1 ـ اللغة العربية ..الموقع الاستراتيجي في التدافع الحضاري :
إن اللغة العربية باعتبارها وعاء للثقافة العربية و للحضارة الإسلامية فإنها تواجه أخطارا تتفاقم باطراد تأتي من هيمنة النظام العالمي الذي يرفض صياغة العالم الجديد وفق خصوصيات الشعوب وثقافاتها وأعرافها وتقاليدها ، بل وفق نمطية واحدة يسعى " الغالب الوقتي " لفرضها بقوة الفعل السياسي والاقتصادي والتقني المسيطر على شعوب الأطراف .
ولكن حمل العولمة لمشروع هيمنة عالمية لا يبرر رفضها ولا البقاء خارجها ، و لايشكل سببا كافيا للقدح فيها ، فهذه ليست أول مرة يعرف فيها العالم عصر الهيمنة الدولية ، ونحن لا نأتي إلى هذا العصر من موقع الحرية والاستقلالية و السيادة الحضارية ، ولا نضحي في سبيل ولوجه بنظام دولي قائم على الاستقلال الناجز و الفعلي وغياب مبدأ الهيمنة و التسلط الدولي ، ولسنا بصدد الإختيار بين منظومات دولية هيمنية ومنظومات تحررية شاملة ، ولكننا بصدد الانتقال بكل بساطة من نظام علاقات دولية شبه استعماري بغيض ، نحو نظام علاقات دولية جديد قائم على هيمنة عالمية تعطي للدول الكبرى الأرجحية في توجيه سيرورة التحولات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية و الثقافية ....أي أننا ببساطة أمام تحول في شروط السيطرة و الهيمنة الدولية التي نعرفها ولا يمكن أن نتصور النظام العالمي الراهن من دونها ([i]).
وعلى هذا فإن موقع اللغة العربية في الصدارة من الهوية للدفاع عن الأمة ، فما اللغة إلا وعاء الفكر الذي يصنع طرائق المواجهة ، بالتكيف حينا ، وبالتصلب حينا ..وحين تستعصي على الدخيل فإنها تصنع أعراس النصر في ساحات النزال مع اي فكر يريد أن يغالبها بالمسخ و العجمة و الرطانة ..
وبالرغم من وسائل التهجين و التدجين لهذه اللغة فإنها غالبت فغلبت ، وقاتلت فقتلت ..لأنها اللغة الوحيدة للوحي الإلهي الباقي على ظهر الأرض ، وبقاؤها هو إكسير الحياة للأمة ، و المجدد الدائب لطاقاتها الأدبيةو المادية . وقد كانت قديما كذلك وسوف تظل ..
يقول العلامة الجزائري الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ـ مخاطبا الجزائريين الذين عمل الاستعمار الفرنسي بكل الوسائل على جعلها غريبة في الأفواه سمجة على الألسنة منكورة في القلوب و الأفئدة ـ : " لولم تكن اللغة العربية لغة مدنية و عمران ، ولولم تكن لغة متسعة الآفاق غنية بالمفردات و التراكيب ، لما استطاع أسلافكم أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب فارس و الهند، ولألزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم تعليم تلك اللغات ، ولوفعلوا لأصبحوا عربا بعقول فارسية وأدمغة يونانية ، ولو وقع ذلك لتغيّر مجرى التاريخ الإسلامي برُمته .
لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم ، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون .
قامت اللغة العربية في أقل من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونظمها الاجتماعية وآدابها فوعت الفلسفة بجميع فروعها ، و الرياضيات بجميع أصنافها ، و الطب و الهندسة والآداب والاجتماع ، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة و الحاضرة . وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لايزال يأخذه الأخير عن الأول ، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوّة فيك ، وإما أن تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك ، وقد تفطّن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم ولم ينتقلوا إليه .
