آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  إتجاهات الإصلاح

فلسفة التجديد    |    قضايا التجديد    |    التعليم و المناهج

  •     

رحيل الجابري خسارة للعقل العربي ! إلى الروح الطاهرة للفيلسوف محمد عابد الجابري

محمد همام


تقديـم:

رغم ميل الدكتور محمد عابد جابري رحمه الله إلى مناخات الهدوء النظري والتتبع العميق لإشكالات الفكر العربي، يبقى حاضرا في المناخات الساخنة المرتبطة بقضايا مصيرية جدا تمثل الانشغالات الكبرى التي استأثرت بجهود عدد كبير من الدارسين "كقضية اللغة وتجديدها، وقضايا الشريعة وشروط التجديد فيها وإمكانية تطبيقها وتطويرها، والعقيدة وأنواع الأغلال الفكرية والسياسية الملصقة بها، أضف إلى ذلك قضايا التاريخ والأدب والفلسفة التي يزخر بها تراثنا"[1]. من أجل هذا جاب الدكتور الجابري قطاعات الثقافة العربية الإسلامية وتنقل بين أروقتها، فأعاد تصنيف العلوم والمعارف التي شيدها العقل العربي الإسلامي، تصنيفا جديدا متجاوزا التصنيف الثنائي القديم للعلوم الإسلامية إلى عقلية ونقلية أو فلسفية ودينية، رافضا التصنيفات الحديثة المسقطة على الفكر العربي الإسلامي، دون مراعاة لخصوصية؛ من نحو مادية ومثالية، أو قديم و حديث أو ثابت ومتحول. والحق أن من يطلع على أعمال الدكتور الجابري يجد الرجل قد تجول بين فروع العلم وضروب المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية "وتمكن حقا من رسم خريطة للعقل"[2]، مما يعني أن فقدانه يعتبر خسارة فادحة للعقل العربي.

هذا بصفة عامة هو الإطار الفكري للمفكر الذي نودعه اليوم. والحوار معه حيا وميتا، يعني مناقشته في إشكالاته وإشكالياته، بل الأمر يتسع ليشمل إشكالات "الفكر العربي المعاصر"، بوجوده رحمه الله باستمرار في المراكز الفاعلة. ومجال البحث لا يتسع لمناقشة كل آراء الدكتور الجابري لكثرتها وتشعبها، ودقة ما يطرحه من قضايا، وما يخلص إليه من نتائج، لهذا سيقتصر علمنا على تناول بعض القضايا اللغوية في مشروعه الفكري الضخم: "نقد العقل العربي"[3] ، مع التركيز بشكل أساسي على الجزء الأول، وهو من أكثر المحاولات جدية ومن أكثرها غورا وتنقيبا عن أصول العقل العربي، ومن أدقها فحصا وكشفا لبناه وآلياته، وهو من أبرعها منهجية؛ ففضلا عما يحشده الجابري رحمه الله، من المفاهيم والتصورات التي أفادها من اطلاعه على فلسفة الغرب وعلومه وخاصة في ميدان الابستمولوجيا. يتميز مشروعه الفكري بوضوح الفكرة وقوة التعبير، ومتانة الأسلوب، كما يتميز بالإحكام البادي في سيطرة المؤلف على مجرى البحث وبدرجة عالية من الوثوق تصل حد الدوغمائية[4]. إن مشروع الدكتور الجابري ذو طابع فلسفي عام، وتناوله يتطلب قدرات معرفية غنية: فلسفية ولغوية... وسنركز على التيمة اللغوية لأهميتها على حد تعبير الدكتور الجابري "بما أن اللغة العربية مكون أساسي للثقافة العربية الإسلامية فلقد اخترت أن يكون عملي منسوبا إلى اللغة كأداة معرفة وحاملة تصور للعالم (...) إن موضوع عملي هو "الثقافة العربية الإسلامية"، أعني الثقافة التي تم بناؤها داخل اللغة العربية وبواسطتها وداخل الإسلام ومن خلال معطياته (...) وإن شاء القارئ أن يتأكد (...) فما عليه إلا أن يشطب في كتابي على جميع الفقرات والصفحات التي تتناول اللغة ومسائلها وعالمها وكل مظهر من مظاهر حضورها (...) ثم لينظر ماذا سيبقى له؟"[5]

لقد تحمل الدكتور الجابري رحمه الله هما فكريا ضخما على صعوبته وخطورته، ولا يماري في جديته إلا حسود ومكابر. ونحن نتابع قراءته وننتفع بمباحثه ونفرح للجديد الذي يطرحه، أعجبنا بكتاباته، مع أننا نختلف معه في وسيلته المتخذة وفي رسم المشروع وتنفيذه، اختلاف منتج للحقيقة ومدرك للحق لا اختلاف سجال دوغمائي، وكم صدمنا موته في ذلك الصباح البئيس لأننا افتقدنا عقلا جبارا ممزوجا بالخلق العظيم والصلابة الاجتماعية والعودة العقلانية إلى الذات.

