عنوان الكتاب : تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير
المؤلف : أبو الحسن الحرالي المراكشي
الناشر : مطبعة النجاح الجديدة
المدينة : الدار البيضاء
السنة : 1997
صفحات : 632
يكتنف التراث الإسلامي عدداً لا بأس به من الأعلام المجهولين الذين غطت على ذكرهم أسماء أخرى اشتهرت في عصرهم أو اختصاصهم، وتتسبب ظروف متعددة في شهرة البعض أو طي ذكر البعض الآخر؛ فالمكان الذي يقيم فيه الشخص والدور التاريخي والحضاري لهذا المكان قد يؤثر في ذلك، والسياسة من جهتها قد ترفع رجالاً ليسوا على قدر، وتطوي آخرين كانوا من أهل الفضل والمكانة، وموقف يقفه العالم قد يرفعه ويعلي ذكره، أو يطويه ويحطمه، تلك سنة جرت في التاريخ قديما وحديثا، لكن قراءة التراث وتصنيف مكانة رجاله في ضوء ما آل إليه الأمر فيه كثير من الظلم لمكانة بعض الرجال والعلماء، وفيه شيء من الخلل في التأريخ العلمي، لاسيما عندما تكون لبعض الأعلام بصمة متميزة في مجال أو أكثر من العلوم والمعارف.
ويعتبر أبو الحسن علي بن أحمد التجيبي الحرَالِّي المراكشي (ت638هـ) واحداً من الشخصيات التي لم تلق حظها في تأريخ العلوم، فقد كان مشاركاً في علوم متنوعة، منها المنطق والفلسفة والتعاليم، وعارفاً بالحديث والفقه، والأصلين (أصول الدين وأصول الفقه), أما التفسير والتصوف فقد كتَب فيهما الكثير، وكان قد دخل الأندلس وعاش في مرسيه, التي يرجع إليها أصله، والتي أنجبت ابن عربي الصوفي المعروف الذي استضافه لاحقاً في دمشق ثلاثة أيام، ثم طلب منه أن يغادرها، فرحل الحرالي إلى "حماه" وسط سورية وتوفي فيها.
وفي الوقت الذي اشتهرت فيه كتب ابن عربي ونشرت على نطاق واسع لم تنشر كتب الحرالي وبقيت مخطوطة ومجهولة، إلى أن أخذ الدكتور محمادي الخياطي على عاتقه جمع تراثه، لاسيما ما يتعلق منه بالتفسير لما له من أهمية وخصوصية، وقد أحصى من مخطوطاته المتوفرة أحد عشر عنواناً، ومن كتبه التي أشار إليها البقاعي وكان ينقل عنها في تفسيره كتاب "في أصول الفقه" وكتاب "شرح أسماء الله الحسنى"، أما كتبه في التفسير فكان لها أهميتها وشهرتها في عصره، وقد اعتمد عليها المناوي في كتابه "التوقيف على مهمات التعاريف"، ويبدو أنها أثارت جدلاً في عصره حتى حرص العز ابن عبد السلام على الاطلاع عليها وانتقدها لخلوها من التفسير بالمأثور، وما يزال تفسيره مفقوداً، لكن بعض نصوصه مضمنة في تفسير الإمام البقاعي "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، وقد قام بجمعها من نظم الدرر المحقق الدكتور الخياطي، ونشرها في المغرب ضمن الحلقة الأولى من سلسلة تراث أبي الحسن الحرالي، وضم إليها ثلاث رسائل في أصول التفسير، هي: "مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل" و"عروة المفتاح" و"التوشية والتوفية"، وتقع الرسائل في مئة وعشرين صفحة تقريباً، وأتبعها بما جمع من نصوص تفسير الحرالي المضمنة في تفسير "نظم الدرر" حتى الجزء الرابع قرابة أربع مئة صفحة، ليكون مجموع الرسائل والتفسير 632 صفحة.
