تمهيد :
كفّ الرّبط بين الفكر الأسطوري والطقوس الدينيّة أن يكون فتحا معرفيّا في المرجعيّات الأنتروبولوجيّة المختلفة باعتبار رسوخ النظرية القائلة بثبات الوشائج الوثيقة بين هاتين الظاهرتين ، حتّى أنّه يصعب الفصل المنهجي بينهما في كثير من الأحيان . وعلى غرار السيرورات التاريخيّة للأديان القديمة لم يخل التشيّع من الفكر الأسطوري ، بل حوّله في مناسبات عدّة إلى آليّة ضروريّة لتجاوز الإرباك المنهجي في بناء مقولاته الخاصّة ، ولعلّ مقولة الإمامة أكثر هذه المقولات ارتباطا بالأساطير باعتبار ما طرحته من تحدّيات معرفيّة يراها بعض الدّارسين منافية بشكل صريح للنصّ القرآني والسنّة النبويّة .
بهذا المعنى تصبح الأسطورة ظاهرة إيديولوجيّة (1) تهدف إلى الإجابة عن مشغل عمراني طالما هدّد النظريّة الشيعيّة بالاندثار بحكم افتقارها إلى الطاقة الإقناعيّة العقلانيّة وانصرافها إلى توسّل الوثوقيّة العقديّة التي ارتقت في أحيان عدّة إلى تأسيس مشروع بديل " للإسلام الرّسمي " ـ أو على أقلّ تقدير ـ محايث له. فلئن كانت الأسطورة الكوسموغونيّة المتّصلة بخلق الكون تستجيب لحاجة دينيّة عميقة بعبارة مالينوفسكي (2) ، فإنّ الأسطورة الشيعيّة تجاوزت سدّ هذه الحاجة إلى تشكيل آليّة فعّالة ـ بين أنصارها ومعتنقيها ـ حتّى تؤكّد استقلاليّة الفرقة وتمكينها من أسباب الاستمرار والسّيادة ، وهي مفاهيم عمرانيّة محوريّة لاستيعاب نُظُم تشكّل الفرق الهامشيّة خارج دائرة الإسلام الرّسمي .
أســطـورة الحجـر الأسـود :قراءة بنيوية
تطالعنا الأدبيّات الشيعيّة بكثير من النّصوص التي تشكّل الأسطورة أبرز دعائمها ، ومنها هذا النصّ الذي أوردته مصادر مختلفة :
" قال علي بن الحسين لمحمد بن الحنفيّة :" انطلق بنا إلى الحجر الأسود حتّى نتحاكم إليه ونسأله عن ذلك ، قال أبو جعفر : وكان الكلام بينهما بمكّة ، فانطلقا حتّى أتيا الحجر الأسود ، فقال علي بن الحسين لمحمّد بن الحنفيّة : ابدأ أنت فابتهل إلى الله عزّ وجلّ وسله أن ينطق لك الحجر الأسود ثمّ سلْ ، فابتهل محمّد في الدّعاء وسأل الله ثمّ دعا الحجر فلم يجبه ، فقال علي بن الحسين ، يا عمّ لو كنت وصيّا وإماما لأجابك ، قال له محمّد : فادع الله أنت يا ابن أخي وسله ، فدعا الله علي بن الحسين بما أراد ، ثمّ قال : أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق النّاس أجمعين لما أخبرتنا من الوصيّ والإمام بعد الحسين بن علي ؟ قال : فتحرّك الحجر حتّى كاد أن يزول عن موضعه ، ثمّ انطقه الله عزّ وجلّ بلسان عربيّ مبين ، فقال : اللهمّ ، إنّ الوصيّة والإمامة بعد الحسين بن علي إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب " (3).
يكتسب هذا الخبر نفَـسَــه الأسطوري بالنّظر إلى محوريّة الدّور المسند إلى الحجر الأسود في فضّ التّنازع حول الأحقيّة في الوصيّة ، وأسهمت خطّة البناء السّردي في تعظيم هذا الدّور باعتبار أنّ النصّ على أحقيّة علي زين العابدين في الإمامة لم يتمّ بشكل آليّ ، إنّما استتبع عمليّة التقاضي " الممسرحة ( رغم غياب الجمهور)": كلّ طرف عرض طلبه على الحجر الأسود راجيا أن يحكم له ، فأمسك عن التّصريح بالأمر لمّا دعاه محمّد بن الحنفيّة ، وصدح بالحقيقة لمّا دعاه علي زين العابدين ، أمّا لِـــمَ تمّ تقديم محمّد بن الحنفيّة ( ابدأ أنت ) فالأمر في غاية الجلاء ، إذ لا بدّ من التّنصيص من أن ابن الحنفيّة لا حقّ له في الإمامة نصّا ( من الحجر الأسود) وليس تأويلا ، لذلك عمد واضعو الأسطورة إلى نقل وقائع التّحاكم بتفصيل وتدقيق .
