تمهيد:
يرى الدكتور المسيري رحمه الله أنّ لكل علم اصطلاحاته, والاصطلاح في العلم هو اتفاق جماعة من الناس المتخصصين في مجال واحد على مدلول كلمة أو رقم أو مفهوم, وذلك يتمّ عادة نتيجة تراكم معرفي وحضاري وممارسات فكرية, تتمّ في إطار معين لمدة من الزمن, ثمّ يتبع ذلك محاولة تقنين هذه المعرفة.
لذلك فقد رفض الدكتور المسيري كثيراً من المصطلحات الغربية التي تمّ نقلها عن الغرب دون إعمال فكر أو اجتهاد, لأنها مصطلحات نتجت عن تجربة حضارية غربية, لها سياقها الخاص, ودعا بدلاً من ذلك للنظر إلى أي ظاهرة في سياقها, ومحاولة توليد مصطلح من داخل المعجم العربي, يكون تسمية للظاهرة من وجهة نظرنا نحن.
وبما أنّ العرب هم نقلة أمينون لكل المصطلحات الغربية دون نقد أو تمحيص, فإنهم توقّفوا عن إبداع المصطلحات الخاصة بالظواهر التي تحتاج لدراسة في مجتمعاتنا العربية, لأنهم ببساطة لا يبادرون لدراسة إلا ما يدرسه الغربيون, ولا يهتمّون إلا بما يهتمّ به علماؤهم من تلك الظواهر, وتقتصر مشاركاتهم على شرح وبيان ما يقدّمه العلماء الغربيون من رؤى ونظريات حولها. واكتفوا بنقل ما استجدّ من مصطلحات الغرب بأمانة ملفتة, سواء كانت مناسبة ومطابقة لما يرون أنه قابل للتطبيق في واقعنا ومجتمعاتنا أم لا.
لكن الدكتور المسيري رحمه الله عندما استوقفته إشكالية التحيّز عند دراسته للظواهر الإنسانية, اختار المصطلح: "التحيّز", بالرجوع إلى المعجم اللغوي العربي, وفيه: أن التحيّز يعني الانضمام والموافقة في الرأي وتبنّي رؤية ما, مما يعني رفض الآراء الأخرى. وقد اختار هذا المصطلح ليطلقه على مجال جديد لدراسة ظاهرة إنسانية من صميم المعطى الإنساني, ومرتبطة بإنسانية الإنسان, كما كان يرى, وهي ظاهرة التحيز().
فقه التحيّز:
أطلق المسيري مصطلح "فقه التحيّز" على تخصص جديد يركّز على دراسة وتحديد عناصر التحيّز في العلوم الإنسانية والاجتماعية وكشفها, وخصوصاً التحيزات الغربية الكامنة في المناهج التي يتمّ استخدامها في العلوم الغربية, والتي تبدو أنها محايدة كما يظن كثيرون, ولكنها تعبّر في الغالب على مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي تحدد مجال الرؤية وطريقة البحث الغربية, وتقرر كثيراً من النتائج مسبقاً.
وبما أن العرب كما قلنا نقلة أمينون للعلوم الغربية دون تمحيص أو نظرية نقدية واثقة؛ فقد أراد المسيري أن يكون "فقه التحيز" أداةً لتحديد التحيزات الغربية الكامنة في المناهج والأدوات التي يستخدمها الباحثون العرب في دراساتهم, لأنها برأيه أكثر التحيزات شيوعاً وخطورة, فكثيرون يرون القيم الغربية على أنها قيم عالمية, ويتبنونها دون إدراك لخصوصيتها الغربية, وسواء كان هذا التبني يتم بوعي أم بدون وعي فإن هذه التحيزات الكامنة تخلق ترابطاً اختيارياً بين الباحث وهذه الأفكار, ويجد الباحث نفسه متحيّزاً لبعض الظواهر والأفكار, ويهمل أو يستبعد بعضها الآخر مما يقع خارج نطاق الاستعارات والنماذج الكامنة.
