آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

معتز الخطيب



عنوان الكتاب: مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

تأليف جماعي

إعداد وتحرير: د. معتز الخطيب

الناشر: مكتبة مدبولي – موقع الإسلاميون - مصر 2010

 

مقدمة المحّرر

 

ليس من المبالغة القول: إن معضلة الدولة شكلت –ولا تزال- محور النقاشات الدائرة في الفكرين العربي والإسلامي؛ فقد شكّلت همومُ الدولة وطبائعها وأدوارها مساحة مركزية من التفكير، سواءٌ في زمن أطروحة الدولة الوطنية التي انشغل بها الإصلاحيون الإسلاميون، أم في زمن الدولة القومية التي سعى إليها القوميون، أو في زمن الخلافة التي أمل كثير من الإسلاميين بإقامتها أو استعادتها، ولا يزالون، وصولاً إلى الدولة الإسلامية التي ظهرت كرد فعل على سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، والدولة الدينية كما نجد مع أفكار الحاكمية وولاية الفقيه.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن أصحاب المشاريع المختلفة أو الأيديولوجيات المختلفة، يعلِّقون مشاريعهم على الدولة التي يُعطونها هذه الأهمية الاستثنائية والخاصة التي تجعل منها المعبود الحقيقي للمجتمع كما لدى القوميين، أو دولة الخلاص واستعادة الإسلام وحماية الشريعة كما لدى الإسلاميين، أو دولة الديمقراطية والحريات الفردية كما لدى الليبراليين. بل قبل ذلك أيضًا، ساد اعتقاد لدى الإصلاحيين في القرن التاسع عشر أن الخلل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية ومدنيتها إنما يرجع إلى تخلف نظمها السياسية التقليدية، في حين تقدمت أوروبا وتفوقت بسبب قوة نظمها السياسية (بما تشمله من جيوش ومؤسسات قوية وإدارة فعالة وتنظيم مالي متقدم.. إلخ)، فكان أنْ لجؤوا إلى فكرة الدولة الوطنية.

ولعله من المفيد أن نشير هنا إلى مفارقتين في الحديث عن الصراع على الدولة، تتعلق الأولى منهما بأن كثيرًا من الإسلاميين يُقرّون بعدم وجود نص على الدولة، وأنها ليست مسألة تعبدية، ومع ذلك خاضوا – ولا يزالون - صراعات عديدة في سبيلها، ربما دفع إليها الاستقطاب الأيديولوجي الذي كان سائدًا منذ السبعينيات مع العلمانيين في هذا الخصوص.

والمفارقة الثانية أن النزاع والسجال الذي يدور حول الدولة بين الإسلاميين والعلمانيين، يقع خارج حدود السلطة الفعلية القائمة وعلى هامشها، التي تارة تنزع إلى هذا ضد ذاك، وتارة تتمسح بذلك ضد هذا، فتأخذ من العلمانية ضِغْثا، ومن الإسلامية مثله!. فالدولة القائمة لا هي إسلامية بالمعنى الذي يريده العديدون بمعنى تطبيق الشريعة كاملة، ولا هي علمانية - بالمعنى المعروف للكلمة – التي تفصل الدين عن الدولة وتُلزِمه الحياد فلا هو يهيمن عليها ولا هي تستغله لمآربها وتدعيم نفسها!.

وفي الواقع ثمة مشكلة في التفكير العربي والإسلامي بخصوص الدولة، شخّصه البعض بأنه يعود - في جوهره - إلى أن الدولة القائمة في عالمنا اليوم دولة "مستورَدة" - على حد تعبير نزيه نصيف الأيوبي، وبرتران بادي - فُرضت على عالمنا فرضاً من الإمبريالية الغربية، وتضخمت تضخماً شديداً تحت رعايتها حتى تحقق مصالحها وتحافظ على هيمنتها. ثم جاءت الاستقطابات الأيديولوجية فزادتها تعقيدًا واتسعت الهوة، فظهر سيل من الأفكار والنقاشات، يمكن أن يتم النظر إليه من زوايا مختلفة أو متعددة، بعضها سياسي وبعضها معرفي، وبعضها قانوني، إلى غير ذلك.

ومساهمة منا في هذا النقاش حول الدولة، كان هذا الكتاب الذي يحاول تشخيص مأزق الدولة في عالمنا العربي وفكرنا الإسلامي، من مواقع مختلفة، يجمعها الهم النقدي، ونُشدان الدولة التي تحقق مصالح الأمة، وتحفظ حقوقهم، وإن اختلفت التصورات وتَفَرَّقت السبل.

فالفصل الأول "الدولة .. معضلة المفهوم والتطبيق" يؤكد التعقيدات التي تكتنف مصطلح "الدولة"، سواءٌ على مستوى المفهوم أم على مستوى الكيانات القائمة والشاخصة في عالم اليوم.