وحتّى نتبيّن إيغال هذا الخبر في الأسطوريّة لا بدّ من تعريف الأثافي التي قام عليها تعريفا وظيفيّا:
ـ محمّد بن الحنفيّة : أورد أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في تعريفه أنّه " كان كثير العلم غزير المعرفة وقّاد الفكر مصيب الخاطر في العواقب قد أخبره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أخبار الملاحم وأطلعه على مدارج المعالم ، وقد اختار العزلة ، فآثر الخمول على الشّهرة ، وقد قيل إنّه كان مستودع علم الإمامة حتّى سلّم الأمانة إلى أهلها وما فارق الدّنيا إلاّ وقد أقرّها في مستقرّها".(4)
ـ علي زين العابدين بن الحسين: أجمعت كلّ المصادر الإسلاميّة على سعة علمه وشدّة ورعه، وانصرافه عن الدنيا ، وانشغاله بالعبادة ، فهو "قدوة الزاهدين، وسيّد المتقين، وإمام المؤمنين، شيمته تشهد له أنّه من سلالة رسول الله وسمته يثبت مقام قربه من الله زلفاً، وثفناته تسجّل له كثرة صلاته وتهجّده، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها، درّت له أخلاق التقوى فتفوّقها، وأشرقت له أنوار التأييد فاهتدى بها، وآلفته أوراد العبادة فآنس بصحبتها" (5)
من خلال هذا التعريف الوظيفي لابن الحنفيّة ولزين العابدين نلاحظ أنّ اتّصافهما بالورع والتّقوى ورجاحة العقل ، والانصراف عن الدّنيا ، والانشغال عنها بالآخرة خصال مانعة من أن يصدر منهما ما أوردته المصادر الشيعيّة الاثنا عشرية بشأن احتكامهما إلى الحجر الأسود للفصل بينهما في قضيّة الأحقيّة بالإمامة ، كما أنّ إيراد هذه النصوص الأسطوريّة يتعارض مع ما دأبت عليه الأدبيّات الشيعيّة من التنصيص على معرفة الأئمّة بالغيب وبعلم ما سيكون ، فكيف يمكن القبول بهذه المقالات والحال أنّهم يتنازعون أمر الإمامة فيما بينهم ،
ـ الحجر الأسود : لم تهتمّ الأدبيّات الإسلاميّة كثيرا بأمر الحجر الأسود ، ولعلّ أكثر الأخبار تواترا في الذاكرة الجمعيّة الإسلاميّة بشأنه قول عمر بن الخطّاب الذّائع "لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ، ما قبلتك" ، وفي ذلك بيان لأهميّة التسليم للشّارع في أمور الدّين ، وحسن الاتّباع له في ما لم تظهر معانيه ، و نفي أن يكون للحجر الأسود ما به يستوجب التعظيم في ذاته وتقديسه تقديسا يخرج به عن أمر الاتّباع إلى الابتداع ، ولعلّ الأحداث التاريخيّة أكثر ما يستدلّ به على طبيعة الحجر واستحالة أن يكون من القداسة بحيث "جعل فيه ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق النّاس أجمعين" ، فقد أخذه القرامطة ، وغيبوه اثنتين وعشرين سنة .
إنّ ما تقدّم من تفصيل في بيان خصائص مقوّمات نصّنا الأسطوري لا تدع مجالا للشكّ في كونه لا يمتّ للحيقية بصلة ، إنّما نشأ في إطار اعتمال عمراني تقصّى سبل التأسيس لحصر الإمامة في أبناء الحسن والحسين ابني علي ، ونفيها عن غيرهم وذلك ما تؤكّده الوقائع التّاريخية .
