إن الحديث عن حوار الأديان /تعارف الثقافات والحضارات أضحى موضوع الساعة اليوم ،بخاصة بين العالم الإسلامي من جهة ،والغرب المسيحي من جهة ثانية .فالملاحظ أن هناك نشاطا كبيرا في تبادل المعلومات والخبرات بخصوص موضوع يطلق عليه اسم حوار الأديان والحضارات .
وهو حوار يعد في نظر دوائر واسعة من الرأي العام أمرا جديرا بالثناء ،كما أن هناك من يقول إن مساندته تصرف سياسي سليم. ذلك أنه "لا سلم بين الأمم بدون سلم بين الأديان على حد تعبير هانج كينغ .
ليغدو الحوار ضرورة حضارية ،بين عقلاء القوم لتجنيب البشرية ويلات تصادم لا يبقي و لا يذر ،أو مغبة عداء فيه إفقار للفكر وإجهاز على الأخلاق وتدمير للمستقبل والأمل ..وقد ارتأى كثير من المفكرين أن سبيل هذا الحوار يتم من بوابة الدين على اعتبار أن الدين إلى جانب نزوعه الروحي هو موطن الذات ومسكن الهوية إلى جانب اللغة ...1
بيد أن الدعوة إلى الحوار الديني بين العالم العربي الإسلامي والغربي المسيحي على الرغم من أنها "فكرة في حد ذاتها فكرة جميلة ومغرية ،لكنها هي نفسها عسيرة ..تزداد عسرا عندما يتعلق الأمر بفضاء ين ثقافيين مختلفين يتنافسان على ضفة المتوسط منذ أكثر من ألف سنة ."
لتواجه كل مؤيد للحوار متحمس لإجرائه بين العالمين .مجموعة أسئلة هي بمثابة إشكالات عويصة ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
1-من يضمن أن يتحول هذا الحوار إلى أداة جديدة للتبشير وأرضية للتنازلات ..؟
2-هل يكفي مع الآخر تكثيف اللقاءات والتكثير من عقد الندوات والمؤتمرات وتحديد التوصيات ،وتركها على الرفوف دون العمل بها وتنزيلها على أرض الواقع ؟
4-ما جدوى هذا الحوار و الآخر يستبعدنا ويستعبدنا و يستحوذ على خيرات أوطاننا ..؟ألا يجدر بنا إشاعة خطاب الصراع بدل إشاعة خطاب سلمية العلاقة من خلال الدعوة إلى الحوار ؟
إنها إشكالات خطيرة يصعب حلها بالنظر إلى طبيعة السياق الذي تنبعت فيه اليوم نداءات الحوار بين الأديان ،سياق من أهم مؤشراته حالة اللاتكافؤ بين العالم الإسلامي و العالم الغربي المسيحي .ذلك أن الحوار :
*يدور بين طرفين غير متكافئين سياسيا واقتصاديا ومعرفيا . غرب مسيحي تتوحد مؤسساته السياسية ، ويستجمع قواه الاقتصادية رغم كل الفوارق اللغوية ،والجغرافية ،والتاريخية ..بين مكوناته.
وعالم إسلامي ينتظم وجوده في تاءات ثلاث : التخلف ،التبعية ، التجزئة ..ومن مؤشرات الشتات الذي يعيشه عالمنا الإسلامي فقدانه لمؤسسة سياسية تستطيع أن تقف موقف الند للند أمام الطرف الآخر ..بالرغم من التواجد "الصوري " الاسمي للجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي .ليبقى عالمنا الإسلامي مشتتا عاجزا عن الوحدة والتوحد .ويكفي أن نذكر كمؤشر دال على خطورة المأزق ،عجز العرب على إصلاح سكة الحديد بالحجاز التي كانت تربط بين السعودية –الأردن-سوريا،منذ تحطيمها من طرف لورانس في 1916م.
*يدور الحوار بين طرف سياسي تصالح مع جماهيره فمنحها حقوقها كاملة غير منقوصة الطبيعية منها والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ..ووفر المؤسسات التي تحمي هذه الحقوق وترعاها .
وطرف سياسي آخر يعيش أزمة مع جماهيره ،حيث حرمها من حقوقها ،نتيجة استبداده السياسي وظلمه الاجتماعي ،مع ما يصاحب ذلك من تسلط وقهر وقتل للطاقات وروح التجديد والاجتهاد ..