لكن ثمة اتفاق تقريبًا - في هذا الفصل - على أن الدولة "هي آلية لتنظيم الشؤون الاجتماعية المشتركة"، و"هي التعبير عن نجاح المجتمع في الوصول إلى توافقات وبناء مؤسسات تعكس تجاوز تجربة العنف، وتضمن استمرار السلام، ومن ثم الاستقرار والتعايش المديد بين السكان. فكل دولة هي مشروع بناء أمة أو مجتمع متفاهم مع نفسه ومع السلطة المركزية التي يخضع لها طواعية، وتقوم بمهام تنظيم شؤونه وإدارة مصالحه" - بتعبير د. برهان غليون –، وهي "تعبير عن جماعة وأداة للحكم بين الناس"، فالدولة ممثلة للجماعة الوطنية، ترعى الشأن العام للمواطن والشعب، أما نظامها السياسي والاقتصادي "فنظام قانوني يناط به الفصل بين الناس بالعدل وإدارة دولاب الحكم" - بتعبير المستشار طارق البشري -.

وإن كان البشري يعالج معضلة الدولة القائمة وليس دولة المفهوم والفكرة، ويبحث في سبل الخروج من حالة الشخصنة التي آلت إليها الدولة اليوم والسبل التي تنمّي الفعل الشعبي الذي من شأنه أن يَرِد من خارج الإطار الرسمي المرسوم من غير توقع ولا حساب.

وإذا أردنا ألا نناقش في فراغ فلا بد أن نميز - عند النقاش في موضوع الدولة - النموذج الذي نتحدث عنه، أو نصطرع عليه؛ فكل طائفة أو تيار يَصدُر عن مفهوم وتصور للدولة، كما يصدر عن مرجعية مغايرة لمرجعية الآخر.

فثمة خلط بين مفاهيم متعددة للدولة، وبين مفهوم الدولة والجماعة السياسية، بل إن نصاب السياسة ليس واحدا، وليست ماهية السياسي متطابقة في كل العصور والأقطار. كما أن علاقة الدولة بالجماعة السياسية ليست واحدة في كل الأنماط السياسية، فإذا أضفنا إلى هذا كله ذلك التصور الذي يرى أن التمييز بين السياسة والدين أمر مبتدع لا يجوز القبول به أو الارتهان إليه تفاقم المأزق واستحكمت المعضلة!.

وعليه، يتطلب تحديد مفهوم الجماعة التدقيق في الدلالات المختلفة لمصطلح الدولة، السلطانية والديمقراطية، وكذلك يتطلب تحديد مفهوم الدولة التدقيق في استخدام مصطلح الأمة الذي يقضي بالتفريق بين المعنى الديني والمعنى السياسي، إذا ما احتكمنا إلى الفكر السياسي الحديث، الذي يحتكم إليه برهان غليون.

إن جزءًا مهمًّا من الصراع الدائر حول الدولة في فكرنا العربي منذ أكثر من ثلاثة عقود، يرجع إلى غموض مفهوم الدولة ذاته أو تشوشه في الوعي العربي العام، وعند معظم الأطراف. وليس من الاستطراد هنا الإشارة إلى أن عبد الإله بلقزيز حينما كتب عن "الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر" (ط. 2002م) لم يتعرض لمفهوم الدولة أصلاً!.

فمصطلح "دولة" يُطلق على نماذج لا حصر لها من الدول، كاملة التكوين أو مُنجزة، وناقصة التكوين، أو غير مستكملة لشروطها، بل ومجهضة كالمولود السّقط. ويُطلق كذلك على أصناف من الدول ذات أشكال من التنظيم للسلطة العامة، وللمجتمع ككل، ووظائف عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية واجتماعية، وغايات يمكن أن تتباين من النقيض إلى النقيض.

ولهذا استعرض غليون أنماط وأشكال الدولة في ذهنيات وتصورات الأطراف المختلفة من إسلاميين وليبراليين وماركسيين، وحتى أولئك الذين لا يؤمنون بالدولة!. كما شخّص الصراع الدائر، وحلل انعكاساته ودلائله، ورأى فيه انعكاسًا للطلب الاجتماعي المتزايد على الدولة من حيث هي مؤسسة لمصالح عامة وطنية مقابل المصالح الخاصة، كما رأى فيه انعكاسًا لانحلال النظم الوطنية بشعاراتها وأفكارها وقيمها وأهدافها وغاياتها وسياساتها ومناهج عملها وتسييرها.

إن مقالة غليون تساعدنا على فهم أعمق لأساس المعضلة ووجوهها، وفيها يرى أننا لن نخرج من الطريق المسدود الذي أوصلنا إليه الصراع على الدولة إلا بالانتقال من النقاش في الدولة الإسلامية أو الديمقراطية إلى النقاش في المجتمع السياسي الذي نريد إقامته. وعليه فإن الدولة الاسلامية مفهوم يمكن أن يستقيم إذا كانت الجماعة السياسية التي نريد تكوينها ونعتقد بصلاحها هي جماعة إسلامية، في حين أن الأمر سيتغير إذا كانت الجماعة السياسية التي نريد تكوينها أو ندافع عن فكرة تكوينها، جماعة سياسية من النوع الوطني/المواطني.