الملابسات التاريخيّة التي حفّت بنشأة هذا النصّ
تفيد الوقائع التّاريخية أنّ المختار الثقفي عرض على علي زين العابدين أن يتولّى أمر الدّعوة إليه والثأر لآل البيت إلاّ أنّ عليّا رفض ذلك لأمرين أساسييّن :
ـ عدم الاطمئنان لشخص المختار بحكم ما عرف عن هذا الأخير من حرص على تحقيق مآرب دنيويّة وإسرافه في ذلك إسرافا جعل الكثيرين يتوجّسون منه .
ـ انصراف علي زين العابدين عن أمور الدّنيا ، والاشتغال بالعبادة ، فلم يجد في أمر الدّعوة ما يستهويه ، ويدفعه إلى القيام إليها .
ولم يجد المختار الثقفي عندئذ بدّا من الاتّصال بمحمد بن الحنفيّة ، والنهوض بأمر الدّعوة باسمه لما يتيحه ذلك له من تعبئة شعبيّة ضروريّة لمنازلة الأمويين والزبيريين على حدّ سواء ، وعمد ـ تأصيلا لدعوته ـ إلى تأسيس مقالات مغالية في الإمام لعلّ من أهمّّها الوصيّة والمهديّة مستفيدا في ذلك من الثقافات المشرقيّة القديمة التي سادت زمنا طويلا في بلاد فارس ، وشاعت هذه المقالات بين فرق مغالية ، وتطوّرت وسادت فضاء معرفيّا شاسعا حتّى بعد مقتل المختار سنة 67هجريّة .
وأثارت وفاة ابن الحنفيّة سنة 81 هـ مأزقا حقيقيّا أمام استمرار مقالة الإمامة ، بحكم تشتّتالنّاس واختلافهم اختلافا ينذر بنهاية أمرهم ، فمنهم من اعتقد بعودة ابن الحنفيّة بعد الغيبة ، فهو بزعمهم لم يمت إنّما التبس أمره على النّاس ، ومنتهى الأمر أنّه انتقل للإقامة في جبل رضوى منتظرا زمن العودة ليملأ الأرض عدلا وليقيم الحجّة على النّاس(7) ، ومنهم من بايع أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفيّة وزعموا أنّ أباه أوصى له ، ومنهم من بايع أبناء علي بن الحسين ـ زيدا فمحمّدا ـ
وفي خضمّ هذا الصّراع على أمر الإمامة ومن هو حقيق بها نفهم الحيثيّات التّاريخيّة التي التبست بها نشأة هذا النصّ الأسطوريّ ، فهو من نتائج الأدبيّات الحجاجيّة التي أرساها الفكر الاثني عشري سعيا منه إلى تأصيل مقالة الإمامة أوّلا ، وبزّ أتباع الفرق الأخرى ثانيا ، وهو نموذج يبيّن الآليّات المعرفيّة التي توسّلتها الإماميّة في تشكيل أنساقها الفكريّة التي صادرت من خلالها العقل النقديّ الفعّال ، وضمنت بالاستتباع استمرارها التّاريخي .
الهوامش :
1 ) هذا المقال ليس خطاب انتقاص ، كما أنّه ليس خطاب تمجيد ، وكلّ ما في الأمر أنّنا نرى أنّ التراث الشيعي والتراث الصوفي كليهما جدير بمقاربة تعي أهميّة حضور الأسطورة في متنيهما ، ولعلّ ذلك ما يكسبهما قدرة على الاستمرار في عصر أحكم فيه العقل النّاقد سطوته .
2) Carolle Gagnon : Nouvelles mythes , Philosophiques ,vol,n 2 ,1994 ,p.p 471- 481.
3) Cite in Mircea Eliade ,Aspects du mythe ,Paris ,gallimard ,1963,p.15.
4 ) أورده ـ بألفاظ مختلفة ـ كلّ من : الكليني : الكافي ، كتاب الحجّة ، و الصفّار : بصائر الدرجات، ج10 ، ص 502 ، وابن بابويه : الإمامة والتبصرة، ص 60 .
5 ) أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني : الملل والنّحل ، ج1 ، ص 150 .
6)محمد كمال الدين الشافعي : مطالب السؤول ج 2، ص 41 .
7) ابن حجر العسقلاني : فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج3 ، ص 370 .
8) البغدادي : الفرق بين الفرق ، ص 27 .
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.