إلى شؤم المرأة، وهذه الروايات الثلاثة هي: _ ( إنما الشؤم في ثلاثةٍ في الفرس والمرأة والدار ).
_ ( الشؤم في المرأة والدار والفرس ).
_ ( إن كان الشؤم في شيءٍ، ففي المرأة والفرس والدار ).
سأقوم أولاً بتخريج كل روايةٍ ومعرفة طرقها، والحكم عليها لأن شرط الاستمرار في ادّعاء الإشكال في حديثٍ ما، هو ثبوت صحته، وبعد التأكد من هذا الثبوت يحق لنا أن نبدأ بدراسة وجه الإشكال فيه، وعرض وتحليل محاولات حلّ العلماء لهذا الإشكال.
الرواية الأولى: (إنما الشؤم في ثلاثةٍ في الفرس والمرأة والدار)
ذكر الإمام البخاري هذا الحديث في صحيحه في روايتين، الرواية الأولى: (حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمررضي الله عنهما قال: سمعت النبي r يقول: إنما الشؤم في ثلاثةٍ في الفرس والمرأة والدار). الرواية الثانية: (حدثنا سعيد بن عُفير، قال: حدثني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني: سالم بن عبد الله وحمزة أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأةوالدار).نلاحظ في هذه الرواية زيادة " لا عدوى ولا طيرة " في أولها. كما نلاحظ أن الحديث بروايتيه يدور على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وروى هذا الحديث بهذا اللفظ الإمام مسلم بعدة طرق كلها من طريق عبد الله بن عمررضي الله عنهما. أذكر منها: (حدثنا أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله ابنعمر أن رسول الله r قال: (لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار).نلاحظ مما سبق أن الإمامين البخاري ومسلم ذكرا هذا الحديث، وبهذا اللفظ من طريق عبد الله بن عمر، مع شيء يسيرٍ من التغيير في الكلمات وترتيبها، لا يؤثر إطلاقاً على المعنى الظاهر لهذا الحديث. وفي الحقيقة فإني لم أجد في كتب تخريج الحديث أي اعتراض أو قدحٍ بأي راوٍ من رواة البخاري ومسلم الذين نقلوا لنا هذا الحديث، الأمر الذي يؤكد صحة الحديث، وخصوصاً إذا عرفنا أنه موضع اتفاق الشيخين البخاري ومسلم في صحيحيهما.
الرواية الثانية: (الشؤم في المرأة والدار والفرس)
أخرج هذه الرواية بهذا اللفظ الإمام البخاري في صحيحه: (حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك عن ابن شهاب عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمررضي الله عنهما أن رسول الله r قال: الشؤم في المرأة والدار والفرس ).وروىالبخاري هذا الحديث أيضاً في مكان آخر بزيادة " لا عدوى ولا طيرة " في أوله، مع تغيير بسيط في أحد ألفاظه: (حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة).
أخرج هذه الرواية بلفظها نفسه مع اختلافٍ فقط في ترتيب الألفاظ، الإمام النسائي في سننه: (أخبرني هارون بن عبد الله قال حدثنا معنٌ قال: حدثنا مالك والحارث بن مسكين قراءةً عليه، وأنا أسمع، واللفظ له عن ابن القاسم قال: حدثنا مالك عن ابن شهاب عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله rقال: الشؤم في الدار والمرأة والفرس).ورواه أيضاً بزيادة " في ثلاثة " بطريق آخر: (أخبرنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن منصور واللفظ له قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي r قال: الشؤم في ثلاثة في المرأة والدار والفرس).
أخرج هذه الرواية باختلاف يسيرٍ في الألفاظ الإمام الترمذي في سننه: (حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما أن رسول الله r قال: الشؤم في ثلاثة في المرأة والمسكن والدابة). وقال الترمذي عن هذا الحديث بأنه: " حديث صحيح ".
وقد أخرج أبو داود هذه الرواية باختلافٍ في ترتيب كلماتها فقط: (حدثنا القعنبي حدثنا مالك عن ابن شهاب عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أن رسول الله r قال: الشؤم في الدار والمرأة والفرس).