هذا ومما يميز إنتاج الحرالي في التفسير –كما يلاحظ محقق أعماله– "أن له فيه اجتهادات خاصة، جعلته يشعر القارئ أنه يؤسس أو يضع قوانين علم جديد –لفهم القرآن- مثل القوانين التي وضعها أبو الأسود الدؤلي لعلم النحو، والإمام الشافعي لعلم أصول الفقه" (ص7)، وقد صرح الحرالي بذلك، ونسب الأمر إلى شيخه أبي عبد الله القرطبي (ت631هـ) الذي تتلمذ عليه في المدينة المنورة، وأفاد من دراسة تفسير الفاتحة عليه كما يقول: "قوانين في التطرق إلى الفهم، تنزل في فهم القرآن منزلة أصول الفقه في فهم القرآن" (ص27-28)، وقد جعل هذه القوانين في فهم القرآن هي موضوع رسالته الأولى التي سماها:
مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل
يفرق الحرالي في هذه الرسالة بين التفسير الذي قوانينه علم النحو والأدب، وهو ما بدا منه في يوم الدنيا، والتأويل الذي قوانينه علم الإيمان، وهو ما يبدو من القرآن في يوم الآخرة، والفهم لما عليه القرآن دائماً، حيث لا ليل ولا نهار. ويعتبر الحرالي الفهم شأناً قلبياً اختص الله به بعض عباده، ويسجل في رسالته ما يعتبره قوانين لهذا الفهم، فيتحدث في الباب الأول عن "علو بيان القرآن على بيان الإنسان"؛ إذ بيان الله مرتبط بإحاطة علمه ويخبر بالحق والواقع، وفي الباب الثاني عن "جمع القرآن لنبأي الإفصاح والإفهام"؛ ففيه الإجمال والتفصيل، والإفصاح والإفهام، "فمتى أنبأ عنه تعالى أخذ الفاهم مقابل ما يتلو إفصاحاً في قلبه عن العبد مفهوماً، فيملأ القرآن قلبه بإفهامه، ويملأ سمعه بإفصاحه" (ص31)، ويتحدث في الباب الثالث عن "إبانة القرآن عن ألسنة ذوات الخلق، وعن تنزلات أسماء الحق"؛ فالقرآن ينطق عن ذوات الخلق، ولكل اسم من أسماء الله بيان يخص إقامته طوراً من أطوار خلقه تفصيلاً وإجمالاً، ويتحدث في الباب الرابع عن "رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران" ويذكر أن أردى أحوال المستخلف المحل الذي يسمى فيه بالإنسان، وهو حيث أنس بنفسه وغيره، ونسي عهد ربه، فيرد لذلك نبؤه بالذم في القرآن، ثم مرتبة الناس ويذم فيها أكثرهم، ثم مرتبة القبول والسماع "الذين آمنوا"، ثم المرتبة الأقرب "المؤمنون" ثم المؤمنون حقاً، ثم المحسنون، ثم الموقنون (ص36). وفي الباب الخامس يتحدث عن "تنزلات خطاب القرآن بحسب أسماء الله"؛ فيرى أن فهم الآيات يرتبط بما ورد فيها أو بما ختمت به من أسماء الله، ويتحدث الباب السادس عن "وجه بيان القرآن في تكرار الإظهار والإضمار"، فإذا تقدم الإظهار فهو خطاب المؤمنين بآيات الآفاق، وإذا تقدم الإضمار فهو خطاب الموقنين بآيات الأنفس، وإذا كان الكلام عن إحاطةٍ تقدم الإضمار, وإذا كان الكلام عن اختصاص تقدم الإظهار، ويتحدث في الباب السابع عن "رتب البيان في إضافة الربوبية ونعت الإلهية في القرآن"؛ فبحسب إضافة اسم الرب تختلف رتبة البيان، أما الباب الثامن فيتحدث فيه عن "وجوه بيان الإقبال والإعراض في القرآن"؛ فيتفاوت الخطابان بحسب تفاوت المخاطبين، ويتناول في الباب التاسع "وجوه إضافات الآيات واتساق الأحوال لأسنان القلوب في القرآن" ويقصد بأسنان القلوب أعماراً معنوية تتدرج على مراتب تبدأ بالإنسان وتكتمل باليقين في سبع مراتب، ويجعل من مفاتيح البيان فهم المخاطب في الآيات بحسب هذه المراتب، ويأتي الوصف بحسب الاستجابة وأحوالها سلباً أو إيجاباً. ويختم الرسالة بالباب العاشر "في محل أم القرآن من القرآن، ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان، وما حواه من وجوه البيان"، ويفصل في هذا الباب مكانة القرآن من الكتب السابقة، ومكانة أم القرآن من القرآن.