وبين طرف تنكر لتراته وهويته التي تشكلت شخصيته في إطارها فارتمى في أحضان الآخر الغالب القوي محاولا إتباع الطريق الذي سلكه لتحقيق النهضة التي حققها ،فألغى كل الثوابت الدينية ..رغم الاختلاف في الأصول .
إنها مؤشرات كلها تدل على وجود اختلال بنيوي على المستوى العالمي يتميز بالتفاوت بين العالمين في الثروة والسلطة والمعرفة والقوة والوعي بالذات .
وبهذا يغيب أهم شرط من شروط الحوار المتمثل في توازن القوى .وعليه "فلا ينبغي للعالم الإسلامي أن يتوهم أنه طرفا في حوار وهو في حالة ضعفه ،فلا بد له قبل الحوار أن يتجاوز حالة الضعف ،وأن يحقق توازنا ولو في حدود معينة مع الطرف الآخر فذلك التوازن ضروري للعالم الإسلامي لبلوغ مستوى الشريك في الحوار ، فإذا توازنت القوى كان هناك مجال للحوار ".ومادام عالمنا الإسلامي عاجزا عن تحقيق هذا النوع من التوازن مع نظيرة الغربي المسيحي.فهل يمكن أن نتصور حوارا قائما أو يقوم بين العالمين ؟
"إذا أردنا أن نجيب بكلمة واحدة فنقول :لا .لا يمكن أن يقوم العرب والمسلمون في وضعهم المتهالك هذا حوار فلسطيني إسرائيلي ،و لا حوار عربي إسرائيلي ولا حوار عربي أمريكي ولا إسلامي مسيحي .."1.قبل أن يتأهل العالم الإسلامي لذلك ،وطريق تأهله يبدأ من إعادة بناء نفسه ؛وأمر بناء النفس ؛يمر بعقد تصالح شرف بين القيادة السياسية وجماهيرها وخاصة العالم والمثقف.؛وضمان الممارسة الديمقراطية و ما سيتتبعها من إقرار للحقوق و تكريم للإنسان ...
ويفتتح بعلاج أزمة عالمنا الإسلامي الفكرية إذ هي الأزمة الأم والعلة الكبرى .وما الأزمات الأخرى إلا نتيجة لها ،أو مظهر من مظاهرها أو انعكاس لها في جانب محدد..
إن "الانحسار الحضاري أو الأزمة الحضارية، التي نعاني منها اليوم هي أزمة فكر أولا وقبل كل شيء، لأن النسق الفكري للحضارة الإسلامية توقف عند حدود العقول السابقة، وكأن الله خلق عقولنا لنعطلها عن الإنتاج، ونعتبر العصور الأولى هي نهاية المطاف، وغاية البعد الزمني بالنسبة للرسالة الإسلامية، حتى انتهينا إلى هذه المرحلة من الانحسار والاستفزاز والتحدي الحضاري".
بناء عليه فـ "الغياب الحضاري، أو الأزمة الحضارية، التي نعاني منها ليست بسبب الفقر في القيم، التي أكملها الله، وتعهد بحفظها في الكتاب والسنة، الأمر الذي تستلزمه خاصيتا الخلود والخاتمية في الرسالة الإسلامية، أو بتعبير آخر : ليست المشكلة، التي يعاني منها العقل المسلم اليوم، مشكلة قيم أو أزمة قيم، وإنما المشكلة كل المشكلة في العجز عن التعامل مع القيم، والإنتاج الفكري، الذي يجسر العلاقة بين القيم، وبين العصر، أو يساهم بتعدية الرؤية القيمية المحفوظة بالكتاب والسنة، ويفيد من خلود الرسالة الإسلامية وقدرتها على العطاء المتجدد، والمجرد عن حدود الزمان والمكان، لحل المشكلات الإنسانية، وهذه وظيفة الفكر أو عالم الأفكار الذي نعاني من التأزم فيه ...".