وبمناسبة وفاة هذا الفيلسوف العظيم نحاول في هذه المقالة عرض كبرى قضايا المشروع عموما عرضا مركزا مع احترام السياق الفلسفي الذي يتحرك فيه مشروع هذا المفكر الكبير رحمه الله، وفاء لقيمته الفكرية الممتدة فينا.

1.             مشروع نقد العقل العربي:

يرى الدكتور الجابري أن مشروعه يتنازل موضوعا كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة. فنقد العقل جزء أساسي من كل مشروع للنهضة (...) وهل يمكن بناء نهضة لعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه[6]. في هذا السياق يطرح الدكتور الجابري مشروعه لإعادة كتابة التاريخ الثقافي العربي بتوجيه من الطموح في التقدم والوحدة "ولاشك أن الشروع في نقد هذا العقل بغية تحليل مكوناته والبحث في أصوله والكشف عن بنيته، إنما هو مطمح ثقافي جليل، بل عمل فكري تأسيسي، لا يمكن إلا أن يذكرنا بآثار فكرية كبرى أحدثت أثرا بالغا في تطور الفكر الفلسفي الغربي وفي الثقافة العقلية عامة، مثل كتاب "نقد العقل الخالص" للفيلسوف كانط، الذي عده البعض ثورة عقلية، وكتاب "تكوين العقل العلمي" لغاستون باشلار، الذي افتتح أفقا جديدا في البحث في أصول المعرفة العلمية وأسسها، أي ما اصطلح على تسميته (الإبستمولوجيا)" [7]. فمشروع الدكتور الجابري إذن هادف، لا يمارس النقد من أجل النقد "بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها"[8]. وعلى هذا الأساس أخذ المشروع مسارا متميزا معتمدا النقد الإبستمولوجي على حد تعبير الدكتور الجابري: "حصرنا محاولتنا هذه في المجال الإبستمولوجي وحده، فقلنا أن ما نريد فحصه وتحليله هو الفكر العربي بوصفه أداة للإنتاج النظري، وليس بوصفه الإنتاج نفسه"[9]. إن استعانة الدكتور الجابري بهذه المرجعية الغنية بتعددها وحداثتها يجعل السؤال يمتد في مشروعه إلى فضاءات متداخلة جاعلة النقد ينخر آليات الفكر وبشكل خاص نمط المعالجة منهجيا، وحدود المفاهيم وظيفيا "فتعميق الوعي بمشكل من المشاكل يتطلب منهجا ورؤية والمنهج والرؤية متلازمان؛ المنهج تؤطره وتوجهه دوما رؤية ما صريحة أو ضمنية، والرؤية ذاتها نتيجة منهج في التحليل وطريقة في المعالجة"[10].

 

1.1         سؤال المنهج في مشروع الجابري.