العروة للمفتاح الفاتح للباب المقفل المفهم للقرآن المنزل
الرسالة الثانية للحرالي في قوانين فهم القرآن هي "العروة للمفتاح الفاتح للباب المقفل المفهم للقرآن المنزل" ويتحدث فيها عن الأحرف السبعة من حيث شرط علمها وحالها وبيانها، أما بيانها -موضوع الباب الأول من الرسالة-, فهي حرفا صلاح الدنيا (الحرام والحلال)، وأصل هذين الحرفين التوراة وتمامها في القرآن، وحرفا صلاح المعاد (الزجر والأمر)، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامها في القرآن، وحرفا صلاح الدين (المحكم والمتشابه)، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامها في القرآن، وهذه الحروف الستة تشترك فيها الكتب المتقدمة ويزيد القرآن عليها تمامها وبركة جمعها. ويختص القرآن بالحرف الجامع (المثل الأعلى) أو (الحمد) الخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك افتتح الله به أم القرآن، وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن، كما جمع القرآن ما بث في جميع الكتب المتقدمة (ص58-59)، ثم يشرح في سبعة فصول هذه الحروف وخصائصها ومن تتوجه إليه.
أما الباب الثاني من الرسالة "في شرط منال هذه الحروف وعلمها والعمل بها" فيخص فيه كل حرف بفصل مستقل يتحدث فيه عما تحصل به قراءة الحرف في العلم والحال.
فحرف الحرام تحصل به طهرة البدن، وتحصل قراءة هذا الحرف بالورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق وما يغضب الرب. أما حرف الحلال فتأتى قراءته من جهة القلب بمعرفة حكمة الله في المتناول من مخلوقاته، ومعرفة أخص منافعها مما خلقه، ومن جهة النفس بسخائها بما يقع فيه الاشتراك من المنتفعات المحللات وصبرها عما تشتهيه من المضرات، والتراضي وطيب النفس فيما يقع فيه الاشتراك، ومن جهة العمل بالأدب.
"وكما كان حرف الحلال موسع ليحصل به الشكر، فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال؛ ليحصل به الصبر" (ص102) وتحصل قراءته، من جهة القلب بمشاهدة البصيرة لوعود الجزاء، ومن جهة النفس بصبرها عن الشهوات، ومن جهة العمل بكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام. وتحصل قراءة حرف الأمر من جهة القلب بالتوحيد والإخلاص، ومن جهة النفس بالطمأنينة بالله، ومن جهة العمل بأدب الجوارح.
وتحصل قراءة حرف المحكم بتحقيق العبودية في القلب، وذل النفس وانكسار الجوارح. وتحصل قراءة حرف المتشابه بمعرفة القلب بالعجز عن معرفة جميع أسماء الحق وأوصافه، وباستكانة النفس لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى حفظ اللسان عن ألفاظ التمثيل والتشبيه.
"وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً، "وله الدين واصباً"، "والذين هم على صلاتهم دائمون"، فالذي تحصل به قراءة هذا الحرف، إنما هو خاص بالقلب، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف الستة التفصيلية" (ص115).