الأزمة فكرية ... جوهرها منهجي
لقد "أدرك المهتمون بقضايا الأمة أن سائر الأزمات التي تعاني منها، إنما هي في منهج الفكر، وما الأمور الأخرى إلا انعكاسات وآثار مختلفة لتلك الأزمة، لقد اختل منهج الفكر وميزانه بعد أن خالطته الأهواء والانحرافات، واعتمدت الرؤية واختلطت أمام الأمة الأوراق، واختلت الموازين واضطربت الأوليات ... وأصبح انحطاط فكر الأمة وتخلف منهجها الفكري معوقا جوهريا يحول دون نجاح سائر محاولات الإصلاح المخلصة التي لم تتبين موضع الفكر ومنهجه كمصدر للتخبط والتدهور".
وهذا ما توصل إليه الدكتور الشاهد البوشيخي حيث يرى أن "مشكلة المنهج هي مشكلة أمتنا الأولى، ولن يتم إقلاعنا العلمي، ولا الحضاري إلا بعد الاهتداء في المنهج للتي هي أقوم، وبقدر تفقهنا في المنهج ورشدنا فيه يكون مستوى انطلاقنا كما وكيفا".
ويعتبر الدكتور طه جابر العلواني غياب المنهج : البعد الأول من الأبعاد الغائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة، إذ يقول :"ليس ما ندعو إليه ونعمل لتحقيقه مجرد التأكيد على وجوب تمسك الإنسان، بالمبادئ أساسية الإسلامية وإن كان ذلك مهما ولاشك، بل لابد من الأخذ بمنهجية قادرة على مستوى عالمي، على التحرك في الواقع والتأثير في مناهج العلوم والأنساق الثقافية والحضارية، فهذا هو "الغائب الأول".
الحاجــة ... إلى المنهـج
إذا، أزمة الأمة الإسلامية أزمة فكرية – تندرج تحتها سائر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية- جوهرها منهجي، ناتجة عن اختلال في طرائق ومناهج الفكر الإسلامي، ومن تم فلا سبيل-في اعتقادي- أمام المسلمين لتجاور أزماتهم، وتحقيق نهوضهم الحضاري سوى الأخذ بقواعد المنهج "فالمنهج هو الطريق ... بل إنه –في اصطلاح العربية- "الطريق المستقيم" وليس مطلق الطريق ولا أي طريق !... إنه في موضوعنا : الطريق والنظام والإطار الحاكم والجامع والرابط والناظم للمعالم التي تحدد مكان ومكانة الإنسان في هذا الكون ... ورسالته في هذا الوجود ... وعلاقته بالأغيار ... ومصيره بعد هذه الحياة الدنيا ... "ودون منهج فليس ثمة طريق يوصل إلى الأهداف مهما بذل من جهد وقدم من عطاء".
ويحتل المنهج هذه المكانة لكونه "يمد الأمة إلى جانب المعرفة بدلالات النصوص –بالمعرفة بالطبائع والفطرات والوقائع والأحوال في الزمان والمكان حتى تتمكن الأمة من بناء فكرها ونظمها ومؤسساتها وسياساتها التي تحقق غايات الإسلام وقيم الإسلام ومبادئ الإسلام". فالحاجة الملحة تتعمق يوما بعد آخر إلى المنهج "لأنه إذا صح المنهج صح الفكر، وأمكنه أن يمد الأمة بالطاقة اللازمة لنشاطاتها وحاجاتها كافة على الوجه الذي ترى الإفادة منه في جهود البناء والإصلاح والإعمار ومواجهة التحديات".
وفي سعينا لهذا الإصلاح يواجهنا سؤال : من أين نبدأ ؟
الإصلاح التربوي ... أساس القدرة ونقطة الإنطلاق
لما كانت أزمة الأمة فكرية جوهرها منهجي، فإن سبيل الأمة الإسلامية للخروج من هذه الأزمة، واسترداد دورها الفاعل وإشعاعها الحضاري وإحداث التغيير المأمول، والإقلاع من جديد ،و تحقيق حالة التوازن مع عالم الغرب المسيحي الضامنة لقيام حوار مثمر وفعال بين العالمين . الإصلاح التربوي / التعليمي الذي يعد المبتدأ والمنتهى.