"إن الاهتمام بالنقاش المنهجي لا يرجع إلى مجرد فضول أو نشوة ذهنية، فهو من كنه ما لنا من قدرة على الإبداع والتجديد والتوضيح، وأن ما هو جوهري في عالم الفكر هو أن نفهم أولا، وأن نغير نظرتنا، ونعير لكل طريقة ما يجب لها من عناية، ثم ننظر إليها بروح نقدية تنيرنا، وألا نسعى إلى الدحض فيحجب أنظارنا عما يمكن أن يغنينا به الآخرون"[11]، والمنهج عند الدكتور الجابري "طريق في البحث ومبادئ تلتزم خلاله، ومفاهيم توظف فيه"[12]، وهذا ما نلمسه في مشروعه، في تحديده لنقد العقل العربي "نقد الأداة والسلاح (...) والفحص عن الأداة والأدلة، أي الطريقة التي تنتج بها الأفكار (...) طريقة البناء وفعل البناء نفسه"[13]، فسلك مسلكا تحليليا لا بمعنى رد المركب إلى البسيط كما يفعل الكيميائي، ولكن بالنظر إلى الموضوعات، لا بوصفها مركبات فقط ولكن بوصفها بنى، وكشف الغطاء عن العلاقات القائمة بين عناصرها بوصفها منظومة من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحولات، وهذا ما يسميه الدكتور الجابري (بالتفكيك): "تفكيك العلاقات الثابتة في بنية ما بهدف تحويلها إلى لا بنية إلى مجرد تحولات"[14]. فمثلا مفهوم التراث – مجال اشتغال الدكتور الجابري – يرى بأنه يتحدد بالتناقض بين مكوناته الذاتية والموضوعية، مما يطرح على صعيد المنهج مشكل تحقيق (الحد الأدنى) من الموضوعية. وهنا يقترح الدكتور الجابري ضرورة فصل التراث عن أنفسنا لحظة منهجية مؤقتة ثم العودة إلى استثماره. والتصور النظري المنهجي العام الذي يوظفه الدكتور الجابري لنقد العقل العربي يمر بثلاث مراحل: أولاها دراسة الخطاب العربي وإبراز ضعفه وتشخيص عيوبه وثغراته، استجلاء لصورة العقل العربي من خلاله. والمرحلة الثانية يتجه فيها الدكتور الجابري إلى البحث عن جذور الخصائص التي لاحظها على الخطاب العربي المعاصر في تاريخ الثقافة الإسلامية. وقد ضبط هذه الجذور في تصنيفه الثلاثي المشهور لمكونات العقل العربي: "البيان، العرفان، البرهان". والمرحلة الثالثة يتم فيها فحص آليات النظم المعرفية الثلاثة ومفاهيمها ورؤاها وعلاقة بعضها ببعض، مما يشكل البنية الداخلية للعقل العربي كما تكون في عصر التدوين وكما استمر إلى اليوم. وللتنفيذ الإجرائي العملي لهذا التصور وضع الدكتور الجابري خطة من ثلاثة مستويات على النحو التالي:

المستوى الأول: قوامه المعالجة البنيوية: أي دراسة النصوص كما هي معطاة لنا.

المستوى الثاني: التحليل التاريخي وربط فكر صاحب النص الذي أعيد تنظيمه حين المعالجة البنيوية بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية.

المستوى الثالث: الطرح الإيديولوجي: أي الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية الاجتماعية والسياسية التي أداها الفكر المعني أو كان يطمح إلى أدائها داخل الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه.

إن هذه المقاييس المنهجية، سواء النظرية أو الإجرائية، ليست في مأمن من كل نقد بل يكون اختبارها ملحا، خصوصا أن الاشتغال يكون على موضوع خطير هو التراث العربي الإسلامي، "كمجموعة عقائد ومعارف وتشريعات ورؤى بالإضافة إلى اللغة التي تحملها وتأطرها والتي تجد إطارها المرجعي التاريخي الابستمولوجي في عصر التدوين وامتداداته." [15] فهل أعمال الدكتور الجابري تنتمي إلى لحظة الفصل المنهجي المؤقت؟ أم إلى لحظة الاستثمار؟ أم أن طابعها التداخل؟ ومن هنا التساؤل عن فعالية البديل المنهجي الذي اقترحه الدكتور الجابري، بعدما التفت بالنقد اللاذع إلى المناهج ذات الأصول الاستشراقية: المنهج التاريخي والمنهج الفيلولوجي، والمنهج الذاتوي، والمنهج الماركسي. إن الإجابة عن هذا التساؤل لن تتيسر منهجيا دون المرور إلى المرحلة القادمة: مرحلة مساءلة المفاهيم والقواعد والمسلمات والمصطلحات، وأنماط التحليل من أجل بنائها وإعادة بنائها، في ضوء إجراءات البحث وعملياته الداخلية.