وقد استخدم المسيري كلمة "فقه" بدلاً من "علم" لأن الكلمة الأولى حسب رأيه تسترجع البعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة, على عكس كلمة "علم" التي تؤكد جوانب الدقة واليقينية والحيادية والنهائية كما قال.
قواعد التحيّز:
وضع الدكتور المسيري قواعد أساسية تساعد على فهم التحيّز وتمييزه, وهي:
1 ـ القاعدة الأولى: التحيّز حتمي: وذلك بسبب المعطيات التالية:
أ ـ لأنه مرتبط ببنية عقل الإنسان ذاتها, فهذا العقل لا يسجّل تفاصيل الواقع كالآلة الصمّاء, فهو عقل فعّال, يدرك الواقع من خلال نموذج فيستبعد بعض التفاصيل ويبقي بعضها الآخر.
ب ـ التحيّز لصيق باللغة الإنسانية المرتبطة إلى حدّ كبير ببيئتها الحضارية, وأكثر كفاءة في التعبير عنها. فلا توجد لغة تحتوي كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوّناته, فلا بدّ من الاختيار.
ج ـ التحيّز من صميم المعطى الإنساني, ومرتبط بإنسانية الإنسان, أي بوجوده ككائن غير طبيعي, لا يردّ إلى قوانين الطبيعة العامة ولا ينصاع لها, فكل ما هو إنساني يحوي على قدر من التفرّد والذاتية ومن ثمّ التحيّز.
2 ـ القاعدة الثانية: التحيّز قد يكون حتمياً ولكنه ليس نهائياً:
فالتحيّز ليس بعيب أو نقيصة, بل على العكس يمكن أن يُجرّد من معانيه السلبية, ويصبح هو حتمية التفرّد والاختيار الإنساني.
واللغة الإنسانية() رغم حدودها قادرة على تحقيق التواصل, وعلى مساعدتنا على تجاوز أشكال كثيرة من التحيّز, وعلى بناء نماذج معرفية هي نتاج تجربتنا الحضارية الخاصة, ولكنها بنفس الوقت تساعدنا على التعامل مع أنفسنا ومع واقعنا ومع الآخر. فمعنى أنه ليس نهائياً أي أنه ليس نهاية المطاف حيث يمكن تجاوزه, ولكن النهائي هو الإنسانية المشتركة والقيم الأخلاقية الإنسانية.
وقد ذكر الدكتور المسيري أنواعاً عديدة للتحيز, أظهر من خلال الأمثلة الملموسة المقصود منها, وكانت طريقته بحد ذاتها في شرح هذه الأنواع طريقة مبتكرة قائمة على عرض الأمثلة التي تقدم شرحاً واقعياً لهذه الأنواع, فبيّن أن هناك تحيّزاً للحق وتحيّزاً للباطل, وهناك تحيّز واضح واعٍ وتحيّز مستتر كامن غير واعٍ, وهناك تحيّز حاد وقوي, وتحيّز متوسط القوّة أو ضعيف, وهناك تحيّز داخل التحيّز, حيث يتمّ التركيز على أفكار بعينها دون سواها, وهناك تحيّز معاكس لهذا حيث يتمّ التحيّز لعدد من الأفكار تنتمي لأنساق معرفية مختلفة ومتناقضة ويتمّ تبنيها كلها, وهناك تحيّز كلي وآخر جزئي, وهناك تحيّز ليس له نظير في الحضارات السابقة , وهو ما أسماه المسيري "تحيّز واقعنا المادي ضدّنا", والذي يفرض علينا أنماطاً من السلوك تناسب المنظومة القيمية الغربية مثل السرعة والكفاءة والتنافس.