وأخرجها ابن ماجه بزيادة: (حدثنا يحيى بن خلف أبو سلمة حدثنا بشر بن المفضَّل عن عبد الرحمن بن إسحق عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله r قال: الشؤم فيثلاثٍ في الفرس والمرأة والدار. قال الزهري: حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن جدته زينب حدثته عن أم سلمة أنها كانت تعدُّ هؤلاء الثلاثة وتزيد معهن السيف).
وقد أخرج الإمام أحمد هذه الرواية في مسنده أيضاً: ( بلفظ حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي r قال: الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار).
وأخرجها الإمام مالك في موطئه: ( حدثني مالك عن ابن شهاب عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أن رسول الله r قال: الشؤم في الدار والمرأةوالفرس ).
وقد أخرج هذه الرواية أيضاً ابن حنبل والطبراني والطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
نلاحظ من استعراض طرق هذه الرواية، أنها كلها من طريق عبد الله بن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم، ما عدا زيادة السيف فإنها جاءت من طريق السيدة أم سلمةرضي الله عنها. وفي الحقيقة فإن هذه الرواية صحيحة أيضاً بتصحيح الترمذي لها، هذا فضلا عن أني لم أجد أيَّ نقدٍ لأيٍ من رجالها في كتب تخريج الحديث، فهي إذا صحيحة أيضاً مثلها مثل الرواية السابقة.
الرواية الثالثة: (إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس).
أخرج هذه الرواية بهذا اللفظ البخاري في صحيحه: ( حدثنا محمد بن منهال حدثنا يزيد بن زُريع حدثنا عمر بن محمد العسقلاني عن أبيه عن ابن عمر قال: ذكروا الشؤم عند النبي r فقال النبي r: إن كان الشؤم في شيء، ففي الدار والمرأة والفرس).
وقد أخرج مسلم هذه الرواية باختلافٍ يسير وزيادة: (حدثنا أحمد بن عبد الله بن الحكم حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع أباه يحدِّث عن ابن عمر عن النبي r أنه قال: إن يكن من الشؤم شيء حق، ففي الفرس والمرأة والدار ). والزيادة هنا هي قوله r "... حق...". وقد أخرج مسلم هذه الرواية في مكان آخر من طريق ابن عمر أيضاً لكن دون تلك الزيادة : (..عن حمزة بن عبد الله ابن عمر عنأبيه أن رسول الله r قال: إن كان الشؤم في شيءٍ، ففي الفرس والمسكنوالمرأة ).وبهذا اللفظ يوافق مسلم لفظ البخاري في روايته المذكورة أعلاه. وقد ذكرمسلم هذه الرواية من طريق آخر عن الصحابي سهل بن سعد رضي الله عنه باختلاف يسير في اللفظ: ( حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنب حدثنا مال-ك عن أبي حازم عن سهل ابن سعد قال: قال رسول الله r : إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن، يعني الشؤم).
أخرج مالك هذه الرواية من طريق سهل بن سعد أيضاً: ( حدثني مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله r قال: إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن، يعني الشؤم ).
وأخرج هذه الرواية أيضاً الإمام أحمد في مسنده عن سهل بن سعد باللفظ نفسه.وقد أخرجها أيضاً بطريق آخر عن ابن عمر: ( حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمر بن زيد أنه سمع أباه يحدّث عن ابن عمر عن النبي r أنه قال: إن يكن من الشؤمحق، ففي المرأة والفرس والدار ). بهذا اللفظ يوافق الإمام أحمد مسلماً في زيادة كلمة "حق ".
وقد أخرج ابن ماجه هذه الرواية أيضاً: ( حدثنا عبد السلام بن عاصم حدثنا عبد الله بن نافع قال: حدثنا مالك بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله r قال: إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن، يعني الشؤم ).
وهذه الرواية بطرقها المختلفة وزيادتها عن عبد الله بن عمر، وعن سهل بن سعد الساعدي رواية صحيحة أيضاً، حيث لم أجد أي نقد موجَّه إليها في كتب تخريج الحديث، بالإضافة إلى أنها مروية في أوثق كتب السنة، في صحيحي البخاري ومسلم، فضلاً عن تخريجها في كتب مالك، وابن حنبل وابن ماجه.