1.2         مفاهيم -  مفاتيح في مشروع الدكتور الجابري

1.2.1    في المفهوم وتوظيفه:

يندرج مشروع أستاذنا الجابري، رحمه الله، في ميدان العلوم الإنسانية، مما يعيق رسم حدود صارمة للمفاهيم الموظفة توظيفا إجرائيا مطردا؛ فهي مفاهيم غامضة نوعا ما، بل هناك من يرى "أن ألفاظ العلوم الإنسانية هي في جوهرها مفاهيم جدالية، وأنه من جهة أخرى، لا يمكن أن نفرغها من دلالاتها الوجدانية، ولا أن نحولها إلى ألفاظ ذات معنى دقيق"[16]. ورغم هذه الصعوبة الظاهرية، سنحاول ضبط بعض المفاهيم – المفاتيح  في مشروع الدكتور الجابري تحديدا ونقدا. وفي هذا الإطار تنبه الجابري، رحمه الله، إلى كيفية توظيفه للمفاهيم ونقلها من حقول مغايرة، خاصة الحقل الابستمي، فيقول: "الإبستمولوجيا كعلم ليست شغلي الآن، أما مكتسبات هذا الدرس ومنجزاته، فإني أحاول كما يحاول صاحب العلوم الإنسانية أن أوظفها في موضوعي، ولكن لا توظيفا قسريا ولا توظيفا توجهه "موضة" بل هو توظيف (...) إجرائي برغماتي، ولكن دون أن يكون برغماتيا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة؛ فإذا وجدت مفهوما من المفاهيم الرياضية أو الفيزيائية أو السوسيولوجية أو في التحليل النفسي، وتوقعت إجرائيته بالنسبة لموضوعي فإني استعمله. وقد نبهت مرارا على أن هذا لا يعني أنني أتقيد بجميع المؤطرات التي كانت وراء هذا المفهوم؛ فأنا أحترم الموضوع موضوع البحث، وأحاول بكل جهدي تجنب السقوط تحت إغراء المفاهيم الجاهزة"[17]. يستعمل الدكتور الجابري، إذن، المفاهيم بالمعنى الذي يعطيه لها التعريف الإجرائي، ويحاول تخليصها من كل المضمرات والارتباطات التي يذكر بها اسمها عندما تم اقتباسها من حقل معرفي أو ميدان تجريبي مغاير. ولاشك أن هذا التوسيع للمفاهيم من أكثر العمليات خصبا في الممارسة العلمية للأستاذ الجابري، رحمه الله؛ وكما قال باشلار (المفهوم يكون له معنى بقدر ما يتغير معناه)، ولا يعني هذا التغيير هزيمة العقل أو تساهلا، وإنما يبرز غنى الواقع وما للعقل من دور فعال، كما يعتبر تقدما في الموضوعية، وتأكيدا للمقتضيات العقلية. [18]

 

 

1.2.2    مفاهيم محورية:

أ‌-               التراث العربي: يعتبر التراث من أكثر المفاهيم رواجا في الساحة الفكرية العربية الإسلامية المعاصرة، بل أصبح محل اهتمام معظم الدارسين. إلا أن أغلب الدراسات التراثية والمشاريع الفكرية قام بها دارسون، إما تحت وقع صدمة المغلوب الذي يقلد الغالب، أو المهزوم المحكوم بعقدة النقص الخفي في الكيان والوجود، أمام قوة وضغط الوافد الغربي حضارة وفكرا. حتى إن التراث بقي عبئا على المفكر العربي المقلدو المتغرب والمستلب، فإن عاد إليه إنما ليمسخه ويحرفه، بل ليستهلك فيه معطيات التحليل الغربي. وحتى يكتسب الشرعية النفسية فهو يحتاج إلى تسلل – تقني – عبارة عن إظهار الهم تجاه التراث وميلا شديدا إليه. والدكتور الجابري رحمه الله يمثل نموذجا فريدا في التعامل مع التراث العربي من خلال ما توفر له من نضج معرفي ومهارة منهجية واعتزاز بعمقه الفكري والتاريخي مع قدرة مدهشة على البحث الموضوعي الصارم والتقصي المتعمق لأجزاء وقطاعات المعرفة العربية الإسلامية، متجاوزا المقلدين للغرب أو للماضي.