فـ"نهوض الأمم وسقوطها وتقدمها وتراجعها منوط [بمناهج التربية والتعليم فيها] فإن الأمة إذا نجحت في برامجها التربوية حققت أهدافها، وإن أخفقت تراجعت عن أهدافها؛ والأمة الإسلامية نموذج حي، شاهد على صدق ذلك، فبالرغم من كثرة أبنائها، ووفرة مواردها، وتميز مواقعها، وغنى تاريخها، وكمال دينها، فإنها في درك من السوء يستدر أحيانا شفقة خصومها، وعطف أعدائها. والسبب الأساس وراء ذلك انهيار دعائم نظم التربية فيها وتذبذبها، وعدم وضوحها، فلم تعد الأمة قادرة على تكوين الإنسان الذي يقوم بمهام العمران لا في قابلياته، ولا في دواقعه، ولا في استعداداته"[12].
وعليه فـإن "نقطة الإنطلاق في المعالجة والنهوض والإصلاح والتغيير للواقع، إنما تبدأ من محاضن التربية والتعليم بمفهومها الواسع، وتنتهي في التربية والتعليم، مهما حاولنا التأكيد واستشمار الأهمية للمواقع الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ... وغيرها. فالتربية والتعليم هي السبيل الأوحد للإصلاح، والبناء والنهوض والتطوير والتغيير، وإقامة مجتمعات المستقبل، وهي الرحم التي تتخلق فيه وتنمو وتتغدى وتمتد وتتوجه أنهار الحياة المتدفقة والممتدة.
لذلك فقد لا يكون غريبا ولا مستغربا أن يبدأ الوحي، أو تبدأ الخطوات الأولى للرسالة بقوله تعالى "إقرأ" ... كمدخل حضاري ومفتاح ثقافي ووسيلة تربوية ومنطلق علمي، لتحقيق التوجه دائما إلى الكمال والاكتمال لرحلة الحياة ... فبداية الوحي بـ "إقرأ" ومن تم تحديد مقصد القراءة وهدفها ووجهتها باسم الله الذي خلق، وباسم الرب الأكرم، له دلالته الواضحة في تحديد نقطة الإنطلاق لكل إصلاح وبناء وتغيير.
ومهما حاولنا وتوهمنا أن النهوض والتغيير والإصلاح يمكن أن يتم خارج مواقع التعليم، فإن التاريخ والواقع والتجربة الذاتية والعالمية. تؤكد أن التربية والتعليم هي –كما أسلفنا- السبيل الأوحد، إلى درجة يمكن أن نقول معها بدون أدنى تحفظ : إن التربية هي التنمية بكل أبعادها، وأي مفهوم للتنمية بعيد عن هذا فهو مفهوم جزئي وعاجز عن تحقيق الهدف. لذلك فإن أية تنمية لا يمكن أن تتم خارج رحم التربية ومناخها، وإن المدارس والمعاهد العلمية والتربوية، هي طريق القادة السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والتربويين والإعلاميين والعسكريين وسائر المواقع الأخرى".
ومن ثم "فإنه لا أمل في إعادة بناء الأمة وتجديد ما بلي من طاقاتها بدون إعادة النظر في فلسفتها التربوية ورؤيتها الكلية ونظرياتها في إعداد إنسانها عقليا ونفسيا لتعود إليه قابلياته وقدراته ودوافعه وفاعليته الحضارية والعمرانية، ويغادر مستنقع الغثائية".