وهكذا نصل إلى نتيجة عامة مفادها أن روايات حديث" شؤم المرأة " الثلاثة كلها صحيحة وثابتة، لذلك يحق لنا الآن أن نمضي في البحث خطوة أخرى، طالما تأكدنا من صحتها، لأنه لو لم تثبت لنا صحتها لانتفى مبّرر البحث عن حلٍ للإشكال الظاهر فيها.
المبحث الثاني: وجه الإشكال في الحديث
بعد عرض روايات الحديث الثلاث يتبين لنا أن ظاهر الرواية الأولى ( إنما الشؤم في المرأة... ) يشير إلى حصر الشؤم في أمور ثلاثة منها "المرأة"، وكذلك فإن الرواية الثانية (الشؤم في ثلاثة في المرأة ... ) تُخبر بوضوح أن الشؤم موجود في المرأة. أما ظاهر الرواية الثالثة ( إن كان الشؤم في شيء ففي المرأة ... )، فإنه علَّق ثبوت الشؤم فيها بثبوت الشؤم نفسه، وبهذا التعليق، فإذا ثبت الشؤم، كما يثبته ظاهر الروايتين السابقتين، فيثبت الشؤم بحق المرأة هنا أيضاً بموجب هذه الرواية الثالثة. وبهذه الطريقة فإن نسبة الشؤم إلى المرأة أمر ثابت بموجب هذه الروايات الثلاثة بطريقة أو بأخرى.
وفي الحقيقة، فإن هذا الشؤم المنسوب للمرأة يسبب إشكالاً كبيراً في ميزان المقاييس الإسلامية، إذ إنه:
ـ يتعارض أولاً مع بعض الآيات القرآنية الكريمة التي تشير بوضوح إلى أن المصائب التي تصيب البشر إنما هي نتيجة أعمالهم وما يكسبونه بأيديهم هم أنفسهم، وليس بسبب شؤم هذا أو ذاك، وما سوى ذلك من الأسباب الزائفة. انظر إلى قول الله U: } وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً { [النساء: 78ـ 79]. وقوله تعالى: } وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ { [الشورى: 30].
ـ ظاهر هذا الحديث يتعارض أيضاً مع بعض الأحاديث الثابتة التي تنفي الشؤم والطيرة بشكل عام ، وبعض الأحاديث التي تنفي شؤم المرأة بشكل خاص، وتُثبت لها في بعض الأحيان " اليُمن والبركة " بدل الشؤم.
ـ كيف يمكن أن ينسب الإسلام الشؤم للمرأة، وهو الذي كرَّمها، وأعلى من مكانتها، وأعاد لها كرامتها وقيمتها الإنسانية المهدورة على أيدي أهل الجاهلية، وكل من انحرف عن خط الهداية من أتباع الديانات السابقة. فإثبات الشؤم للمرأة يتناقض مع قيم الإسلام العظيمة التي أهداها للبشرية، ومنها تكريم المرأة وتخليصها من النظرة والمكانة والمعاملة الدونية التي كانت تحظى بها قبل الإسلام .
ـ إن في نسبة الشؤم للمرأة دون أدنى كسبٍ لها في هذا الشؤم، تناقضاً صارخاً مع قيمة العدل ونفي الظلم التي أرساها الإسلام، وجعلها من قيمه الكبرى التي يُفاخر بها المسلمون أصحاب الدعوات الأخرى، إذ كيف ننسب تهمةً لإنسان وننظر له من خلالها وهو بريء منها أصلاً، وحسبنا هنا أن نتذكر قول الله U: } وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ً{ [النساء: 112]. إذاً بموجب ظاهر هذه الآية الكريمة، فإن من ينسب للمرأة الشؤم ـ وهي بريئة منه بطبيعة الحال ـ فقد ارتكب بهتاناً وإثما مبينا ً.
ـ المبحث الثالث: أقوال العلماء في حديث " شؤم المرأة ":
يمكن ترتيب أقوال العلماء الواردة في مناقشة الشؤم المنسوب للمرأة في روايات الحديث التي عرضناها، وعرفنا أنها صحيحة في فقرةٍ سابقة، على الشكل التالي:
ـ الإمام مالك بن أنس (179هـ):
جاء في كتاب: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للحافظ أبي العباس القرطبي: " إن مالكا أخذ بحديث الشؤم في الدار والمرأة والفرس، وحمله على ظاهره، ولم يتأوله ". هذا الكلام يتفق مع منهج الإمام مالك في التسليم بظاهر النصوص، مهما كان هذا الظاهر، بشرط أن لا يؤدي هذا التسليم إلى معارضة أمر ثابت في الشريعة، مثل الاعتقاد " أن الله تعالى هو الفعال لما يريد، وليس لشيءٍ من هذه الأشياء (الشؤم) أثر في الوجود".
