آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

تجارب الزمان: قراءة تأويلية

سعيد الشبلي



تقديم:

من بين سائر الأفكار الفلسفية تبرز فكرة الزمان كأحد أخطر الموضوعات التي تناولها الإنسان بالبحث والتفكير، وذلك راجع لا إلى طبيعتها التجريدية العقلية فحسب، بل أيضا إلى أنها كالأسد بين حيوانات الغاب، قادرة على الهيمنة على أغلب الأفكار الأخرى؛ أو كالبحر الذي تؤول إليه مياه أغلب الأنهار المحيطة، في قدرتها العجيبة على اجتياف أغلب الموضوعات الأخرى لتجعلها وجوها أخرى من عملية قراءة معنى الزمان وحقيقته. إن التفكير في الألوهية أو في الإنسان أو في معنى الوجود ومعنى الحياة، مؤهّل لأن ينقلب بسرعة عجيبة إلى تفكير في الزمان وتفحص لإشكالاته العجيبة، حتى إنه يمكن التأكيد أن معضلة الحقيقة هي في أحد أهم وجوهها معضلة الزمان، الأمر الذي يجعل من أي فتح يناله الإنسان ضمن فهمه للزمان ووعيه بحقيقته، فتحا فلسفيا شاملا لا بل فتحا علميا وكونيا أيضا. لقد استطاع " الزمان " أن يحتنك مشكلة المعرفة كما لم يحتنكها موضوع آخر وتمكّن من أن يهيمن عليها كما يشاء فيعضلها إعضالا يذهب بجِدّتها، ويجعل كل الكلام في الوعي والوجود كلاما مجترا معادا، أو أن يحرك راكد القول وساكن العقول مستنهضا الجميع لإعادة صياغة نظرياتهم ومقولاتهم بالكلية إذا ما أفرج عن بعض حقائقه وأفصح عن بعد من أبـــــعاده.هل يمكن الـــقول إن الإنــــسان إذ يفـــكر في شتى الموضوعات الأخرى لا يفعل سوى أن يتحايل على معضلة الزمان ؟ أم أن تقسيمه لهذا الزمان إلى ماض وحاضر ومستقبل إظهار لهيمنته ووعيه، أم كشف عن عجزه ولا وعيه ؟ إن تأسيس الكلام في معنى الزمان يعني المخاطرة بفتح أبواب العقل على اللاعقل، والإسراع بإحالة الحقيقة إلى مجال الأسطورة والخيال. من هنا كان على أي كلام في الزمان أن يتستر وأن يهرب من المواجهة المباشرة لسؤال المفهوم لكي يستمع إلى المعطيات المباشرة لأثر الزمان، أي للتجربة باعتبارها أتون كل شيء ومصداق كل كلام . لذلك اخترنا في سبيل المقاربة باكتشاف علاقة ما تجمع بين أبعاد الزمان، أن نتتبع فصول تجربة شخصية مثيرة.

أما الشخصية فيوسف النبي عليه الصلاة والسلام، وأما التجربة فانتقاله بالجهد والوعي من الطفولة إلى الرجولة، من البداوة إلى الحضارة، أو من رؤيا رآها وهو بعد طفل صغير فلم يفقه لها معنى، إلى تأويلها الذي عاينه وهو كهل راشد مستنير. كيف نرى المستقبل في الماضي ؟ وكيف نواجه الماضي في المستقبل ؟ ثم وفي تحليل أخير، كيف يجتمع الزمان في وعي عقل تأويلي حي؟ ذلك ما سنسعى إلى استشرافه من خلال متابعة التجربة اليوسفية في أهم مراحلها ومحطاتها.