وقفـة ... لابـد منهـا
لقد كثر الحديث عن الإصلاح التربوي في عالمنا العربي والإسلامي إلى درجة تثير الحيرة ؛ فبدلا من أن يقود هذا الإصلاح إلى وضوح الطريق يقود إلى نتائج عكسيـة
–كارثية-، وذلك راجع بالأساس إلى عدم اهتمام القائمين على الإصلاح بقضـايا المنهج -بالشكل الذي بيناه آنفا- والاكتفاء بالشعارات الجوفاء دون خطط مدروسة قادرة على صياغة مناهج وطرائق تمكن من تحويل تعاليم الوحي لتصبح مكونات أساسية في فكر جميع فئات المجتمع وثقافتهم وأخلاقهم. وعليه فـ"إن إصلاح نظام التعليم لا يتأتى بالاحتجاج على الواقع – وإن كان الأصل أن الإحساس بالأزمة يقود إلى إدراك أبعادها، ويبصر سبيل العلاج – ولا يتأتى بمجرد الإذانة للناتج، والمقارنة مع الآخر" ولا باستيراد أشياء "الآخر" وفلسفته التربوية، ولا بالاغتراف من أوعية "الآخر" ولا بترجمة سياسته التربوية والتعليمية، ولا بالتأنق في العبارات وحسن رصفها، ولا حتى الاحتماء بالتاريخ التعليمي لفترات التألق الثقافي والإنجاز الحضاري، لتجاوز مركب النقص وإنما يتأتى بالدراسة الميدانية، طبقا لأدوات البحث الحديثة، وتحديد موطن الخلل، ودراسة أسبابه ووضع خطة متأنية للمعالجة ضمن زمن كاف، وعدم الاستعجال للنتائج، وتجاهل سنة الأجل، لأن التربية والتعليم من الصناعات الثقيلة البطيئة والمديدة، التي قد لا تتحصل نتائجها في جيل واحد، حيث لابد أن تدرك طبيعتها النوعية التي لا ينفع معها الاستعجال، لأن الاستعجال قد يؤدي إلى البتر والارتكاس، بدل أن يؤدي إلى النمو والرتقي.
فالعملية التربوية والتعليمية لها خصوصيتها في كون أداتها الإنسان، وموضوعها الإنسان، في الوقت ذاته، لذلك أي خطأ فيها يشكل ألغاما اجتماعية يمكن أن تؤدي إلى نتائج خطيرة ومدمرة".
الإصلاح التربوي ... إمكان ذاتي
إن الإصلاح التربوي إمكان ذاتي ينطلق من الذات مراعاة قيمها وهويتها هادفا إلى ترسيخها وضمان قوتها مما يمكن من توحيد أفراد الأمة روحا وفكرا وسلوكا ومصيرا، غير أنه "وفي كثير من الأحيان قد يكون ذلك عن حسن نية، فنستورد المناهج والبرامج والسياسات التعليمية والتربوية التي أعدت لغير مجتمعاتنا، وضمن مرجعية غير مرجعيتنا، فتزداد المشكلة تأزما، والحال خبالا، ويزداد الشرخ بين أفراد الأمة، ويكبر التصدع والانشطار الثقافي، وتمزيق رقعة التفكير، لأن هذه المستوردات لا مشروعية لها في قمينا وميزاننا الثقافي ونظامنا الأخلاقي، وبكلمة مختصرة : فإن هذه النظريات التربوية والنظم المعرفية المستوردة لا مشروعية لها في إطار قيم الأمة وتاريخها وثقافتها، ولا بديل لنا ولا منفذ إلا بتطوير نظريتنا التربوية الذاتية والامتداد بها، ورسم سياستنا التربوية، وتحديد منطلقاتها، وتوضيح أهدافها، واكتشاف أدواتها من خلال قيمنا في الكتاب والسنة، ومواريتنا الثقافية وتقاليدنا الاجتماعية".
"ولعلنا نقول : إن المشكلة الأساس التي يعاني منها النظام التعليمي أو العملية التربوية والتعليمية بشكل عام [في العالم الإسلامي]، هي أنها في معظمها قائمة على التناقض في المرجعيات، والتشاكس في فلسفة التعليم وغموض أهدافه، الأمر الذي يؤدي إلى التعثر وتمزيق رقعة التفكير، واضطراب رؤية الحياة، وكيفية التعامل معها ... وبدل أن يكون نظام التعليم وسياسته سبيلا للترقي والتفكير والنمو، يصبح محلا للحيرة والارتباك والتلقين والعطالة وبعثرة المواهب..."
وعليه فـ "أهم المحاذير اعتبار الإصلاح والتغيير مجرد تطلعات وتنظيمات وترتيبات هيكلية وإدارية تصدر بها الأوامر وتلوي من أجلها الأذرع، وليست قضية فكرية عقدية تربوية تستقر في النفوس والضمائر وتجري في الأمة مجرى الدم وتحفر حفر الحجر، ومن تم فأي إصلاح تربوي تعليمي يجب أن ينطلق من الذات لحفاظ على قيم ومبادئ وعقائد الذات، والعمل على ترسيخها في ضمائر الناشئة منذ نعومة أظافرهم فلا يرون إلا بها ولا يتصرفون إلا على أساسها وتصبح ثوابتها لغة أولى لوجدانهم وتصوراتهم ومنطلقات فكرهم.