وقد قامت لغتهم بحفظ هذا الجزء الضروري من الضياع بانتشاله من الغوائل وبنقله إلى الأواخر عن الأوائل ، وبذلك طوّقت العالم منّة لا يقوم بها الشكر ، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير . ([ii])
ثم يوضح الشيخ الإبراهيمي كيف أفاءت العربية بظلالها على الأجناس فقاربت بين تفكيرهم ، ومازجت بين أذواقهم ، ووحدت مشاربهم ، وزادت من علائق الوصال بينهم ، فأنتج ذلك إبداعا في ميادين كثيرة منقطع النظير ..وآية ذلك ما سطروه من مصنفات أضحت أوابد ثقافية على مرّ التاريخ ، فيقول : " و اللغة العربية هي التي أفضلت على علماء الإسلام بكنوزها ودقائقها وأسرارها ، وأمدّتهم بتلك الثروة الهائلة من المصطلحات العلمية و الفنية التي تعجز أية لغة من لغات العالم عن إحضارها بدون استعانة واستعارة ، فبحثوا في كل علم وبحثوا في كل فن وملأوا الدنيا مؤلفات ودواوين ومن عرف كتاب أبي حنيفة الدينوري في النبات وكتاب أبي عبيدة في الخيل وكتاب الهمداني في تخطيط جزيرة العرب وكتاب الجاحظ في الحيوان وكتاب الأئمة في الطب و النجوم والإبل ، رأى العجب العجاب من اتساع هذه اللغة وغزارة مادتها ، وعلم مقدار أفضالها على الأمة العربية . كما أن من يقرأ شعر الشعراء النفسيين من الغرب بهذه اللغة وشعر الشعراء الوصافين من الأندلس يتجلى له أي إفضال أفضلته العربية على تلك القرائح الوقّادة التي وَجَدت في العربية فيضا لا ينقطع مدده ، وأضافته إلى فيض الاستعداد ، وما أمتن الإنتاج الأدبي إذا كان يصدر عن اتساع في اللغة واتساع في الخيال " ([iii]).
ومن هنا ندرك أن الحديث لإصلاح وضع اللغة في المنظومة المعرفية للأمة ليس ترفا فكريا بقدر ما هو حديث عن بناء حضاري متكامل باعتبارها جزءا جوهريا في مشروع التجديد والإصلاح و التمهيد للنهضة المرجوة ، ولا يمكن أن تحصل نهضة حقيقية بغير نهضة لغوية متزامنة مع المشروع كله ، وخادمة له ، سواء من ذلك ما يتعلق بتأصيل الفهم و التلقي للخطاب اللغوي من الوحي خصوصا ، و التراث العلمي الإسلامي عموما ، أو ما تعلق بالبلاغ و التواصل التعبيري المرتبط بالمفاهيم المكونة لهوية الأمة على الإجمال .
و اللغة العربية لم تكن يوما نافلة في مجال التدافع الحضاري ، وساحة الصراع الإيديولوجي إلا عند من لايفقه سنن المغالبة بين الأمم و الشعوب ، بل كانت ولا تزال من أهم مواقع الصراع الفكري ، ومن أخطر أسلحة الإحتواء الإستراتيجي لثقافات الشعوب وتمييعها لإخراجها عن طبيعتها وصبغتا ([iv]).
ولابد أن ندرك أن تفعيل الثقافة رهن بتطور اللغة ، ونمو اللغة يعكس القيم الثقافية للمجتمع الذي يتكلمها ، وهما مقياس لإمكانته وقدراته، وكيف نعرف هذه القيم عندما تختفي دلالات اللغة ، وتغيض معانيها ومراميها وإشاراتها في حديث الناس وبرامج الإعلام وإعلانات الشركة وأسماء المحال ويافطات الإشهار ...؟.
ولكن للأسف أن الإخفاق في الحفاظ على المقوّم الهام في صراعنا الحضاري بدأ من هذه وامتد إلى الفكر يُطوّح به في مسالك ومهاوي ليس لها قرار !.
2 ـ إختراق الهوية ...وصدمة العولمة :
شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين و السنوات الأولى من الألفية الثالثة أحداثا متلاحقة وتطورات متسارعة جعلت عملية التغيير والإصلاح حتمية في أكثر بلاد العالم ، ومنها بلاد العالم الإسلامي و الذي بات يشعر أكثر من أي وقت مضى بالحاجة الماسة للحفاظ على مقوماته وهويته وتقاليده ..ولا شك أنه يوجد بين مفهومي الهوية و العولمة وشائج جدلية فريدة من نوعها في طبيعة العلاقة بين المفاهيم و الأشياء ، إنهما مفهومان متجاذبان متقاطبان متكاملان في آن واحد ، وفي دائرة هذا التجاذب و التقاطب و التكامل يأخذ مفهوم الهوية على الغالب "دور الطريدة بينما مفهوم العولمة دور الصياد " حسب تعبير الدكتور علي وطفة ([v]).
فالعولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتحشرها في زوايا مختلفة ، ولكن غريزة البقاء تسري في أوصال الهوية فتستعصي على الفناء ، وتتأبى على الذوبان ، وتحتد في طلب الأمن و الأمان ن وتتشبث بالوجود إلى آخر رمق .
ولست في هذه الورقة المتواضعة بصدد الحديث عن العولمة وتحدياتها وتجلياتها وسطوتها في ميادين الحياة المختلفة ، ولكني أقصر الحديث على عتوها في ميدان من أهم ميادين الهوية وهو اللغة ، واختراقها له على مدى عقود من السنين مضت ..مهّد لها الاستعمار في حملاته الأولى مع عصر النهضة الأوروبية وسيطرته على بلاد العالم العربي و الإسلامي ، محاولا طوال قرون عدة الهيمنة على المقدرات الثقافية للأمة . ثم مدّت حركة الاستشراق عمر هذه الهيمنة بكل ما تحمله هذه الحركة من آليات التزوير والتزييف والاختراق و النفاذ إلى الهوية ومسخها، وبالأخص " الهوية اللغوية " ، التي هي أخطر عناصر تشكيل " الهوية الثقافية " لأي أمة من الأمم بل هي نواة الهوية ، و اليوم فقد بات واضحا تأثير هذا الاختراق في اللسان أمرا واقعا لدى النخب السياسية و الإدارية والاقتصادية ، وامتد بكل أسف حتى إلى بعض شرائح الطبقة المتوسطة في بلادنا ، وهذا ما عملت من أجله حركة الاستعمار ومن بعدها حركة الاستشراق .
يقول السياسي الفرنسي و الوزير السابق في الحكومة الفرنسية ـ بينوت :" لقد خسرت فرنسا إمبراطورية استعمارية ، وعليها أن تعوضها بإمبراطورية ثقافية ، وهذا يعني أن المدخل الحقيقي للإستعمار الجديد هو الهيمنة اللغوية و الثقافية "([vi]).
ونحن لا ندعي أننا نستطيع أن نعيش بمنأى عن التأثر بامتدادات العولمة الثقافية المنطلقة من المركز إلى الأطراف ـ حسب المفهوم الغربي ـ ولكن واجب الدفاع عن الهوية يتطلب كسر حدة الانبهار بالوافد الثقافي ( و اللغوي على الخصوص) ومقاومة قوة جذبه ، ورده إلى حدوده الطبيعية ، و القضاء على أسطورة الثاقفة العالمية ، فكل ثقافة مهما ادعت أنها عالمية تحت تأثير ضجيج الآلة الإعلامية الضخمة ، فإنها في النهاية ثقافة لبيئة محدودة ، ولعصر تاريخي معين ، ثم امتدت في فراغ الهويات المغلوبة ، وهيمنت على الخصوصيات ، وعبثت بالمقدرات الثقافية للأمم و الشعوب التي دخلت تحت سلطانها ، وخضعت حينا من الدهر لسطوتها !.
و التحدي الذي يواجه الهوية اللغوية في عصر الصدمة العولمية مرده إلى الشعور المبالغ فيه بأهمية اللغة الأجنبية ، الناتج غالبا عن الانبهار بكل ما هو أجنبي ، و الظن الزائف بأن التقدم لا يأتي إلا عن طريق إتقان اللغة الأجنبية للجميع ، بل و التحدث بها بين العرب أنفسهم ، وغني عن الذكر أن هذا الشعور يأتي من الإحساس بالهزيمة النفسية التي يعاني منها الإنسان العربي في هذا العصر ، والإعجاب المتنامي بصانع الحضارة المعاصرة الذي يمثل المنتصر و الغالب ، وابن خلدون أقرّ في مقدمته أن المغلوب مولع بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده .
ويمكن أن نحصر مظاهر الصدمة العولمية في ميدان اللغة في العالم العربي في ثلاث مستويات :
المستوى الأول : هو المستوى الشعبي : حيث :
1 ـ التداول بالإنجليزية في الحياة اليومية
2 ـ كتابة لافتات المحلات التجارية
3 ـ كتابة الإعلانات والإشهارات
4 ـ كتابة قوائم الطعام في المطاعم
المستوى الثاني : المستوى التقني في عصر الرقمنة المتطورة حيث أن مشكلة الإنسان العربي المعاصر تكمن في أنه لا يستطيع أن يستورد (كعادته في كلّ شيء) حلولاً للتغلب على كثير من التحديات :فلن يُترجِم له العالم الخارجي المعارفَ إلى العربية، ولن يقترح له برامجَ إصلاح لُغتِه، أو وسائلَ صنع المعارف بها!... فالعالم المتطوِّر قد يتمنى بإخلاصٍ فعل كلّ الخير للعرب لكنه لا يشعر بالأسى لِهشاشة تعليمهم وعجزه عن صنع المعارف! يعي جيّداً (لا يوجد من يعي ذلك أفضل منه!) أن في ذلك نهضتهم السريعة، وفقدان بعض مصالحه الحيوية التي لا يميل كثيراً للتفريط بها!... ما يزيد الطينَ بلّةً والألمَ استفحالاً هو عدم وجود مشروعٍ عربيٍّ فاعل يعتبر هذه التحديات أولويةً قومية تُعدّ لها الخطط وتُكرّس لها الجهود الخلّاقة!...
التحدي الأول: لغةٌ بلا ذخيرة معرفيّة!
يعيش العالم العربي في كوكبٍ آخر بعيدٍ كليّةً عن منملة مشاريع بناء الذخائر الرقمية المعرفية التي أضحت مركز العلم والمعرفة في عالم اليوم!... في كل المجالات العلمية والتقنية، وفي معظمِ الحقول الثقافية والعمليّة، تمتلك اللغات (عدا العربية) اليوم قاعدةً تحتيةً معرفيّةً رقميةً متعدّدةَ الوسائط. دخلت صناعة المعارف فيها سباقاً يوميّاً! أما القاعدة التحتية المعرفية الرقميّة بالعربية فهي غائبةٌ بشكلٍ كليّ: لا توجد أيّة مشاريع عربية تستحق حتى الذكر، في هذا الجانب!...
يصعب هنا عدم التنويه إلى أن معظم طوبات موسوعة ويكيبيديا على سبيل المثال، لاسيما في أغلب المجالات العلمية والثقافية، تخلو من الترجمة إلى العربية، في حين تُترجم غالباً إلى لغاتٍ أقل تداولاً من العربية بكثير!... عدد المواضيع المكتوبة في ويكيبيديا باللغة البولندية، على سبيل المثال، يساوي عشرة أضعاف ما هو مكتوبٌ بالعربية تقريباً!...
التحدي الثاني: لغةٌ تعاني من أنيميا الترجمة!
أنيميا الترجمة إلى العربية صارخةٌ اليوم: كثير من عيون الكتب العالمية لم تر النور بعد بالعربية! معظم أمهات الكتب الحديثة التي تشكّل نبراس الحضارة المعاصرة غير معروفة بالعربية التي كانت، في العصر العباسي، لغة الحضارة الكونية بفضل حملة الترجمة الواسعة إليها للكتب الأجنبية في شتى المجالات من فلسفة ومنطق وطب وفلك ورياضيات وأدب، من مختلف اللغات الإغريقية والسريانية والفارسية والسنسكريتية والحبشية... التي أغنتها بروافد فكرية وكلمات ومصطلحات كثيرة.
ومازال استخدام تقنية الترجمة الآلية عربياً ضعيفاً جدّاً رغم إمكانية استثمارها بقوّة، لاسيما لِردمِ هوّة الترجمة العلمية والتقنيّة والثقافية!...
التحدي الثالث: لغةٌ لم تكمل بعد بنائها التحتي الرقمي!
لا يوجد حتّى اليوم قارئٌ ضوئيٌّ آليٌّ لأحرف اللغة العربية يستحق أن يحمل هذا الاسم، رغم امتلاك اللغة الفارسية ذات الأحرف الشبيهة لذلك القارئ الضوئي! يُشكِّلُ عدم تصميم برمجيةِ قارئٍ ضوئيٍّ عربيٍّ حتى الآن عائقاً كبيراً يمنع دخولها عصر الرقمنة، لأنه وحده ما يسمح بتحويل صور صفحات الكتاب إلى نصوصٍ رقميّة! دونه يلزم من جديد إعادة طباعة كل ما كُتِب بالعربية على الكمبيوتر!... يمثّل هذا الغياب معضلةً قوميّة يصعب تصوّر إمكانية وجودها اليوم، في أي بلد، ناهيك عن عالمٍ تمتلك بعض دولهِ ثروات وإمكانيات ماديّة هائلة، كالعالم العربي!...