آليات تجاوز التحيّز:
وضع الدكتور المسيري بعض الأساسيات التي يمكن من خلالها أن نتجاوز التحيّز, وهذه الأساسيات ترتكز إلى عدة نقاط أهمها:
1 ـ إدراك حتمية التحيّز وضرورة النقد الكلي:
فإدراك حتمية التحيّز هو أولى الخطوات لتجاوزه, فالعقل الإنساني قاصر ولكنه فعّال, وهو يواجه الواقع المركب ويتفاعل معه, فيبقي ويستبعد ويجرّد وينفي ويصحح ويركّب ويصوغ نماذجه المعرفية الخاصة التي يدرك العالم من خلالها. وهذا الإدراك لحتمية التحيّز يساعدنا على فهم السلوك الإنساني المرتكز على تلك النماذج المعرفية التي يصوغها العقل البشري من خلال تفاعله مع الواقع.
ونقد التحيّز يجب أن لا يقف عند الجانب التطبيقي فقط, بل يجب أن ينصرف إلى مجمل البناء النظري الذي يفرز هذا التحيّز.
2 ـ توضيح نقائص النموذج المعرفي الغربي:
إن توضيح نقائص النموذج المعرفي الغربي ستساعدنا حسب رأي الدكتور المسيري على التحرر من قبضته المهيمنة, والتي تجعلنا نسير في أبحاثنا المعرفية على خطاه. فهو نموذج معرفي معاد للإنسان يتعامل معه باعتباره شيئاً مادياً ليس له أي خصوصية تميزه عن باقي الأشياء.
هذا بالإضافة إلى ذلك التصور المغلوط عن قدرة الإنسان على التحكم بالواقع, وتناقص رقعة المجهول مقابل اتساع رقعة المعلوم. ومحاولة الوصول إلى مستويات عالية من التعميم لا تبررها المعرفة عند من قاموا بهذا التعميم, وهذا ناتج أساساً عن نظرتهم المادية للإنسان.
ويجب أن ندرس جوانب القصور التي ظهرت في المجتمعات الغربية من خلال التطبيقات المختلفة لهذا النموذج, وبالتالي ندرس الأزمات التي ظهرت بسبب تطبيقه, والتي تناولها كثير من المفكرين الغربيين, والتي أفرزت كما وصف الدكتور المسيري الفكر الاحتجاجي أو المضاد, والذي ينطوي على رفض للنماذج العلمية المادية العامة, التي تهمل الكيف وما لا يُقاس والمطلقات والخصوصية.
كما يجب دراسة الظواهر السلبية التي صاحبت الحضارة الغربية, والتي يصنفها بعضهم على أنها مجرد انحراف وهي في الحقيقة شيء أساسي فيها لا مجرد استثناء, كالنازية والإمبريالية وغيرها...
ويجب دراسة المراجعات الجديدة للتاريخ الغربي, ولعلم النفس وعلم اللغة والعلوم الطبيعية.
3 ـ نسبية الغرب:
إن نقد الحضارة الغربية لا يهدف إلى الفضح والانتقاص, ولكنه نقد بهدف الفهم والاستيعاب, وعزل ما هو خاص غربي عما يصلح أن يكون عاماً وعالمياً, وبهذا نستعيد تبيان خصوصيته ومحليته, فالغرب يجب أن يصبح غربياً لا عالمياً, لأنه تجربة حضارية يوجد في العالم تجارب حضارية كثيرة غيره.
وللتخلص من الإحساس بمركزية الغرب, ونزع صفة العالمية عنه, يجب إدراك خصوصية الحضارة الغربية والظروف التاريخية والثقافية التي أفرزتها, وكذلك مصادرها والمؤثرات التي ساهمت في تشكيلها.
4 ـ الانفتاح على العالم:
يجب التعرف على الحضارات الأخرى المنتشرة في العالم, التي تمّ تجاهلها على حساب الاهتمام بالحضارة الغربية فقط. كحضارة اليابان وحضارات إفريقيا وغيرها.
هذا الانفتاح سيؤدي إلى إصلاح التشوه المعرفي الذي أصابنا, والمتمثل بترسيخ فكرة مركزية الغرب وعالميته. وبالتالي فإن إدراك التحيّز سيحررنا من الحقائق المطلقة التي حجب عنا إيماننا بها الانتباه لغيرها, كما أن إدراكنا للتحيّز سيجعلنا نملك القدرة على النقد والفعالية وعدم تلقي المعارف بسلبية بل بوعي وتعقّل.