وفي هذا السياق تتأكد مقولة هاني فحص عن "امتناع تنميط الدولة"، على معنى اقتراح نمط واحد لها من كل التيارات المتصارعة، لكن هذا الامتناع عنده قد يكون تمهيدًا للقول بخصوصية أو بنمط مغاير للدولة "الغربية" –وهو ما سيتضح أكثر في الفصل الثاني من الكتاب-، فهذا الخطاب يحاول أن يخرج من مأزق عدم وجود "دولة إسلامية" محددة المعالم، فيُقرُّ بأن شكل الدولة وطريقة تشكيلها ليسا شأنَ الدين، لا الاسلام ولا غيره، فلا توجد وصفة دينية ملزمة للدولة، وإنما شأن الدين - بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى - هو أداء الدولة، أي عدالتها.

إن هاني فحص يسعى هنا إلى القول بنوع من التمييز بين الدين والدولة وليس الفصل، فهو تمييز يحدد ملامح الوظيفة الفقهية حتى لا تختلط بالوظيفة السياسية، تمييز يسحب من الفقه أو من الفقيه صلاحيات تحديد شكل الدولة أو اقتراح طريقة تشكيلها، إلا في حدود كونه شريكا متكافئا مع الآخرين من أهل المعرفة بهذا الشأن وأهل الخبرة. وهي فكرة ستزداد وضوحًا في الفصل الثالث من هذا الكتاب، مع بحثي لمسألة "الفقه والفقيه ومتغيرات السلطة" التي تقرر أن فكرة الدولة الحديثة أو القائمة في عالمنا قضمت كثيرًا من صلاحيات الفقيه لصالح أدوار جديدة فرضتها طبيعة المتغيرات والتراكمات المعرفية ونشأة حقول معرفية جديدة ونشأة أدوار ووظائف اجتماعية لم تكن من قبل.

إن التمييز الذي يقترحه فحص يجعل من الفقه ثقافة معيارية، معيارها الحرية والعدالة، الحق والقانون، أي ديمقراطية تحث على العدل، وتحرض على الجور، وتتعاطى مع مضمون الدولة ومعناها لا مع شكلها ومبناها، ومن موقع إرشادي حاضن، لا من موقع الولاية والوصاية القابضة على زمام الأمور؛ لأن المولى هو الله سبحانه في المطلق وفي التاريخ، أما الولاية على الأمة فهي للأمة نفسها، وهذا من شأنه أن يعكر صفو الأطروحات السياسية التراثية والحركية المعاصرة التي تجعل من الدولة هي الحاضن للشريعة وليس الأمة.

إلى ذلك ثمة مسألة شديدة الأهمية في الحديث عن الدولة وضرورتها، فالدولة كما يتضح من الفصل الأول وخاصة في ورقتي فحص وغليون، ضرورةُ اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، معنى ذلك أن الاجتماع متغير ومتطور تبعًا للأزمنة والأحوال وتطورات انتظامه وتكويناته ومعارفه، فإذا تغيّر وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسؤولياته وحقوقه وواجباته، وتغيرت الأدوار تبعًا لذلك، فلا بد أن يؤثر ذلك في شكل الدولة، وأدائها، ودورها، ومصدر شرعيتها، وآليات تحقيقها، طبقا للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع.

وهذا المعنى سيصادفنا كذلك في مطلع الفصل الثاني "أطروحة الدولة الإسلامية"، حين يقرر راشد الغنوشي أن التصور الديني التراثي يجعل الدولة (نصب الإمام الذي هو رأس الدولة) "واجبًا دينيًّا لإقامة الشريعة وضرورة اجتماعية إنسانية لا بديل عنها في توفير شروط بقاء الجماعة"، وأن الخوارج هم وحدهم الذين شذوا – في القديم- فجعلوها ضرورة اجتماعية فقط، لكنه لا يلبث أن يقرر أن التصور الوسطي الذي عليه جمهور الإسلاميين يتمثل في اعتبار السلطة ضرورة اجتماعية وأداة من أدوات الأمة في إقامة عدل الإسلام، وأنها مجرد أداة اجتماعية توظفها الأمة لحراسة الدين والدنيا، وأن القائمين بها ليسوا سوى خدام عند الأمة؛ إذ هي المخاطب الحقيقي بإقامة الشريعة، بما يجعل شرعيتهم موقوفة على إنفاذهم للشريعة والتوافق مع توجيهاتها كما يرتضيها جمهور المسلمين.

وهذا المسلك كان مدخلاً لقول الغنوشي بضرورة الدولة الإسلامية، ما دام الإنسان اجتماعيًّا بطبعه، وما دام الإسلام نظامًا شاملاً، وهي دولة الرسالة، ولا تختلف عن الديمقراطيات المعاصرة إلا من حيث علوية المبدأ الخلقي في إقامة العدل وفق ما جاءت به الشريعة أو وفق ما لا يخالفها، وهو ما أسست له مدرسة الإصلاح كما جاء بيّنًا في فكر كل رموزها مثل الأفغاني وعبده ورشيد رضا وحسن البنا وحسن الترابي والمرجع الشيعي المعتبر المرحوم آية الله محمد مهدي شمس الدين.

هذا التصور الإصلاحي لمدنية لدولة الذي قرره محمد عبده وغيره من الإصلاحيين، وحافظ عليه رواد الحركة الإسلامية من بعده حين قالوا بالدولة الإسلامية، دفع إلى اعتبار الدولة ضرورة اجتماعٍ لا ضرورة دينٍ.