كذلك وضع المدوّنة: لا تمتلك العربية حتى الآن مدوّنتها اللغوية، أو أي معجم إيثيمولوجي!... المفارقة المثيرة والمؤلمة أن اللغة العربية كانت أول من أسس القواميس والمعاجم ونواة المدوّنات اللغوية!...
وتفتقر العربية أيضاً إلى برمجيات كمبيوترية مناسبة لتصحيح نصوصها قبل وضعها على الإنترنت وللبحث عنها فيه. الموضوع خطيرٌ في الحقيقة لأن صفحات الإنترنت بالعربية (لاسيما منتديات الدردشة والحوارات، وصفحات الأخبار والتعليقات العامة على الأحداث اليومية والكتابات...) ملطّخةٌ بأدغال وأعداد فلكية من الأخطاء اللغوية والإملائية التي لا تخطر ببال، هي اليوم جزءٌ هامٌ فعّالٌ مؤثر من ترسانة العربية على إنترنت وأدوات تكوينها الآلي!...
بديهي أن اللغة العربية لم تبدأ بعد نظائر مشاريع الرقمنة الكبرى، لأنها لم تستكمل بعد بناء قاعدتها التحتية!... يكفي معرفة أن عدد الكتب التي رقمنها مشروع غوغل، في عام 2007 فقط، مليون كتاباً، في حين أن «مشروع الذخيرة العربية»، التي تدعمه الجامعة العربية بميزانية خاصة منذ 1975، لم يُرقمن حتى الآن إلا 230 كتاباً!...([vii])
المستوى الثالث : هو مستوى الخطاب الرسمي : لأن الخطاب فيه من أقوى المؤثرات في وسائل الإعلام الحديثة ، وربما في كل العصور وفي جميع البلدان ، فالمسؤول مهما كانت صفته ومرتبته يؤثر على سامعيه ومشاهديه بنطقه وصوته وفصاحته إذا تفصح ولحنه إذا لحن ..
وبعض الرسميين رزقوا حظا وافرا من التعلم و التثقف بلغتهم فاستوعبوها وعرفوا أسرار نطقها وأسرار تأثيرها في المتلقي .. ورسميون آخرون لم تسعفهم الظروف بدراسة لغتهم إلا يسيرا ، أو أنهم درسوها على كبر فلم يتقنوها ، ولكنهم لم يحملوا أنفسهم على تعلمها وتحسين أدائهم بها ، وتوصيل أفكارهم وشرح مشاريعهم ببيانها ..فراحوا يخاطبون الناس بلحن فاحش ، وأخطاء لا يقع فيها حتى فتيان المدارس ، وبأسلوب مهوش لا يساعد على التأثير في المتلقي مهما بذلوا من جهد ومهما أحاطوا أنفسهم بوسائل الإعلام التي يصنعون بها هالة لأنفسهم وفي آخر المطاف يخرج خطابهم مشوش الأداء ، مضطرب المعاني ، ممسوخ الألفاظ ، فلا يؤثر في سامع أو متابع ..ولولا إعادة صياغة كلامه ومراجعته وتحريره وملاءمة وقفاته وإشاراته وإعداده للنشر لخرج في فقرات معجمة لاتمت إلى اي لغة من لغات البشر بصلة !.
إن مثل هذا الخطاب لا يساعد مطلقا على تنمية اللغة العربية ، بل إنه ربما أساء لها أمام وسائل الإعلام الأجنبية التي يوجد من بينها من يتقن العربية أكثر من صاحب الخطاب ويحذق قواعدها فينتبه للأخطاء إذا حصلت ..إضافة إلى أن مثل هذا الخطاب يعطي حجة قوية لمن يتهم اللغة العربية بالعجز أمام اللغات الأجنبية عن أداء دورها في العلوم و التكنولوجيا ما دام " حماتها" أنفسهم غير قادرين على إتقانها فيما دون العلم و التكنولوجيا وهو الخطاب العادي ([viii]).