لذلك يجب أن تتضافر جهود الكل للعمل على بناء منهج تربوي متكامل سليم المنهج نقي الثقافة يستدرك الأبعاد التي أهملت في تربية النشء المسلم، التي يجب أن تنبني على الالتزام بمبادئ الإسلام وقيمه وعقائده، الدافعة نحو الإبداع والإعمار".
"ولاشك أن العملية التعليمية والتربوية عملية متراكبة وشاملة، وتخص الأمة جميعا، بأحيالها المتعاقبة وقيمها المتوارثة، وخبراتها المتراكمة، لذلك لا تجوز أن تقتصر مسؤوليتها وبناؤها على مجموعة واحدة، حتى ولو كانت من أهل الاختصاص في التربية والتعليم، وإنما لابد أن تشارك في بنائها وتقويمها ومراجعتها، مجموعة تخصصات نفسية، واجتماعية وأخلاقية وإعلامية وثقافية وتاريخية، بل وأكثر من ذلك إنها تخص كل أسرة وكل مؤسسة، وكل موقع من مواقع الحياة المختلفة، لذلك لابد أن تأتي السياسة التعليمية ثمرة لرؤية جماعية لكل فيها نصيب، فهي مسؤولية أمة، وهي مسؤولية عامة وتضامنية".
سبيـل ... الإصـلاح التربوي
"إننا إذا أردنا أن نقوم بإصلاح تربوي حقيقي فلابد لنا من إعادة النظر في رؤيتنا الإنسانية الحضارية بحيث تسعيد الأمة ويستعيد أبناؤها الجانب العام والجماعي في التضامن والتناصر بين أبناء الأمة في الأهل والجوار والوطن والأمة والإنسانية، وأن نعيد إلى حياة أمتنا وتنظيماتها ومؤسساتها الاجتماعية على كافة المستويات توازن الأبعاد الجماعية والفردية، كما نعيد إليها إيجابية الاستخلاف وروح جهاد البذل والإتقان والإحسان.
على مفكري الأمة وعلمائها أن يعيدوا النظر في منهجية فكر الأمة بحيث نعيد التوازن فيما بين دور النص للاستجابة للهداية الإلهية والإفادة من إيجابيات مفردات التراث وعبر التاريخ ودروسه، وبين دور العقل والمعرفة الإنسانية في معرفة الواقع وفهم العلل والطبائع الكونية في الأنفس والمجتمعات والكائنات لتسخيرها، وتنزيل مواقع الهدي الإلهي منها موقعها الصحيح في ترشيد الغايات والقيم والمفاهيم والأنظمة والممارسات، وتفعيل طاقات الإيمان ووازع الضمير وحس الجهاد والمسؤولية في أداء الفرد والمجتمع.
كما يجب على مفكري الأمة وعلمائها أن يعيدوا النظر في منهجية البحث والدرس والنظر العلمي والمدرسي لنتخطى المنهجية الجزئية النصية إلى المنهجية الكلية التحليلية المنضبطة التي تضع المفردات وأدوات النظر الجزئية في موضعها الصحيح بحيث يحيط الناظر بكليات الأوضاع والحالات والقضايا والطبائع، ويضع مفردات مكوناتها في موضعها الصحيح، وبأوزانها الصحيحة في سياقها الزماني والمكاني المناسب.
لابد للأمة من استعادة رؤيتها التوحيدية الكونية القرآنية وإصلاح مناهج تفكيرها وتربيتها للتخلص من أمراض السلبية والاتكالية ومن قصور الأداء، والتخلص من أمراض الفردية والتمزق والصراع، لتنتهي الأمة إلى نور الهداية، وعز العطاء، وقوة الوحدة والعلم والابداع. لابد لنا من تنقية ثقافتنا ومكوناتها من الضلالات والخرافات والشعوذة والخزعبلات.."