ويحاول الغنوشي مقايسة فكرة الدولة الإسلامية على فكرة الدولة الديمقراطية الحديثة، من خلال بحث أهم مفاهيمها التي تقوم عليها وهو "الشرعية"، فيقرر أن شرعية الدولة الإسلامية تنبع من المرجعية القانونية القيمية العليا المحكومة بالشريعة، والشورى التي تجعل الحاكم المسلم نائبا عن الأمة في إقامة الشريعة وإنفاذها وفق العقد الذي بينه وبين الأمة، وهذه الدولة يتمتع فيها العلماء وقادة الرأي العام وزعماء العشائر والطوائف وكل ممثلي الشعب بمكانة عظيمة باعتبارهم أهل الحل والعقد، بما يجعل سلطان الحاكم سلطانًا تنفيذيًّا محدودًا جدًّا لصالح سلطان الشريعة والمجتمع وسائر المؤسسات الممثلة لهما.

ودولة الإسلام هذه موكول إليها ومعلّق بها الأمل أن تقوم –وفق تصور الغنوشي- بإنقاذ مركب الحضارة الإنسانية واستعادة المعنى والروح والقيمة.

وإذا كان الغنوشي يقايِس على الدولة الحديثة ويحاكيها في رسم مبادئ السلطة والحكم في الإسلام، فإن سعد الدين العثماني يؤكد مجدَّدًا مدنية الدولة الإسلامية، لكنه يسعى من المنطلق ذاته – وهو المقايسة على الدولة الحديثة- إلى البحث عن انسجام مجتمع الإسلام مع دولة مدنية تنبني فيها الشرعية على إرادة الشعب، وتصدر فيها القوانين من قبل مؤسسات خُوِّل لها ذلك بالانتخاب، وفق مصلحة المجتمع، وهي أشبه بعملية توطين لإحدى أفكار الدولة الحديثة في بيئة الفكر الإسلامي أو تأصيل كما يُعبّر عنها أحيانًا، مدخلُها مسألة أصولية معروفة في أصول الفقه تقوم على مبدأ التمييز بين تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب الوظائف التي اضطلع بها، والوظيفة التي يتم استدعاؤها هنا هي "الإمامة"، رأى فيها العثماني أساسًا منهجيًّا يلقي الضوء على جوانب لم يُهتم بها بما يكفي لتطوير التجربة السياسية المعاصرة للمسلمين، وللخروج من سجن الكثير من التجارب التاريخية التي ربما تكبل انطلاقة كثير من المسلمين للاستفادة بقوة من التجربة الإنسانية المعاصرة.

فالدولة الإسلامية هنا دولة مدنية، ذات مشروعية شعبية، مكلفة بحماية دين الأمة، كما أن الدولة الوطنية الحديثة، دولة مكلفة بحماية الوطن والدفاع عن مصالحه.

إن محاولة العثماني تأصيل "مدنية الدولة الإسلامية" تصبّ مجدَّدًا في صالح الفكرة القائلة بالتمييز بين الدين والدولة، أو الدين والدنيا، وإبعاد الممارسة السياسية عن الممارسة الدينية المباشرة، للقول في محصلة الأمر: إن الدولة في الإسلام دولة دنيوية قراراتها بشرية. وقد يُعتَبر هذا تطورًا داخل الفكر الحركي الإسلامي الذي خاض صراعًا حادًّا مع العلمانية في الثمانينيات، دفعه إلى الرفض المطلق والكلي للفصل بين الدين والدولة، بل ربما أخرج القائلين به من دائرة الإسلام كليةً، لكننا وجدنا فيما بعد أطروحات متطورة لا تقول بالفصل العلماني، لكن تقول بالتمييز بين الشأنين، وهي مقولة لمحمد عمارة أيضًا وآخرين.

لكن نصر عارف انتقد تلك الكتابات الحديثة في النظام السياسي الإسلامي أو في الفكر السياسي الإسلامي التي تستبطن النموذج المعرفي الغربي في علم السياسة وفي التفكير السياسي، وتحاول أن تنسج على منواله. وهو مع ذلك يُقرُّ بأنه لا يمكن الادعاء بأن هناك نظامًا سياسيًّا إسلاميًّا واحدًا محدد المعالم والخصائص والمكونات، بل هناك منظومة معرفية إسلامية تعالج الشأن السياسي وتحدد له الأسس والمنطلقات والمقومات والمقاصد، وعن هذه المنظومة ومنها تنبثق نظم سياسية عديدة مختلفة المكونات والأشكال والوسائل والصيغ.

وعليه فهو يحاول تقديم أسس نظرية عامة لملامح النظم السياسية الإسلامية، وأهم ملامح هذا النموذج الإسلامي المقترح، أنه يتخذ من المجتمع مركزًا له، بينما يهمش - إلى حد كبير - دور الدولة، بالاستناد إلى أن النموذج النبوي يشهد على أسبقية المجتمع على الدولة في الأهمية والاهتمام، كما أن الجدل الكلامي المبكر الذي أسهم في تكوين الفرق الاعتقادية انطلق - في أساسه - من اختلاف بين تيارين أحدهما يرى أولوية الدولة، وكيف أنها أصل من أصول الدين وواجب عليه تعتمد باقي الواجبات. وثانيهما يرى أنها وسيلة لا أصل، وأن الدين يحتضنه ويعبر عنه المجتمع وليس الدولة، وقد كانت السيادة التاريخية من حيث الأغلبية والنفوذ للتيار الثاني. ثم إن مفهوم السياسة في الإسلام كمنظومة فكرية يجعل معظم الفعل السياسي فعلاً مجتمعيًّا غير قاصر على الدولة أو على أجهزتها السلطوية، فجوهر هذا المفهوم هو الإصلاح أو المصلحة، تأسيسًا على معناه اللغوي.