وتناول الدكتور الجابري مصطلح التراث العربي بتتبع كلمة "التراث" في الثقافة العربية الإسلامية؛ فخلص إلى أنه لا كلمة "تراث" ولا كلمة "ميراث"، ولا أي شيء من المشتقات من كلمة "و – ر – ث" كان قديما يعني الموروث الفكري الثقافي، وهو ما يفهم به التراث اليوم. إن مفهوم التراث قديما كان يشير في الغالب إلى المال والحسب، أما الشؤون الفكرية فكانت غائبة عن المجال التداولي والحقل الدلالي لكلمة "تراث"؛ فحتى بعض علماء الإسلام عندما يتحدثون عن فضل القدماء وواجب الشكر لهم لا يستعملون كلمة "تراث الأقدمين"[19]. إن التراث إذن، بالمعنى الفكري الديني والأدبي والفني لم يكن حاضرا في خطاب أسلافنا ولا في حقل تفكيرهم؛ من هنا يرى الدكتور الجابري "أن مفهوم التراث كما نتداوله اليوم، إنما يجد إطاره المرجعي داخل الفكر العربي المعاصر ومفاهيمه الخاصة، وليس خارجهما." [20]

وإذا كان الدكتور الجابري قد حدد للتراث امتداداته التاريخية والابستمولوجية، فهو يعبر عن وعي مستقل بضرورة تجاوز دائرة الاستيلاب للماضي وكذا مقاربات المستشرقين.

ب‌- العقل العربي: يقول الدكتور الجابري في الفصل الأول من كتابه تكوين العقل العربي: "ليس ثمة شك في أن عبارة "العقل العربي" التي جعلناها عنوانا لهذا الكتاب ستثير في ذهن القارئ الفاحص لما يقرأ أكثر من سؤال من نحو: هل هناك عقل "خاص" بالعرب دون غيرهم؟ أو ليس العقل خاصية ذاتية للإنسان، أي إنسان، تميزه وتفصله عن الحيوان؟ وهل يتعلق الأمر، ومن جديد، بذلك التمييز الذي أقامه بعض المستشرقين والمفكرين الأوروبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بين (العقلية السامية: التجزيئية والغيبية) و(العقلية الآرية: التركيبية والعلمية)؟ أم أن الأمر يتعلق هذه المرة "بسر" جديد من "الأسرار" التي ما يفتأ العرب المعاصرون يكتشفونها في أنفسهم، ويقرؤون فيها عبقريتهم وأصالة معدنهم"[21]. وللتعجيل بفك غوامض بعض هذه الأسئلة أوضح الدكتور الجابري أن مفهوم العقل العربي كما سيتناوله بالتحليل والفحص في مشروعه ليس شيئا آخر غير هذا الفكر الذي نتحدث عنه، الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري، صنعتها ثقافة معينة لها خصوصياتها في الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنهم وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر في ذات الوقت عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن"[22]. إن هذا النص  يثير تساؤلا حادا حول العلاقة بين العقل والفكر في تصور الدكتور الجابري وهو الذي أوضح أكثر من مرة أن الفكر والإيديولوجيا أسماء لمسمى واحد، وهذا سر اختيار كلمة "عقل" وليس "فكر". ومصطلح "عقل" الموظف عند الدكتور الجابري مستقى من تقسيم (لالاند) العقل إلى عقل مكون وعقل مكون. وما يقصده الدكتور الجابري بالعقل العربي إنما هو العقل المكون؛ أي جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، أو لنقل تفرضها عليهم كنظام معرفي[23]. أما العقل المكون فهو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان أي "القوة الناطقة" باصطلاح القدماء. وبهذا الاعتبار يمكن القول إن الإنسان يشترك مع جميع الناس، أيا كانوا، وفي أي عصر كانوا، في كونه يتوفر على عقل مكون وينفرد هو ومن ينتمي معه إلى نفس الجماعة الثقافية بعقل مكون والذي هو النظام المعرفي (مفاهيم – تصورات) الذي يؤسس الثقافة التي ينتمون إليها.

إن هذا التحديد للعقل والذي توخى فيه صاحبه العلمية، قد جر عليه انتقادات لاذعة؛ أولاها بناء مفهوم العقل  موضوع الدراسة "على مفهوم وصفي تقريبي مستقى من كتاب مدرسي لاندريه لالاند، بدلا من الرجوع لمناقشات الكتب الأمهات في هذا المجال"[24]، إضافة إلى الاستناد المطلق للمرجعية اليونانية عامة والأرسطية خاصة1 . إلا أن أخطر الانتقادات الموجه لمجهود الدكتور الجابري في هذا الإطار اشتغاله على مستوى المصطلح على "العقل العربي" وليس "العقل الإسلامي". وقد أكد الدكتور الجابري أكثر من مرة أن اختياره "العقل العربي" اختيار "استراتيجي مبدئي ومنهجي"[25]. لأنه يرى أن "العقل الإسلامي يضم كل ما فكر فيه وكتبه المسلمون بالعربية أو بغيرها كالفارسية". والدكتور الجابري يجهل الفارسية لغة وفكرا؛ فالاشتغال على العقل الإسلامي خارج حدود الإمكان الذاتي للدارس، إضافة إلى اختياره النقد الابستمولوجي الذي يتناول أدوات المعرف وآلياتها، واستعمال "عقل إسلامي" إنما هو "إنشاء علم كلام جديد"[26]. ويوضح الدكتور الجابري اختيار عبارة العقل العربي "لما كان للغة وعلومها من دور كبير وحاسم في تشكيل تلك الآليات وبناء تلك الأسس.