معالم الإصلاح التربوي ... للنهوض الحضاري
إن ما سبق التأكيد على ضرورة تحقيقه كسبيل للإصلاح، لا يكون إلا بإصلاح المنهج الفكري الإسلامي، وذلك ببلورة منهاج بنائي للفكر والعلوم الإسلامية، قادر على الاضطلاع بمهمات الإصلاح والتجديد والإحياء، وإطلاق القدرات في الاجتهاد والإبداع ... "منهاج كلي مستوعب تندرج تحته فروع منهجية بحسب الحقول العلمية، وهذا المنهاج ليس آلة محايدة، يقوم بوظائفه بمعزل عن أطره المرجعية، بل الأصل فيه أن يعكس رؤية تتجلى في جميع فروعه –فالفلسفة المادية الاستهلاكية الموجهة للغرب الآن والتي لا حضور فيها لعالم القيم والتراحم والأخلاق والمثل، تنعكس حتى على أدق العلوم التجريبية فتجلعها متحيزة ماديا لا إنسانيا-.
ومن معالم هذا المنهاج الأساسية :
1. أن ينطلق من مصادر المعرفة في تكاملها (الوحي – العقل – الواقع) حيث يتكامل عالم الغيب مع عالم الشهادة، وحيث تقرأ آيات الكون كما تقرأ آيات النص، فلا تطغى نزعة نصية على أخرى عقلية أو هذه على نزعة واقعية أو العكس.
2.أن يستصحب قيم الهداية والرحمة واستشعار مسؤولية الاستخلاف والتعمير وحمل الأمانة والشهادة على الناس، مما يجعل المعرفة المنتجة أو العلوم المستخلصة، شعارا للهداية والأمن والسلم والحوار والجدال بالتي هي أحسن من أجل قيم عليا تنفي عنها الأغراض والأهواء.
3.أن ينبني على خصائص : التوحيدية، والعالمية، والوسطية، والإنسانية والواقعية، تنفي عنه أشكال الإنغلاق والتحيز والغلو والتشدد، والإفراط والتفريط، والصورية والتجريد ... وما إليها.
4.أن تكون له محددات : كختم النبوة والهيمنة والتصديق والوحدة البنائية للنص ... وما إليها مما يحول دون تسرب الخرافات والشوائب والزوائد التاريخية.
ولعل التنزيل الجزئي لمعالم هذا المنهج في مصادره وقيمه وخصائصه ومحدداته على مختلف العلوم والمعارف الإسلامية، من شأنه أن يحدث تغييرات جذرية، وأن يجدد فيها أصولا وفروعا بما يستجيب وتطلعات وتحديات المرحلة الراهنة في نزوعها الكوني العالمي .... وهو في جميع الأحوال دون كونية وعالمية الرسالة".
إن هذا المنهج يستقي معالمه من الرؤية الكلية القرآنية المتصفة بالبعد الكلي الشمولي، والحس العام الاجتماعي الإنساني والتوجه الإيجابي العمراني ... ولاتصافه بذلك فإنه السبيل الأصلح "لإعادة التوازن بين النص الصحيح والعقل الصريح وبناء منهج تربوي يرفع عن أبناء الأمة سلطة القهر والترهيب لتنطلق طاقاتهم الخيرة وقدراتهم المبدعة في العطاء والبناء الحضاري".
إنه ولإحداث تغيير جذري في وجدان الأمة، وتحقيق إصلاح بنيوي لأوضاعها، يتوجب على مفكري الأمة وعلمائها ومثقفيها تولية وجوههم شطر الإصلاح التربوي التعليمي لأنه سبيل الإصلاح الوحيد الذي يمكن من إعادة بناء الأمة بناء قويا ويعيد شهودها الحضاري على بقية الأمم، عملا بقوله تعالى :"فلولا نفر من كل فرقة طائفة منهم يتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".
ويوم أن يتم إنجاز الإصلاح التربوي وفق المعالم والأسس السابقة الذكر فإنه يحق لنا يومئذ أن نتطلع، ويتطلع معنا العالم ... إلى حياة مطمئنة سليمة تتحقق فيها كرامة الإنسان.وقيام حوار إيجابي يقوي فرص التعايش السلمي بين أصحاب الأديان والملل ،ويؤدي إلى التعاون الموصوف بالبر والتقوى بين العالمين الإسلامي والغربي المسيحي على غرار عالمية الإسلام الأولى التي شهدت فيها الإنسانية نظام عالمي انمحت فيه كل أشكال التفرقة والتميز العنصري بين شعوب العالم .
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.