الفصل الثالث "إشكالات الدولة الإسلامية"، ينصبّ في الأساس على محاولة تحديد معالم الدولة الإسلامية عند القائلين بها، ودراسة علاقة الدين بالدولة والدولة بالدين، بدءًا من التراث السياسي الإسلامي وصولاً إلى حركات الإسلام المعاصر، ليقدّم رؤى نقدية في أطروحة الدولة الإسلامية ويبلور بعض إشكالاتها، بالاستناد إلى قراءة التجربة التاريخية في محاولة لإزالة اللبس الذي وقع فيه القائلون بأطروحة الدولة الإسلامية.

وفي هذا الفصل، يعيدنا د. رضوان السيد إلى ناحية استعراض التجربة التاريخية للدولة الإسلامية بعد زمن النبوة؛ لأن هذا الاستعراض سيُفيدنا مع الإسلاميين بأنْ يضعَ الأمورَ في سياقِها المعتبر لدى المسلمين في أزمنة الخلافة والسلطنة وعلى مدى عدة قرونٍ استقرتْ فيها المفاهيمُ والآليات، مفاهيمُ علاقة الدين بالدولة، والآليات التطبيقية للنصوص وللاجتهادات وللأفهام. يبدأ السيد من تعريف الإمامة لدى الماوردي وغيره بأنها "موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، وهو تعريف محشوّ بالإيديولوجيات، وبصراعات العقائد والمذاهب والسياسات حتى أيامه. وبالرغم من أن الماوردي يَعتبر منصب الإمامة أو السلطة الإسلامية يستند إلى "الوضع" وليس النص؛ ما يعني أنها منصب مدني "وضع" بإجماع الصحابة، إلا أنه باعتباره الإمامة أداة أو وسيلة أو سلطة لحراسة الدين – بالإضافة إلى الوظيفة المتعارف عليها للسلطة – يكون قد أعطى الخلافة صلاحيات وطابعًا دينيًّا؛ فهي إمامة وخلافة "عن النبوة"، وهي تقوم بالإضافة إلى سياسة الدنيا (وهي المهمة المتعارف عليها لأي سلطة)، بمهمة دينية كبرى هي حراسة الدين. وحين ذكر الماوردي وأبو يعلى الحنبلي المؤسسات الفرعية التي تشرف عليها الخلافة؛ كان من بينها ولايات دينية بحتة: الولاية على إمامة الصلوات، والولاية على الحج، وولاية الصدقات، وأحكام الحسبة، وولاية النقابة على الأنساب.

لكن رضوان السيد لاحظ أمرين أثنين: الأول صراع طبقة العلماء والفقهاء مع السلطة السياسية طوال القرن الثاني الهجري على المرجعية في الدين، وتجلى الصراع الثاني مع المحدثين أو أهل الحديث والسنة في (المحنة)، أي الخلاف بين المأمون العباسي من جهة، وأحمد بن حنبل وزملائه من جهة ثانية، حول من يتولى تحديد طبيعة التعامل مع القرآن، وهل هو الخليفة (الذي قال: إن القرآن مخلوق) أم أهل السنة والجماعة (أصحاب الحديث) الذين قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق! ومما له دلالته أن أهل السنة هؤلاء كانوا يقولون بوجوب الطاعة للسلطان في الشأن السياسي، ولا يرون طاعته في الشأن الديني (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

إن وقوف الفقهاء في وجه الصلاحيات التشريعية للسلطة، ووقوف المحدثين في وجه المرجعية الدينية للسلطة السياسية، هذان الموقفان يتصل أحدهما بالآخر، لكن موقف المحدثين كان أكثر جذرية، وأوضح لجهة التمييز بين المجالين الديني والسياسي. وقد كان من نتائج هذا الصراع، أن استقل المجال الديني عن المجال السياسي بعد منتصف القرن الثالث الهجري، فتولى العلماء (ورثة الأنبياء) الشأن الديني، وانفردت السلطة بالشأن السياسي، وبقيت المرجعية العليا للإسلام، كما بقيت المرجعية القانونية والمؤسسات للسلطة السياسية، كما في كل دولة.

وبالعودة إلى الدولة أو الإمامة ذات الطبيعة الدينية نجد أن المقايسة بين علاقة الدين (الزرادشتي) بالدولـة وعلاقة الإسلام بالدولة، هو الذي أفضى إلى تلك الصياغة (حراسة الدين وسياسة الدنيا)، وهي صياغة يراها رضوان السيد "وهمية".