إن مفهوم العقل والتراث وما يترتب عنهما من مفاهيم كالتاريخ والهوية والخصوصية، أدى إلى توظيف مفاهيم إجرائية لتأويل ذلك التراث وتجديد العقل، كمفهوم القراءة والإيديولوجيا وما يرتبط بهما من مفاهيم إبستمولوجية كالعقلانية والواقع والموضوعية والإشكالية والقطيعة، هذا المفهوم الأخير الذي  لم يخل نقاش حول مشروع الدكتور الجابري من الحديث عنه.

ج- القطيعة الإبستمولوجية والعصبية المغربية:

إن الحديث عن مفهوم القطيعة في مشروع الدكتور الجابري رحمه الله يحيلنا وبشكل طريف إلى ما اتهم به الرجل في نقاشات عدة "بالشوفينية" و"التعصب للمغرب" عند مقارنته بين فلسفة ابن رشد وفلسفة ابن سينا؛ إذ خلص إلى أن ابن رشد قطع مع ابن سينا من زاوية إبستمولوجية محضة؛ زاوية الأدوات الفكرية والمنهج والإشكالية والمفاهيم؛ فابن سينا "الغنوصي"، يخالفه ابن رشد "العقلاني"، وهذا الرأي وصل الاقتناع به عند الدكتور الجابري حد الوثوقية، قائلا: "هذه هي فكرتي كما دافعت عنها وكما أنا مستعد إلى حد الساعة للدفاع عنها، لم يتغير رأيي، ولم أطلع على ما يدفعني إلى تغييره"[27].

إن مفهوم القطيعة في تصور الدكتور الجابري ارتبط بتجديد العقل العربي وإعادة بنائه؛ وذلك لن يتحقق إلا عبر إحداث قطيعة إبستمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر[28]. هذا ما يجعلنا نقف عند إجرائية مفهوم القطيعة؛ فالدكتور الجابري لا يستعملها في الإطار الجغرافي حتى يتهم بالتعصب، ولكن للتمييز بين المكونات البنيوية للعقل العربي: بين بنية عقل عصر الانحطاط وبنية عقل العصر الحديث، وربما قد يتهم هنا بالتطرف "الإبستمولوجي"، الذي كان من مزالق الدراسة "المقارنة" بين الفكر الفلسفي في المغرب ونظيره في المشرق[29].

      -2نقد اللغة في مشروع الدكتور الجابري.

2- 1اللغة العربية صانعة الثقافة العربية:

اعتبر الدكتور الجابري اللغة العربية محور دراسته  لأهميتها في تكوين الإنسان العربي، عقلا وفكرا. فالقرآن الكريم أصل العلوم الإسلامية هو نص لغوي بالأساس، وإعجازه مقالي وذو طبيعة لغوية بيانية وبلاغية في تصور متلقيه الأوائل من العرب. وعرف العرب تاريخيا ببيان اللسان، ودقة المنطق، وحسن التفصيل والايضاح، وجودة الإفهام، وحكمة التبليغ، حتى "إن أول عمل منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعدها"[30]. فالتعرف على نمط تفكير العرب ينطلق بداهة من لغتهم؛ "لأنه كلما كان العربي أقدر على التعامل مع اللغة العربية، تعبيرا واستجابة، كان أكثر امتلاكا لما به الإنسان هو إنسان؛ فالعربي "حيوان فصيح"؛ فبالفصاحة وليس بمجرد "العقل" تتحدد ماهيته.[31]