النموذج البديل:
بعد أن قدّم الدكتور المسيري نظريته في فقه التحيّز قدّم تصوراً عاماً للنموذج المقترح البديل, الذي يجب أن نتعامل من خلاله في مناهجنا البحثية بدلاً عن تلك المطلقات التي أفرزها تحيزنا للنموذج المعرفي الغربي.
هذا البديل يقوم على أسس تراعي خصوصيتنا الحضارية, ومنطلقاتنا النظرية والعقدية, وكذلك نظرتنا للكون والإنسان. فالنموذج المعرفي البديل الذي يجب أن نستخدمه في أبحاثنا ودراساتنا وتحليلنا للظواهر والأحداث لا بد أن يكون نابعاً من تراثنا الذي هو مجمل تاريخنا الحضاري في هذه المنطقة, وهو نموذج حضاري أساسه القرآن والسنة اللذان يحويان القيم الإسلامية, فالإسلام بالنسبة للمسلمين عقيدة وهو بالنسبة لكل من يعيش في هذه المنطقة النواة الأساسية للحضارة التي ينتمون إليها.
وهذا لا يعني أن ننسخ حرفياً اجتهادات السابقين من علمائنا, ولكن يجب استخلاص القواعد الكامنة في إبداعاتهم واجتهاداتهم, وبالتالي استخدامها والبناء عليها لقراءة التراث الحضاري لأمتنا.
ويجب أن نطمح للوصول إلى نظرية شاملة نعرف مسبقاً أنها لن تكون قادرة على تفسير كل شيء بشكل نهائي, لأنها نظرية شاملة نسبياً وهو ما يميز كل ما هو ممكن إنسانياً.
أمّا ملامح أو صفات هذا النموذج البديل فهو نموذج ينطلق من الإنسان, وهو غير مادي, توليدي لا تراكمي لا يعتمد تلك النظرة الضيقة التي تفترض أن ثمة نقطة واحدة تتقدم نحوها كل الظواهر وكل البشر وكأن هناك أمة واحدة ومعرفة واحدة, وهذا يتنافى مع العقل ومع التجربة الإنسانية وتنوعنا الإنساني.
أمّا العلم البديل الذي سينتجه هذا النموذج المعرفي البديل فهو علم إنساني, لا يدعي الكمال ولكنه اجتهاد مستمر, يدرك أن عقل الإنسان لا يمكنه الإحاطة بكل شيء, فهو عقل محدود ولكنه فعّال, وهو علم لا يهدف للتحكم الكامل في الواقع, لأنه يعرف محدودية الإمكانات البشرية, ولن يدعو إلى تصفية الثنائيات الموجودة في الواقع لأن هذه الثنائيات هي انعكاس لثنائية الخالق والمخلوق والإنسان والطبيعة.
والعلم البديل سينظر للظواهر في أبعادها المتكاملة دون الاقتصار على بعد واحد, ثم يتم بعد ذلك تحديد أكثر الأبعاد فعالية وتأثيراً دون التقيد بأي مسلمات مسبقة.
ومن الطبيعي أن هذا العلم سينتج عنه هيكل مصطلحي جديد له ملامحه المميزة والتي هي امتداد لملامح العلم البديل الذي سينتجه نموذجنا المعرفي البديل.