استمرت الخلافة حتى مطلع القرن الرابع الهجري، إلى أن فوجئ الفقهاء بظهور الدولة السلطانية، وهذه الظاهرة الجديدة، التي بلغت ذِروتها عام 333هـ/334هـ بدخول البويهيين إلى بغداد، دفعت الفقهاء وكتاب الآداب السلطانية، والفلاسفة وغيرهم إلى كتابة قراءات لأوضاع الخلافة فظهرت ثلاثة كتب في "الأحكام السلطانية" ما بين 440هـ و470هـ: كتاب الماوردي، وكتاب أبي يعلى الحنبلي، وكتاب إمام الحرمين الجويني. أما الماوردي وأبو يعلى فيعترفان بالتغير وبالوقائع الجديدة، ويعتبران أن الحل المؤقت الذي جرى التوصل إليه (أن لا يباشر الخليفة الأمور بنفسه، بل من خلال تفويض أمير الاستيلاء) هو الوحيد الممكن والمعقول، لأنه يحافظ على وحدة الدولة (لا على وحدة السلطة)، ويترك الأمل والباب مفتوحًا لتصحيح الأوضاع باتجاه توحد السلطة (الدستورية) والقوة من جديد. لكن الجويني يختلف معهما، بل ويهاجم معاصرَه الماوردي دون أن يسميه. فالخليفة العباسي صار عبئًا ولم يعد ميزة، ولا حاجة لهذه الازدواجية السلطوية، ولا حاجة أيضًا لبقاء الخليفة لسبب ديني، فالشأن الديني يتولاه الفقهاء والعلماء. أما السياسة (تدبير الشأن الداخلي)، والشوكة (الجهاد والدفاع عن دار الإسلام)، فيتولاها السلطان، سواء أسميناه خليفة أم لا.

لكن الاتجاه التقليدي المؤسسي هو الذي انتصر في الظاهر، فقد بقي الخليفة، وحَكَم السلاطين، وظلوا يطلبون التكليف منه مهما بعدت أقطارهم.

واستنادا إلى هذا الإدراك للمتغيرات، تشبث الفقهاء بالأمر الديني والشعائري وما يتصل بهما، ولجؤوا في المجال العام إلى تطوير ما اعتبروه "سياسة شرعية" للخروج من الضروري والطارئ إلى الصالح والشرعي. فجرى - بعد انتصار القوة والشوكة في الدولة - الانتقال من "الأحكام السلطانية" إلى "السياسة الشرعية"، أي أن المصلحة صارت مصدرًا شرعيًّا، كان على الفقهاء الانصراف إلى تقنينه وضبطه بالقدر الذي تسمح به السلطة والظروف.

فاضطر الفقهاء إذن لشرعنة إمارة الاستيلاء وسلطنة التغلب، حفـظًا للوحدة، ودرءًا للانقسام، واعتبروا أنه ما دامت الخلافة قائمة فإن المشروعية التأسيسية متحققة، والخلل إنما داخل شرعية المصالح؛ وهذا يمكن تلافيه بالإصرار على العدالة. وهذه النزعة يجعلها د. القرضاوي معبِّرًا عن واقعية الفقه الإسلامي، وأنه لا يعيش في الهواء بل في الواقع ويتفاعل معه.

وبقي الأمر على هذا الحال حتى مشارف العصور الحديثة، إذ أُعيد القول في الفقه والفكر السياسيين، مع صدمة الغرب وظهور الدول الحديثة، ثم مع سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، فقد طوَّر الشيخ محمد عبده أُطروحة الدولة المدنية في الإسلام في سياق الجدال مع فرح أنطون حول العلمانية، ثم تأسَّست الحركات الإسلامية العاملة لاستعادة الدولة الإسلامية التاريخية، والتي تطورت لديها في خمسينيات وستينيات القرن العشرين مقولةُ (الدولة الإسلامية) التي تكتسبُ اسمَها هذا من (تطبيق الشريعة)، في مقابل تيارين آخرين، يرى أحدهما ضرورة إعادة الخلافة، ويرى الآخر ضرورة القول بالعلمانية. والصراع إنما قام ويقوم بين هذه التوجهات الثلاثة.

لكن أنور أبو طه يركز تحليله على دولة الإخوان المسلمين تحديدًا؛ لكونها كبرى الحركات الإسلامية، وهي الحاضرة بقوة في ساحة الفكر والعمل السياسي، فيرى أن ولادة جماعة الإخوان المسلمين كان مبعث ظهورها أنها ردّ فعل على غياب النظام السياسي الإسلامي، فكانت تتويجًا عمليًّا ذا مَنْحى نضالي لدفاعات الفكر الإسلامي منذ عصر النهضة ضد الفكر "التغريبي". ويقرر أن حسن البنا لم يكن امتداداً خالصًا للاتجاه السلفي التقليدي لعصر النهضة ممثَّلاً بمحمد رشيد رضا الداعي إلى نظام الخلافة، فالبنّا أضاف تصوّراً جديداً أَدخل العقلَ الإسلامي في مساحات التفكُّر الفعَّال، كما أَدخل تعديلاً مهمًّا في مفهوم "الجماعة المسلمة" التي عصفت بها التحولات في دول ما بعد الاستقلال، وتحديداً مفارقات التفارق والتحوُّل بين مفهومي "المجتمع الإسلامي"، و"الجماعة المسلمة".