إن هذه الصورة عن اللغة العربية في الخطاب الرسمي ليس بالضرورة هي الصورة العامة و الشاملة في البلاد العربية ، فهناك في بعض البلدان العربية خطابا رسميا يحترم اللغة العربية ويعتز بها ويتقنها ويحترم مشاعر المواطنين وهويتهم ويشعر معهم بأنهم جميعا رغم بوادر العولمة المتوحشة يخوضون معركة الحضارة بسلاح لغتهم ..
و المفترض في أصحاب الخطاب الرسمي أنهم حماة الديار و التراث و الأوصياء على الأخلاق و القيم ، وأيضا هم القدوة الحسنة للشباب و الموظفين ورجال الإعلام فيما يتعلق باللغة العربية ([ix]).
3 ـ نحو أداء أفضل :
1 ـ اللغة العربية تقيم بين نظامين متعارضين من حيث انتمائهما : إذ يستند نظام قيم الثبوت إلى مرجع تاريخي وتراثي يرى في الصفاء اللغوي حاسما في تأصيل اللغة ووصف أبنيتها في حين يحتكم نظام قُوى التحول إلى نواميس اللغة القادرة على الاستجابة لحاجات الإنسان ورغباته المستجدة .
2 ـ اللغة العربية تحتاج إلى مراجعة مستمرة تستهدف اكتشاف التحولات التي تطرأ على برامجها وأنظمتها المختلفة بهدف رصد استجاباتها ، واتخاذ التدابير اللسانية الكفيلة بمواجهة المخاطر التي تجابهها .وخاصة أن بعض الدراسات تشير إلى أن بعض اللغات تواجه مصيرا غامضا في نهاية القرن الحادي و العشرين نتيجة الثورة الاتصالية ذات الطبيعة الرقمية ، ونتيجة تقدم الصورة وحلولها محل اللغة ، إضافة إلى زوال الحواجز أمام قنوات الاتصال حيث ألغيت حدود المكان واختزلت أبعاد الزمان .
3 ـ هل يشكل النص القرآني وسيرورة اللغة الممتدة ستة عشر قرنا وأن عدد الناطقين بها يزيد عن مائتين وسبعون مليونا من البشر وأن مليار مسلم يتطلعون لتعلمها ضمانات كافية لحماية اللغة ووقايتها من الاندثار ؟ .
لذلك لابد من وضع مشروع متكامل يضع في الاعتبار مطالبة الأجيال الحاضرة بالالتزام بالحد الأدنى من أساليب اللغة وجمالياتها ، مع بذل الجهد المتواصل لملاحقة التطورات التقنية ، وإيجاد خطط عملية ممكنة وقادرة على مواجهة المخاطر المحدقة لنثبت أن اللغة العربية باقترانها بالنص القرآني لا يمثل عائقا أمام تطورها والإفادة من المنجزات المعاصرة وتبيئتها لسانيا ، فالعربية قادرة على ولوج فضاءات تعبيرية وآفاق جمالية وعوالم جديدو تتباين فيما بينها تشكيلا ورؤية .
4 ـ ولوج عالم الفضائيات بثقل لغوي يصنع اللسان القويم ، وينشء الإحساس بالعزة عند التحدث بالعربية ، فقد باتت الفضائيات اليوم مكوّنا أساسيا من مكونات قوى التحول اللغوية التي تملك القدرة على فرض استجابات وتوجهات في عقول المشاهدين وسلوكهم ومواقفهم ، كما أن لها دورا تخريبيا يكمن في ما تفرضه على برامج المشاهدين اللغوية والفكرية من أنماط لغوية ، ويتجلى ذلك في جانبين كبيرين :
الأول : ترسيخ المحكيات المحلية و اللهجات الجهوية الأمر الذي يعني أنها تستهدف قطاعا بشريا محددا وفئة محددة متوافقة اجتماعيا وعقائديا وثقافيا .
الثاني : المواد المعروضة ، وهي تشدد في أغلبها على منتجاتالغرائز المدمرة لقواعد العقل و العلم و المعرفة .
5 ـ إبطال المغالطة التي ترى أن العربية عاجزة عن إبرام العقود و الصفقات والإشهارات الترويجية ، ذلك أن الانحياز الاقتصاد المطلق للإنجليزية بوصفها لغة تداولية وإقصاء العربية يتضمن تبعية شاملة تؤذنبخراب العمران اللغوي وتبشر بالتبعية والاغتراب .