وقفة نقدية:
بعد هذا العرض الموجز لنظرية التحيّز التي قدّمها الدكتور المسيري, والتي نتج عنها مجموعة كبيرة من الأبحاث والدراسات القيّمة, التي قدمها مجموعة كبيرة من الباحثين في مختلف المجالات والمحاور, سواء في الأدب أم الفن والعمارة أم العلوم الطبيعية أم العلوم الاجتماعية أم في علم النفس والتعليم والاتصال وغيرها؛ أورد بعض الملاحظات التي استوقفتني أثناء بحثي هذا:
ـ التعريف الذي اعتمده الدكتور المسيري رحمه الله بالعودة للمعجم العربي والذي يعني كما قال : "الانضمام والموافقة في الرأي وتبني رؤية ما مما يعني رفض الآراء الأخرى" يدل بشكل أولي على أن هناك اختيار جاء بعد معرفة واطلاع, فالمتحيّز تبنّى آراء فئة دون غيرها بعد أن اطلع على مجموعة الآراء الأخرى ثمّ اختار ما وجده أقرب إلى الصواب وفق وجهة نظره, وأرى أن تحيّز الباحثين العرب للنموذج المعرفي الغربي لم يكن بعد اختيار واختبار ومعرفة, وإنما بسبب انبهار جعلهم لا يرون غيره. وعلى هذا أرى أن مصطلح التحيّز لا يحمل الدقّة الكافية. وعلى الرغم من ذلك أوافق الدكتور المسيري رحمه الله في أن المصطلح سيتحدد مدى نفعه بمدى تفسيريته لا بمدى دقّته أو التزامه بالمعايير المجردة, (والحديث هنا عن المصطلح الذي سيتولد من اشتغالنا الفكري وفق نموذجنا المعرفي البديل كما اقترح الدكتور المسيري رحمه الله).
ـ وبما أن مصطلح "التحيّز" هو أداة لرصد المقولات التحليلية التي تحدد مسار البحث عند الباحثين العرب, تلك المقولات التي تتبنى النموذج المعرفي الغربي وتسير على خطاه, وتعمل وفق منطلقاته وتوجهاته ومسلماته, فإنني أرى أنّ "فقه التحيّز" يجب أن يبحث في الأسباب التي أدت بالباحثين العرب إلى تبني النموذج المعرفي الغربي دون سواه, هذا التبني الذي أنتج هذا الكم الكبير والخطير من الأفكار المغلوطة, والتفسير السطحي للأحداث, والتقييم السلبي للنفس والواقع, ما أوقع الفكر العربي بحالة فصام كما وصف الدكتور غريغوار مرشو في كتابه().
إنّ بحثنا عن هذه الأسباب سيساعدنا على تجاوز هذه التحيّزات, والتعامل معها كحالة تستدعي العلاج, وأرى أن مفهوم "الاستلاب" الذي استخدمه المفكر محمد شاويش يصلح تماماً لتفسير هذه الأسباب وتحليلها, ويمكن للقارئ الكريم أن يرجع لمقالات محمد شاويش حول الموضوع, وكذلك لمقال "مفهوم الاستلاب عند محمد شاويش"() ليتبين معنى هذا المفهوم وأهم أركانه.
فالباحثون العرب وقعوا ضحية استلابهم للغرب مما جعلهم يتبنون نموذجه المعرفي بانبهار وتسليم وصل لدرجة النظر لهذه النماذج المعرفية والبحثية على أنها مسلّمات وبديهيات لا مجال لمناقشتها أو تقييمها.
ـ تحدّث الدكتور المسيري رحمه الله عن حتمية التحيز انطلاقاً من كونه من صميم المعطى الإنساني, ولكنه قال إنه ليس نهائي, بل يمكن تجاوزه, وإدراك حتميته هو أولى الخطوات في تجاوزه. وهنا لم أفهم حقيقة كيف يكون التحيّز من صميم المعطى الإنساني ثمّ يمكننا تجاوزه؟, وكيف يمكن أن نقول إنه ليس بعيب أو نقيصة ثم نسعى من أجل التخلص منه أو على الأقل الحد منه؟
وأعتقد أن ما هو من صميم المعطى الإنساني لا يمكن تجاوزه إلا في حالة تجاوزنا الحالة الإنسانية نفسها, وهذا بالتأكيد ما لا يقبله الدكتور المسيري نفسه. وإذا كان التحيّز ليس نقيصة فلماذا ندعو إلى تجاوزه؟ وكم كنت أتمنى أن أجد تفسيراً لهذا في كتابات الدكتور رحمه الله أو في كتابات أحد من طلابه الذين سمعوا منه عن هذا وشاركوه في أبحاثه الخاصة بالتحيّز, لأنني أشعر أن هناك تناقضاً لا أستطيع التعامل معه, هذا إذا تجاوزت مسألة أخرى لها علاقة بتبرير "الظلم المعرفي" إن صح التعبير, على اعتبار أن الباحث الذي ينطلق من تحيزات مسبقة لديه, ويطرح أفكاراً تبرر الظلم أو تمنهجه أو تظهره على اعتباره نتيجة علمية لمنهج بحثي موضوعي, قد قدّم أفكاره وآراءه نتيجة استخدامه لمنهجه المعرفي المستند لتحيزاته التي هي من صميم إنسانيته, والتي هي ليست بعيب أو نقيصة.