الفكرة المركزية التي انطلق منها البنا –كما هو معروف- هي أن الإسلام نظام شامل، دين ودولة، وانطلاقاً من شمولية الإسلام اعتبر البنّا أن علاقة الدين بالسياسة هي بمنزلة "الأصل الأساسي" الذي تمَّ تضييعه، بل إنه يقفز قفزة نوعية في النظر إلى مكانة الحكم في الإسلام فيقول«والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر». وهذا النص – بحسب أبو طه – يُعتبر تأسيسًا أوليًّا لقداسة السلطة، فهو قد وضع بذور فكرة "الحاكمية" التي تبنّتها كافة تيارات وجماعات السلفيّة الحركية لاحقاً، التي اعتبرت أن الدولة الإسلامية مسألة عَقَدِيّة من مسائل أصول الدين، ولذلك نرى الخطاب الإسلامي السياسي الحركي أسبغ طابعًا قدسيًّا على تلك العلاقة بين الدولة والدين، مُشابِهًا الموقف الفقهي الشيعي في مسألة الإمامة التي تتحول إلى أصل من أصول الاعتقاد!.

هكذا تمّ مَرْكَزَة المسألة السياسية لدى الحركة الإسلامية "الأم"، مما أدى إلى بروز نزعة التسييس، وإعلاء الشأن السياسي العملي في عموم الفكر الإسلامي وتياراته وحركاته، حتى إن الفكر الإسلامي الحديث ربط قوام "الأمة" وتحقُّق وجودها التام بالدولة، ونقل المرجعية من الأمة إلى الدولة التي تطبق الشريعة، وهذه إحدى مشكلاته الكبرى بحسب الكثيرين.

لم يغادر البنا تصور الخلافة كليةً، فهو قد جعل من «فكرة الخلافة والعمل لإعادتها»، على رأس أولويات الإخوان المسلمين، ولكنـه يعتقد أن الأمر يحتاج إلى «كثير من التمهيدات التي لا بـد منهـا، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد لها أن تسبقها خطوات».

إنه بالرغم من كثرة الحديث عن نظام إسلامي، ودولة إسلامية، نجد إقرارًا مستمرًّا بأن الكلام يتعلق بالمضمون والمرجعية لا بالشكل أو المسمّيات؛ لأن الإسلام – حسب البنا وغيره - لا يتدخل في تفاصيل وجزئيات الحياة الدنيوية البحتة، وإنما في المسألة السياسية بما هي اشتغال في القيام على الدنيا بما يصلحها، لكنهم مع ذلك حين يرسمون وظيفةالدولة أو مهماتها نجدهم يتحدثون عن "وظيفة عقدية للدولة الإسلامية" كما هو عنوان كتاب لحامد عبد الماجد، بل إن البنا والغنوشي يتحدثان عن وظيفة الدولة في نشر الإسلام وتبليغ دعوته الحكيمة للناس، وهداية الناس جميعاً، وهذا يتجاوز مسألة وجود الدولة لضرورات اجتماعية لتحقيق النظام وتسيير المعاش وتحقيق إجماع الحد الأدنى في الجماعة السياسية وغير ذلك.

وفي الواقع ثمة شبه اتفاق بين العديد من مقالات هذا الكتاب على أن مفهوم الدولة الإسلامية يلفّه غموض شديد، والتباس بمفاهيم الدولة الحديثة، والخلافة، وقد سبق لنزيه نصيف الأيوبي أن أكد في كتابه "العرب ومشكلة الدولة" (ط1، 1992م) أنه ليس في الفكر السياسي الإسلامي مفهوم محدد للدولة، وأن عشرات الكتب التي تتحدث عن مفهوم "الدولة في الإسلام" وتستمد مادتها من الأدبيات الإسلامية التقليدية إنما تتحدث عن "الحكم" أو عن "السياسة"، وليس عن "الدولة" بالمفهوم النوعيّ والمعنى المتكامل؛ ذلك أن تصنيف "الدولة" في الفكر السياسي التقليدي هو تصنيف لضروب الصَّنعة السياسية، وليس لأنواع "الدولة".

إلى ذلك، إن مفهوم الدولة الإسلامية تُحيط به إشكالات عديدة، أهمها التباس العلاقة بين الدين والسياسة، وهو جوهر المعضلة. وفي هذا المعنى يأتي مقال عبد الرحمن الحاج ليقدم قراءة تاريخية للفكر الإسلامي السياسي تلحظ تحولات الوعي بمفهوم الدولة تحديداً، وتأثيرات الميراث السياسي الفقهي والتاريخي عليه، ويرى فيه أن مفهوم الدولة الإسلامية مفهوم هجين يختزن مضمونًا نضاليًّا لاستعادة الإسلام عبر استعادة الخلافة، أو لاستعادة الخلافة من أجل استعادة الإسلام، وأن ظل الخلافة لم يفارق تصورات الدولة الإسلامية، فلاهوت الخلافة الثاوي في عبارة "الدولة الإسلامية" يمثِّل القاسم المشترك لكل الحركات الإسلامية، والفارق بينها أن بعضها يُعيد مفهوم "الدولة الإسلامية" إلى أساسه (الخلافة)، مثل حزب التحرير والحركات الجهادية، فيما يفسر البعض الآخر الدولة الإسلامية بمنطق تلفيقي بالدولة المدنية. وقد عزز ظل الخلافة ومكّن للاهوتها في الوعي الإسلامي الصراع الإيديولوجي ومساعي الحفاظ على الهوية في مواجهة ما سمي بـ"التغريب" و"الغزو الفكري" و"الاستلاب" وغير ذلك، حتى كاد يصبح مفهوم "الدولة الإسلامية" مسلَّمة من مسلمات الوعي الإسلامي برمته في نهاية السبعينيات، وخصوصاً بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م. لكن الحاج لا ينفي أن ثمة بوادر لإعادة التفكير في مفهوم الدولة الإسلامية خارج إطار لاهوت الخلافة، بشكل يقترب أكثر من مفهوم الدولة الحديثة خارج الأيديولوجيا.