التوشية والتوفية
سمى الحرالي رسالته الثالثة "التوشية والتوفية"؛ لما تقدم إثباته من كتاب العروة ومفتاحها، ففصلُ التوشية تحدث فيه عن "تفاوت وجه الخطاب فيما بين ما أنزل على وفق الوصية، أو أنزل على حكم الكتاب" فما أنزل على وفق الوصية خاص بالقرآن الخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتتعاضد فيه الوصية والكتاب، أما الثاني فهو ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين، وكتب المتقدمين.
أما فصل التوفية فيشتمل على "تناول كلية القرآن لكلية الأمة", بمعنى أن ما ورد من أخبار وقصص السابقين وأهل الأديان في القرآن "إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه بمشاهد متكررة في هذه الأمة، من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار، حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إلى خاتمته منطبقاً على هذه الأمة وأيمتها، هداتها وضلالها، فحينئذ ينفتح له باب الفهم" (ص126-127)، ويتابع في هذا السياق وقوع الأديان التي ذمها القرآن في هذه الأمة ومظاهر ذلك، ونلمس من هذا التحليل المنزع الأخلاقي والعملي الذي يسعى إلى تجليته من خلال هذه القوانين التي يؤسسها في فهم القرآن، "فمن حق القارئ أن يعتبر القرآن في نفسه، ويلحظ مواقع مذامه للفِرَق، ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان، لئلا يكون ممن يسب نفسه بالقرآن وهو لا يشعر" (ص138)، ويقول "أفضل الناس مؤمن في خلق حسن، وشر الناس كافر في خلق سيء" (ص137).
أخيراً.. وبعد استعراض مضامين رسائل الحرالي الثلاث التي تناولت أصول فهم للقرآن، يمكن أن نلحظ أن المنزع الصوفي لدى الحرالي لا يبدو بذاته هو المحرك لرسائله بقدر ما هو البعد العلمي في تأطير الفهم العملي للقرآن الذي يستل منه ما يخص سلوك الإنسان وعلاقته بالقرآن والتاريخ، فلئن كان التفسير الإشاري [1] قد وقع في إشكال القطيعة مع لغة النص والسياق، والتفسير قد أسر بقوانين اللغة والنحو، والتأويل قد استلب إلى علم الكلام والمتشابهات، فإن الحرالي يحاول في هذه الرسائل أن يقنن "فهم القرآن" كطريق للتعامل مع النص لا يتجاوز التفسير ولا التأويل إنما يلج إلى اللب والمقصد والجوهر المتعلق بالإنسان وترقيه في السلوك والأخلاق.
ولعل ما كتبه الحرالي يمثل خطاً مجهولاً في الدرس القرآني، وتنبع أهميته من البعد التأسيسي ومحاولة التقعيد لنمط من الفهم الذوقي العميق للقرآن، فهماً يتجاوز التقول الباطني والشطح الصوفي، ولا يكون أسيراً للتفسير الظاهري، والمنطلق الذي أعان الحرالي في تأطير رؤيته هو الرؤية الكلية للقرآن، لا في ذاته فقط إنما في سياق علاقته التاريخية مع الكتب والأديان، وفي ضوء الصلة بين الله والإنسان.
ورغم أن هذه الرسائل قد صدرت منذ أكثر من عقد إلا أنها لم تنتشر بين الدارسين بما يعطيها حقها ومكانتها التأسيسية والإبداعية في أصول التفسير، ولعل هذا التعريف بها يفتح أفقاً لتتبع ما فيها من أصول وقواعد يمكن أن تثري الدرس القرآني المعاصر، ولعل ما جمع من تفسيره يسهم في تعميق هذه الرؤى وتوضيحها.
[1] عُرَف التفسير الإشاري بأنه:"تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر والمراد أيضاً" فهو التفسير الصوفي الذي يلحظ إشارات في الآيات، ولا يقف عند ظاهر الألفاظ فقط، ويختلف عن التفسير الباطني الذي يفترض معنى باطناً مقصوداً غير الظاهر، بأنه لا ينفي الظاهر بالضرورة، أو يدعي قصدية المعنى المشار إليه أصالة.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.