وأعتقد أن الدكتور المسيري رحمه الله تناول "التحيّز" على اعتباره حالة إنسانية تظهر كيف أن العقل الإنساني يتفاعل مع الواقع ويتأثر ويبدع ويوّلد أفكاراً وبالتالي يتبنى مواقف معينة نتيجة هذا التفاعل وهذا التأثّر والإبداع, ويبدع مفرداته الخاصة للتعبير عن مواقفه تلك, رغم أنه صرّح أن "فقه التحيّز" وضع كأداة لدراسة التحيزات الغربية في النماذج المعرفية والبحثية التي يستخدمها الباحثون العرب, والتي تنتج عن تبنيهم للقيم والنماذج المعرفية الغربية باعتبارها قيماً ونماذج عالمية موضوعية محايدة.
ووفق وجهة نظري فإن العقل البشري أيضاً يستطيع أن يقيّم ويقوّم ويراجع أفكاره واستخداماته لأنه لا يخضع فقط لمعطيات الواقع وأحداثه فيميل لموضوعيتها الظاهرة, ولكنه يخضع أيضاً لما نسميه "الضمير" أو "الحس السليم" الذي يجعله يتّبع ما يبدو له أنه الحق حتى لو خالف بهذا ما يفرضه الواقع ومعطياته, وهو ما نراه عند مفكرين وباحثين عرب وغربيين لم يخضعوا لحتمية التحيّز المفترضة, ومنهم الدكتور المسيري رحمه الله نفسه, ومعه تلك المجموعة من الباحثين العرب الذين تحدث عنهم الدكتور عندما أخبرنا كيف تبلورت إشكالية التحيّز لتتحول إلى اجتهاد لتأسيس علم جديد هو "فقه التحيّز" بعد أن توقف العرب منذ زمن بعيد عن إبداع علوم جديدة نابعة من واقعنا.
خاتمة:
إن "فقه التحيّز" كما أكّد الدكتور المسيري لا يهدف إلى التقليل من القيمة الإنسانية لإبداعات الإنسان الغربي, ولا إلى تحميله مسؤولية كل ما حدث لنا من مصائب, ولكنه يهدف إلى رؤية النموذج المعرفي الغربي باعتباره أحد التشكيلات الحضارية الإنسانية وليس التشكيل الوحيد, وبالتالي سيكون بإمكاننا التعامل معه دون قلق, فلا نقبله كله ولا نرفضه كله بل ندرسه كتشكيل حضاري إنساني له سلبيات وإيجابيات, وسيمكّننا هذا من الانفتاح على التشكيلات الحضارية الأخرى, ورؤية تشكيلنا الحضاري الخاص بنا واحترامه والعمل على المحافظة عليه حتى نستمر ككيان متماسك له هوية محددة لا كقشرة خارجية لا مضمون لها حسب وصف الدكتور رحمه الله.