ثمة إشكالات عديدة تحيط بمفهوم الدولة الإسلامية في أعين نقادها، كما يتضح في الفصل الثالث، فرضوان السيد يقول ناقدًا: صحيح أن الحاكم في الدولة الإسلامية غير معصوم، لكنّ غير المعصوم هذا يقوم على تطبيق الشريعة المعصومة، فما الفائدةُ من التأكيد على (مدنية) الحاكم ما دامت (مدنية) الدولة منكورةً أو غير مصونة؟! ويستدلُّ دُعاةٌ كبارٌ على ضرورة إقامة الدولة الإسلامية بأنّ الإسلامَ عقيدةٌ وشريعة، والقائلُ بذلك لا بد أن يُقرَّ أنَّ الإسلامَ دينٌ ودولة! بيد أنّ (الشريعة) لا تعني المشروعَ السياسيَّ، كما أنها في الحقيقة لا تنفصلُ عن العقيدة، بل هما شيءٌ واحدٌ، ذلك أنّ الشريعة تملكُ جوانب اعتقادية أيضاً، وكذلك أورد برهان غليون في الفصل الأول جملة إشكالات على أطروحة الدولة الإسلامية في الفصل الأول، منها أنه يرى فيها شكلاً من أشكال الدولة الدينية التي تجاوزها الجميع باتجاه الدولة الديمقراطية التي تكفل قيام الحق والقانون، وترسخ مبدأ المواطنية كأساس للتعامل بين الجميع، وإن كان العديد من المفكرين الإسلاميين ينفون هذه الصيغة عن الدولة الإسلامية، وقاموا بتوطين فكرة المواطنة داخل الفكر السياسي الإسلامي، بما يكفل مبدأي المساواة والعدل.

والواقعُ أنّ منظّري الإسلاميين بعد أن صاروا أحزاباً سياسيةً، ومارسوا المشاركة، سيطر في أوساطهم أحدُ منزعين: إمّا تصوير "الدولة الإسلامية" الموعودة بصورةٍ تقرُبُ بها من "الدولة المدنية"، أو العكس، أي تصوير الدولة المدنية باعتبارها اختراعًا من اختراعات المسلمين في العصور الوسطى، قلَّدهم فيها الغربيون المُحْدَثون.

لكن المقال الأخير في الفصل الأخير من الكتاب، يخطو خطوة متقدمة في إدراك مشكلة الدولة الإسلامية من داخل التفكير الإسلامي نفسه، إذ يوضح أن هناك تفريقًا وتمييزًا بين شمولية الإسلام ووظيفة الفقه والفقهاء، كما أن هناك تمايزًا بين الفقه والسياسة، إلا أن متغيرات الواقع السياسي أدت إلى اضطراب كبير في "الأدوار" طاول وظيفة الفتوى ومجالها وحدودها، بل وظيفة الفقه والفقيه، والذي لم يتم الانتباه إليه أن شمولية الإسلام لم تعنِ شمولية الفقيه في ذاته بحيث يصبح هو - وحده - المتحكم بالمجال العام.

لكن التطور الذي حدث في العصر الحديث هو ذلك الانفصال بين الشريعة والسياسة في بناء تصور ومرجعية الدولة الحديثة، بما هي مهيمنة على تفاصيل حياة البشر، وفي هذا السياق حدثت تحولات كبيرة في وعي تلك الفكرة المركزية في الإسلام، وهي "النظام الشامل"، فتحولت من إطار دولة مجسدة لها وقائمة بها، إلى إطار جماعة أو تنظيمات إسلامية، فجرى الدمج بين الإسلام بوصفه نظامًا شاملاً، وبين ما سمي لاحقًا بـ"الإسلام السياسي" على معنى المشاركة في السلطة، أو السعي إليها.

فاشتمال الشريعة الإسلامية على مسائل السياسة أمر لا مفرّ من الإقرار به، وهو ما يشهد به ذلك النتاج الفقهي الضخم، والتاريخ الإسلامي أيضًا، بل ويشهد به التحليل المنطقي عن تعريف الفقه الإسلامي وبناء تصوراته، لكن الجديد والطارئ هو مَنْ يمارس تلك السلطة، ويقوم على تطبيق تلك التصورات. هنا حدث - ويحدث - الكثير من الاضطراب منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة والصراع على السلطة والمرجعية أيضًا.

 

 


تاريخ النشر : 24-03-2010

6386 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com