وإذا كانت اللغة العربية المحدد الأساسي والحاسم للعقل العربي، بنية ونشاطا، فإن ضبط العلاقة بين اللغة العربية والفكر العربي يصبح أمرا ملحا. من هنا يسارع الدكتور الجابري إلى تبني رأي الباحث اللغوي الإثنولوجي إدوارد سابير في علاقة اللغة بالفكر. ثم ينتهي إلى خلاصات مفادها أن اللغة العربية جمدت وتحنطت، وألفاظها وعباراتها بقيت هي هي، تلك "التي جمعت وصنعت من طرف الخليل وزملائه، أما ما حدث بعد ذلك، بل وقبل ذلك، من تطور، فهو دخيل على لغة "الأعراب الأقحاح "، ولذلك يجب تركه وإهماله (...) فجاءت قوامسينا المعاصرة مجرد مختصرات  مشوهة أحيانا  للمعاجم القديمة[32]. وهذا النقد اللاذع لم يمنع الدكتور الجابري من الإشادة بمجهود القدماء في تدوين اللغة وتقعيدها؛ فهم الذين "أمدوا الأجيال اللاحقة بلغة مضبوطة مقننة قابلة للتلقي والتعلم وبالتالي قادرة على حمل الثقافة والعلم من السلف إلى الخلف"[33]، معتمدين في ذلك "صرامة منطقية وعقلية رياضية راقية"[34]. إلا أن هذا العمل الجبار تحول من عملية جمع اللغة إلى فرض نظري صارم؛ فحصرت اللغة في "قوالب ثابتة صلبة"[35]. وهذا "الجمود اللغوي" كان مبررا عند الدكتور الجابري لممارسة نقد ابستمولوجي صارم على المجهود اللغوي العربي؛ فاللغة العربية عنده أصبحت "محصورة الكلمات، مضبوطة التحولات، لغة لا تاريخية (...) لا تتجدد بتجدد الأحوال ولا تتطور بتطور العصور".[36] والتركيز على "الأعراب الأقحاح" في جمع اللغة يعني "جعل عالم هذه اللغة محدودا بحدود أولئك الأعراب"[37]؛ عالم حسي بدائي، في زمن ممتد "كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة"[38]، زمن الفراغ والهدوء.

وكان الدكتور الجابري متضايقا من فقر لغة الإعراب؛ وهو يعتبرها مرة أوسع من لغة الواقع، ومرة أخرى "محصورة الكلمات". ويستقبح في مكان آخر "التضخم في الكلمات". ويستنتج الجابري أن الأعرابي هو فعلا صانع "العالم" العربي [عالم]... ناقص فقير ضحل جاف، حسي، طبيعي، لا تاريخي، يعكس ما قبل تاريخ "العرب": العصر الجاهلي، عصر ما قبل الفتح: وتأسيس الدولة"[39]. وانتقد الدكتور الجابري لتضايقه من خلو قاموس لسان العرب من الأشياء الطبيعية والصناعية والمصطلحات وأسماء الأدوات وغيرها، وهو قاموس لغوي أصلا متجاهلا قواميس اصطلاحية متخصصة نحو: "مفاتيح العلوم" للخوارزمي، وكتاب "التعريفات" للشريف الجرجاني، وكتاب "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي، ومعجم "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار، و"الجامع للعجب العجاب" للأنطاكي، و"الكتاب الكبير للموسيقى" للفارابي. وحتى على مستوى اللغة فالمعاجم اللغوية لم تدون جميع ما تكلمت به العرب. فاللغة العربية فعلا مازالت في حاجة إلى معاجم تستوعب الفصيح وغير الفصيح، والقديم والمولد، والعربي والمعرب، إنها في حاجة إلى مجهودات متكاملة من أجل إنجاز معجم تاريخي جامع يستقصي ألفاظ العربية ومعانيها المتطورة. وابن منظور في مقدمة قاموسه الضخم لم يكن يدعي الإحاطة بكل اللغة؛ فعمله لم يتعد تلخيص بعض القواميس؛ إذ قال في تقديمه: "ليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمت بها ولا وسيلة أتمسك بسببها سوى أني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من علوم وبسطت القول فيه ولم أشبع باليسير وطالب العلم منهوم"[40].

أما القول بلا تاريخية اللغة، فقد جرت على الجابري انتقادات لسانية وإيديولوجية كثيرة؛ إذ اللغة التي قننها "الخليل وزملاؤه" إنما أخذوها "كنموذج" بمفهومه اللساني الحديث، ولم تكن مناهضة لسنن الأشياء وحركية التاريخ، بل عرفت اللغة العربية تحولات أساسية سواء في القرن الرابع أو في عهد المماليك، وأخرى أهم في القرن الماضي.