(1) الحديث عن مفهوم التحيز وتعريفه سيعتمد بالدرجة الأولى على الكتاب الذي وضعه الدكتور المسيري كأساس لنظرية التحيّز, والذي صدر ضمن سلسلة الأبحاث المنبثقة عن مؤتمر التحيز الأول الذي عُقد في الفترة من 19 ـ 21 شباط / فبراير 1992 م (الموافق 15 ـ 17 شعبان 1412هـ ) في القاهرة, وهو بعنوان إشكالية التحيز, رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد, المقدمة: "فقه التحيز", د.عبد الوهاب المسيري, المعهد العالمي للفكر الإسلامي, سلسلة المنهجية الإسلامية (9), الولايات المتحدة الأمريكية, فيرجينيا, هيرندن, ط3, 1418هـ / 1998م.
وكذلك: حوارات عبد الوهاب المسيري, تحرير سوزان حرفي, دمشق, دار الفكر, ط1, 1430هـ / 2009م.
وأيضاً كتابه: العالم من منظور غربي, عبد الوهاب المسيري, القاهرة, دار الهلال, العدد 602, ذو القعدة / فبراير, 2001م.
(2) يميز الدكتور المسيري بين ما أسماه الإنسانية المشتركة والإنسانية الواحدة, فالإنسانية المشتركة هي الاستعداد الإنساني الكامن فينا والموجود بالفطرة, ورغم أنه استعداد كامن كما قال إلا أنه عندما ينتقل من مرحلة الكمون إلى مرحلة التحقق والوجود فإن هذا التحقق يختلف بين فرد وآخر وشعب وآخر وحضارة وأخرى, سواء في الشكل أم المضمون, ومن هنا يأتي التنوع الذي لا يلغي الفطرة التي خلقنا الله عليها, وهذا التنوع لا يعني التناحر أو نفي الآخر, ولكن إمكانية التواصل متاحة دائماً. فالله أراد أن نكون شعوباً وقبائل لنتعارف ونتدافع. بينما الإنسانية الواحدة لا تعترف بالاختلافات وتدعو لسيطرة نموذج واحد يلغي التنوع.
ومن الملاحظ أن كثيرين يخلطون بين المفهومين, وبحجّة الدعوة إلى إنسانية عالمية تراهم يحاولون فرض نموذج واحد يلغي ما عداه, ولا يعترف بالتنوع والتمايز الإنساني, وهو ما أسماه بعض المفكرين بالإنسانوية الزائفة, انظر: رد على نقد: دفاع عن التنوع الثقافي في العالم, محمد شاويش, جريدة بانياس الإلكترونية.
(3) انظر: غريغوار, مرشو: الفصام في الفكر العربي المعاصر, دمشق, دار الفكر, ط1, 2007م. وانظر أيضاً: محمد عادل, شريح: ثقافة في الأسر, دمشق, دار الفكر, ط1, 2008م.
(4) من هذه المقالات على سبيل المثال لا الحصر: "مسلمات استشراقية في الثقافة العربية", السفير اللبنانية, 15 / 12 / 2000م؛ وأيضاً: "نظرة على الاستشراق العربي", القدس العربي, العدد 1256, 21 أيار, 1993م؛ كذلك مقال: " في علم نفس الأديولوجيا" " في موقع من فتىwww.manfata.com, وعلى الرابط http://elite1.org/vb/archive/index.php/t-939.html.
ومقال "شهادة شغيل ثقافي سوري" على الرابطhttp://www.aklaam.net/newaqlam/index.php?option=com_content&view=article&id=1639:2010-03-02-20-39-44&catid=58:2008-10-14-08-37-37&Itemid=102.
و "بروتستنتية إسلامية بين المنظور الاستلابي والمنظور التأصيلي الفاعل للتجديد الديني" على الرابط http://www.khayma.com/taasil/luther.htm وغيرها, بالإضافة إلى كتابه الذي وضع فيه أسس نظريته حول الاستلاب "حول الحب والاستلاب", بيروت, دار الكنوز الأدبية, ط1, 1995م.
أما مقال " مفهوم الاستلاب عند محمد شاويش فهو منشور في موقع "من فتى" وأيضاً على الرابطhttp://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=article&sid=2276.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.