آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

كلّيات الشريعة والمسيحية

عز الدين عناية


يتميز الإنتاج المعرفي في الكليات الدينية في البلاد العربية بسمات جامعة، تتلخص بالأساس في تخطّيه شبه التام أوضاعه الاجتماعية والاستعاضة عنها بخطاب هائم مفارق، لا غاص في الأرض ولا تشبّث بالسماء. حتى خلّف ذلك المنهج اغترابا لافتا بين المشتغلين في الحقل الديني، تجلّى أحد أوجهه في تردّي الدراسات بشأن المسيحية.

ولا نزعم أن الدراسة للمسيحية مفتقدة أصلا في كلية الشريعة، بل إن الظاهر أن المنهج المتّبع عقيم لا يستجيب لمستلزمات الراهن. فلم يدرك العقل الإسلامي، في ثوبه المشيخي المتدثّر بفكر الردود وبالمنظور المستند إلى مقولات أهل الذمة، أنه ما عاد قادرا على استيعاب المسيحية الراهنة، لما طرأ عليها من تحولات.

فلا أدل على وهن القدرة الإسلامية في مناقشة المسيحية، وتردي الإدراك في تبين مساراتها، من اختراق الوافد الديني للحصون الداخلية للإسلام المغاربي، وتهديد موعظة المبشّر فتاوى الشيخ. ولولا تجريم ما يسمى بالتبشير المسيحي، ومحاولة سدّ منافذ تسرّباته، وإن كان بأشكال تعيسة غوغائية، لبلغ السيل الزبى.

والجلي أن الوقائع ما كانت لتؤول إلى ما آلت إليه، لولا ضعف الفكر الإسلامي في اهتماماته بالآخر، حتى بات المفكّر يخشى المبشِّر. ففي بلاد الغرب الإسلامي، هناك غفلة تامة عن التعامل مع التراث المسيحي السابق، رغم أن المنطقة شهدت في سابق عهدها تطورات عميقة كان أبرز تجلياتها الفلسفية واللاهوتية في أعمال القديس أوغسطين ابن ثاغست، سوق هراس الجزائرية اليوم. فلو بحثنا عن تراث المنطقة المغاربية المسيحي لما أسعفنا في فهمه والإلمام بحيثياته إلا إنتاج العقول الغربية، وبالخصوص العقول الكنسية. يعضد تلك الغفلة غياب عن متابعة حاضر المسيحية، سواء في وجهها الأوروبي المجاور أو الغربي بشكل أعم. فهناك نفي من الذات المغاربية لتاريخها، وهناك تغييب غير مبرر لاهتمامها بالآخر الديني، تتحمل فيه الوزر أن يأتيها التحدّي من حيث لا تحتسب.

لقد استغل الفكر الكنسي الغربي ذلك الإهمال في الفكر المغاربي، حتى جلب إلى حضيرته جمع من الجزائريين والمغاربة والتونسيين، الذين باتوا يتبنون الطروحات الغربية في أن المنطقة رومانية كنسية، في سابق عهدها، وغربية الطباع والهوى في حاضرها. تطوّر الأمر في السنين الأخيرة حتى بات من يروّج للمسيحية الأوروبية بحماس مفرط، معتبرا الإسلام دخيلا وغازيا، والواقع أن تلك المقاربة يعوزها ربط الحلقة الإسلامية بسابقتها المسيحية بوعي تاريخي رصين. فعادة ما متح الناكصون من غبن نفسي وما ركنوا إلى وعي فكري في انتمائهم الجديد. وقد تجلت فطنة الكنسية الغربية أساسا في تعاملها مع اللغة الأمازيغية، إذ كانت أسبق في الإلحاح على مبشّريها لتعلّم اللهجات الأمازيغية من الزيتونة والقرويين. ليس الأمر نابعا من تثمين وتقدير لتراث المنطقة لدى الكنيسة ولكنها أدركت يُسر تحوّل الهامشي إلى حجر رأس الزاوية بعد أن نبذه البناؤون.

لقد شهد العالم تغيرات هائلة في الحقبة المعاصرة، وصار من العبث، في بلدان تدعي الحداثة وحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد، الحديث عن صدّ "التبشير" و"التنصير" و"التمسيح"، بلغ حدّ إصدار قوانين تجرّم من يروّج لغير ما هو سائد بدعوى ثلم الوئام الديني. في الحقيقة ليست تلك الأساليب منطقية، وليست عقلية، وليست إسلامية أيضا. فهناك في البلاد المغاربية قابلية للتنصّر يغذّيها بؤس الفكر الديني الإسلامي واغترابه، وضعف التكوين الأكاديمي بشأن الآخر في الجامعات الدينية بالأساس، فضلا عن عدم التنبه للتحولات العالمية وما تتطلبه من أدوات مستحدثة. من هذا الضعف يتسرب الآخر الديني ليحاصر ويهدد ويتحدى العقل الخامل.

خلال الصائفة المنقضية التقيت، أثناء إقامتي في كل من تونس والجزائر، بباحثين في الحقل الديني. حسبتُ قبل اللقاء أن الدراسات المغتربة، التي استعاذ من مثلها سيد الخلق: "أعوذ بالله من علم لا ينفع" قد كسدت بضاعتها مع دخول الألفية الثالثة، فضلا عن الإحجام عن البحث فيها، بموجب الزلازل السياسية التي هزّت بلاد العرب وأمة الإسلام، التي يُفترض أنها نبّهت الغافل. ولكن حديثي وسؤالي بيّنا لي خلاف ذلك، فما فتئت سوق البحث في الغيبيات رائجة وبالباحثين فيها عامرة. فهاجر تعدّ "ماستر" حول إبليس، وسهيلة تبحث في الطمأنينة، وعبدالباسط يزعم فكّ ما أشكل على السابقين في مسألة "القضاء والقدر"... بالمقابل أستذكر طلابي الإيطاليين في الدراسات الشرقية، فأجدهم، باختيارهم لا بإيحاء مني أو من زملائي، اختاروا إعداد رسائلهم في ما هو معيش. لاوْرا تبحث في أثر العوامل الدينية في عدم ضمّ تركيا إلى المجموعة الأوروبية، وفرانشيسكو يتتبع برنامج "الشريعة والحياة" في قناة "الجزيرة" بالتحليل والرصد، وكارلا تتناول بالمقارنة سينما الثورة الجزائرية مع سينما الجزائر الفرنسية، أي سينما ما قبل الثورة. لعله لتلك الأسباب غنم الغرب دنياه وفرّطنا نحن في دنيانا وأخرانا.

 
 


تاريخ النشر : 12-10-2010

6320 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com