وإذا كان الدكتور الجابري صارما وحازما في فضح الاستشراق وأعوانه، إلا أنه هو نفسه تعرض لانتقادات مماثلة عند حديثه عن "عالم العربي الحسي اللا تاريخي"؛ إذ اعتبر كثيرون هذا الرأي ترجمة للنظرة الغربية إلى الآخر نظرة تحكمها ثنائية المركز والهامش: النظرة التي ترى المجتمعات غير الأوروبية مجتمعات لا تاريخية تعيش على الفطرة والطبيعة لا على التفكر والتدبر والتركيب.

2-2 جدل العقل العربي والبيان العربي عند  الجابري:

أ‌-       التصنيف الثلاثي:

اشتهر الدكتور الجابري في مشروعه في نقد العقل العربي بتصنيفه لمكونات العقل العربي داخل الثقافة العربية من خلال التمييز بين ثلاثة نظم معرفية يؤسس كل منها آلية خاصة في إنتاج المعرفة مع ما يرتبط بها من مفاهيم وينتج عنها من رؤى خاصة[41]. فالمكون العربي الصرف يشكله "النظام البياني" كما تمثل في علوم النحو والبلاغة والفقه والكلام، والمكون الثاني أحد روافد الموروث القديم يشكله "النظام العرفاني" كما تبلور في التنجيم والتصوف والتشيع والإسماعيلية والغنوص. والمكون الثالث، وهو موروث "العقل الكوني" الذي افتتحه الإغريق يمثله النظام البرهاني كما تمثل في المنطق والفلسفة والرياضيات والطبيعيات.

وتحفظ نقاد الجابري على التقسيم الثلاثي ويذهبون إلى أنه لم يقدم الأدلة الكافية لتبرير هذا الاختيار الفكري والمنهجي. أما هو، رحمه الله، فظل يلح على ّأن التمييز بين البيان والعرفان والبرهان كثلاثة نظم معرفية متباينة منهجا ورؤية سيصبح مسألة مسلما بها، وبتعبير القدماء: معمولا بها[42].

إن خطأ الدكتور الجابري برأي نقاده شبيه بخطأ وضعية كونت في تقسيم مراحل تطور الفكر البشري؛ من فكر سحري لاهوتي إلى ميتافيزيقي إلى غيبي إلى تجريدي، إلى فكر واقعي ثم علمي ثم وضعي، واعتبار كل مرحلة مستقلة بذاتها، في حين أنها مراحل متزامنة ومتداخلة، لطبيعة الإنسان وما يكتنفها من لبس وغموض في كل المراحل. هذا ما أحرج تحليل الدكتور الجابري حين تعرضه لنماذج تجمع بين "النظام البياني" و"النظام البرهاني"؛ فالشافعي مثلا، لاعتماده "سلطة النص" هو "بياني" وفي نفس الوقت هو "برهاني" لكونه مجدد ومبدع العقل العربي باعتراف الدكتور الجابري*، والنماذج من هذا النوع كثيرة. إلا أن هذا بنظر الجابري يعبر عن "أزمة الأنظمة" المعرفية؛ إذ اختلطت المفاهيم واشتبكت المسائل وتصادمت الرؤى والاستشرافات. [43] كما انتقد آخرون الجابري عند نظره إلى الفرق الإسلامية بوصفها نظما معرفية، إلا أن أكبر الانتقادات كانت تركز على وصفه العقل العربي بالبيانية.

 

ب‌-   "بيانية العقل العربي"

وصل الدكتور الجابري في دراسته للنظام المعرفي البياني إلى أن الأساليب البيانية المميزة للسان العربي هي بمثابة الأساليب البرهانية للفلاسفة في المنتوج الفكري اليوناني، كما أن مبالغة المسلمين في التنظير للأساليب البيانية جعلهم يقتصرون على دراسة النص؛ فانحبس فكرهم في تأملات لفظية ضارة دون التعامل مع الأشياء الخارجية والنظر في ظواهرها، فأصبحت أدلة الفكر العربي البيانية لا ترقى إلى مستوى البراهين التي يحصل بها علم اليقين اعتم
تاريخ النشر : 17-05-2010

6408 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com