6 ـ عندما تفي الإنجليزية بوعودها في عالم الوظيفة وتتراجع العربية نشهد إعراضا مبينا عن الانتماء لأقسام اللغة العربية في جامعاتنا ، وأذكر هنا مثلا واحدا : حيث أن قسم اللغة العربية في جامعة الشارقة بفرع خورفكان في السنة الجامعية 2009ـ 2010 لم تلتحق به إلا طالبة واحدة بالرغم من توافر الحوافز و المنح وغيرها . .
وهذا المؤشر الخطير يد فعنا إلى إيجاد حوافز وظيفية ومغيات مادية ملموسة تُشعر المنتسب لأقسام اللغة العربية بأمان على مستقبله الوظيفي .
7 ـ القضاء على الثنائية اللسانية ( الفصحى و العامية ) لأنها معطل يحول دون نهوض برامج تهدف للإرتقاء بالعربية تداولا وتنظيرا ([x]).
8 ـ دعوة وزارة التربيةو التعليم في كل بلد عربي للعمل على تعميم فكرة إنشاء مدارس ابتدائية تعتمد فيها اللغة العربية لغة وحيدة للتواصل في هذه المدرسة دون أي استخدام للعامية طوال اليوم المدرسي ، داخل الصف وخارجه .
9 ـ الخروج بمعلمي وأساتذة اللغة العربية من الصورة النمطية التي تبعث على الشفقة ، حيث الوضع المادي المزري الذي لا يغري الطلاب بالاقتداء ، ولا يبعثهم على الأسوة الحسنة ، بل يفرون منه فرارهم من المجذوم ، فهو في الغالب مثار سخرية وازدراء من مظهره وفذلكة لسانه وقسوة طبعه وتخلفه عن فهم ثقافة العصر ومواكبة الجديد فيها .
وفي ظل هذا الجو يصبح انتظار أجيال تعشق العربية وتعتز بها أملا زائفا لا مقدمات تؤدي إليه .
10 ـ يمكن القول أن ثمة ربطا مطردا بين تقدم اللسانيات الحاسوبية العربية ومنجزاتها وتقدم العربية وتهيئتها لمستقبل أفضل ، وذلك أن تعريب الحاسوب وملحقاته ومعداته سيكفل توفير برامج عربية صالحة لبناء مجتمع المعرفة المنشود ، ويظهر أن هناك عوامل تجعل من هذا التعريب قضية مصيرية منها :
ـ استخدام كثير من الشعوب للحرف العربي ( باكستان ـ إيران...)
ـ النشر الالكتروني باللغة العربية
ـ الإفادة مما تزخر به الشبكة العالمية من مواقع لتعليم اللغة الإنجليزية وتعلمها للناطقين بها وللأجانب ، وتطوير مواقع مشابهة لخدمة اللغة العربية وتعليمها .
ـ نشر العربية في الخارج وذلك بافتتاح المدارس العربية التي تعتني بتدريس العربية و الثقافة الإسلامية ، وشد الجاليات المسلمة إلى التراث العربي ، وتقديم المنح للطلبة الراغبين في تعلم العربية ونشرها.
ـ اشتراط إتقان اللغة العربية للعمالة الوافدة إلى البلدان العربية وخاصة بلدان الخليج العربي التي أصبح الهندي فيها مثلا يغضب منك لأنك لا تفهم لغته الهندية .
ـ اشتراط ترجمة كل ما يكتب على البضائع المستوردة إلى اللغة العربية ، وعدّ هذا المطلب شرطا للتعامل التجاري مع الشركات و الدول المصدرة ، ولاأحسب أن دولة أو شركة ترفض هذا الطلب وتفرط باستثمارات ضخمة مقابل مطلب صغير لا يكلف مبالغ ضئيلة .
وقد نقتدي هنا باليابان التي تقدم دورات مجانية باللغة اليابانية لكثير من الدول العربية تعزيزا للروابط الاقتصادية ، ورغبة في دخول الأسواق العربية و المنافسة فيها .
ولعلنا نذكر صنيع اليابان عندما فرضت على أكبر الشركات و المصارف الأمريكية أن تتعامل باللغة اليابانية ، فكان لها ما أرادت ، ولسنا أحسبنا عاجزين عن فعل ذلك بل متعاجزين([xi]).
هوامش الموضوع
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.