وجاء في كتاب شرح صحيح مسلم للإمام النووي: " واختلف العلماء في هذا الحديث (حديث شؤم المرأة) فقال مالك وطائفة: هو على ظاهره، وأن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سبباً للضرر أو الهلاك وكذا اتخاذ المرأة المعينة... قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى، ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة...". إذا فالمكروه الذي قد يصيب الإنسان من " اتخاذ امرأة معينة " يكون بقضاء الله تعالى عند هذا الاتخاذ وليس بسببه. بهذه الطريقة حاول الإمام مالك أن يوفق بين ظاهر الحديث وبين انفراد الله تعالى بالتأثير في هذا الكون.
ـ ابن قتيبة (276هـ)
قال ابن قتيبة رحمه الله في كتابه: تأويل مختلف الحديث: " وأما الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي r أنه قال: الشؤم في المرأة والدار والدابة. فإن هذا حديث يُتوَهم فيه الغلط على أبي هريرة، وأنه سمع فيه شيئاً من رسول الله r فلم يعه، قال أبو محمد حدثني محمد بن يحيى القطعي قال: نا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها، فقالا: إن أبا هريرة يحدِّث عن رسول الله r أنه قال: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار، فطارت شفقاً، ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم مَنْ حدَّث بهذا عن رسول الله r إنما قال رسول الله r : كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: } مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا { ".
هكذا نلاحظ أن ابن قتيبة ردَّ إشكال الحديث عن طريق نسبة الوهم والغلط إلى أبي هريرة رضي الله عنه، وأثبت هذا الوهم من أبي هريرة بذكر ملابسات هذا الحديث بشكل كامل كما نقلته لنا السيدة عائشة رضي الله عنها، حيث أخبرتنا أن رسول الله r قد قال هذا الحديث إخباراً عن أهل الجاهلية فقط، وليس إقراراً بمضمونه، وخاصة أنه يتعارض مع المفهوم من قول الله U: }مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ { [الحديد: 22]حيث يدل ظاهر هذه الآية الكريمة على أن المصائب التي تصيب الإنسان مُقدَّرة على الإنسان في الغيب، ولا يدَ لأي مخلوق فيها ـ عن طريق الشؤم أو غيره ـ ولا توجد أية قدرة لأي مخلوق على التصرف فيها، وإيذاء الآخرين بها، فالله U وحده هو النافع وهو الضار بمشيئته، وقدرته، وسُنَنه فقط.
أبو جعفر الطحاوي ( 321هـ )
قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه: مشكل الآثار: " ...عن رسول الله r أنه قال: إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة ، فكان في هذا ما دلَّ على أن الشؤم إن كان في شيء ففي هذه الثلاثة لا بتحقيق كونه فيها... وقد روي عن عائشة إنكار ذلك وإخبارها أن رسول الله r إنما قال ذلك إخباراً عن أهل الجاهلية ... وإذا كان ذلك كذلك كان ما رُوي عنها مما حفظته عن رسول الله r من إضافته ذلك الكلام إلى أهل الجاهلية أولى مما رُوي عن غيرها فيه ... لا سيما وقد رُوي عن رسول الله r نفي الطيرة والشؤم ..." .ثم ذكر الأحاديث النافية للشؤم بسنده.
وقال الطحاوي في كتابه: شرح معاني الآثار: " وأما الطيرة، فقد رفعها رسول الله r، وجاءت الآثار بذلك مجيئاً متواتراً. حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، وروح قالا: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن عيسى، رجل من بني أسد، عن زر، عن عبد الله قال: قال رسول الله r: (إن الطيرة من الشرك، وما منا إلاَّ، ولكن الله يُذهبه بالتوكل ). ...حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا مروان بن معاوية بن الحارث، قال: حدثنا ابن المبارك عن عوف، عن حبان بن قطن، عن قبيصة ابن المخارق، قال: سمعت النبي r
تاريخ النشر : 16-01-2010
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.