1 _ الماضي البعيد: تأسيس التجربة:

كشف الحروف وطمس المعنى جاء في القرآن الكريم " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين. وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم واسحاق إن ربك عليم حكيم.( ) هذه الرؤيا الشديدة الايحاء والرمزية صدمت وعي الصبي الصغير الذي لم يستطع أن يفقه لها معنى رغم أن كل ما فيها يدل على أنها بالتأكيد ذات معنى عميق، فانطلق بها إلى والده النبي يعقوب عليه السلام. ولقد كان يعقوب من العلم ومن الحكمة على درجة عظيمة بحيث استطاع أن يتفطن إلى أن الرؤيا بشارة عظيمة لابنه وعلامة على اجتبائه واصطفائه من دون إخوته، إلا أنه لم يتجاوز أن بشّره بخير يناله في مستقبل أيامه ولم يزد على ذلك شيئا سوى أن حذره من ذكر رؤياه لإخوته حتى لا يكيدوا له كيدا. أما تأويل الرؤيا تأويلا تفصيليا فلم يكن من مهمة النبي يعقوب الذي التزم حده واكتفى بتبشير ولده الصغير وتحذيره مستيقنا أن أمر تأويلها سوف يكون مهمة يوسف نفسه، وأنه وحده المطالب بحل ألغاز هذه البشارة العجيبة. إن حياة يوسف عليه السلام سوف تكون سعيا بالجهد وبالوعي لتأويل هذه الرؤيا التي دهمته وهو بعد طفل صغير، وسوف يرتبط مستقبله الشخصي لا بل ومستقبل بني إسرائيل (أبناء يعقوب النبي عليهم السلام)، بانكشاف إحداثيات وحقائق هذه الرؤيا التي ستمثل بداية من لحظة انعتاقها من الغيب الأول ماضيا لا يفتأ يزداد ابتعادا ومستقبلا لا يفتأ يزداد اقترابا. كان على يوسف عليه السلام أن يخوض في سبيل تأويل رؤياه ثلاث تجارب، وأن يعبر ثلاث رؤى لتحصيل ثلاثة مستويات من الوعي هي التي ستؤهله لاختراق الظلمات بكل أنواعها للوصول إلى النور الذي تندمج فيه الحقائق الأصلية لثلاثية الكواكب والشمس والقمر، أي الحاضر والماضي والمستقبل.

2 _ نحو المستقبل : من الظلمات إلى النور

أ – غيابات الجب : حديث البعث الآخر جاء في سورة يوسف " لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين. قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين".( ). " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وجاؤوا أباهم عشاء يبكون. قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صـــــادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشراي هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين." ( ). هكذا ألقى بالغلام الصغير إخوته في غيابات الجب وكانوا له من القالين . فأصبح في موقعه ذاك في أسفل سافلين، حتى إنه لما جاءت السيارة واكتشفه واردهم جعلوه بضاعة وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. إن المعنى ينحط هنا إلى درجة الصفر تماما مثلما انحط الإنسان إلى أن أصبح بضاعة تباع وتشترى. أما الزمن الذي يناسب ويستوعب مثل هذا الوضع، فهو بدون أدنى شك زمن الغيبة والنسيان، أو زمن العدم واللاشيء. "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا." ( ) هذا الزمن المنسي أو زمن الإنسان المنسي، هو الذي سيؤسس بعد حين من الدهر، وبعد سلسلة من التجارب الحاسمة، مرحلة البعث الآخر الذي سيكون تتويج التجربة وقمة اكتمالها وبلوغها منتهى مسعاها وآخر أجلها. قال الله تعالى ليوسف وهو في غيابات الجب" وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون"( ). وذلك ما سيحدث بالفعل في مرحلة التمكين التي ستصبح فيها خزائن الأرض تحت حكم يوسف وتحت تصرفه، والتي عبر عنها القرآن الكريم بقوله " قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين" ( ). إن السقوط في غيابات الجب ، ذلك الحدث الذي يمثل الماضي البعيد والطفولة الأولى في حياة يوسف الصديق، صنع ذلك الانقلاب الكبير أو المستقبل الذي أصبح فيه هذا النبي يتبوأ من الأرض حيث يشاء. إن قوة الماضي هي التي تصنع إمكانات المستقبل، وتجربة الماضي تحكم أبدا على كل وعود المستقبل. أليس بقدر ضيق غيابات الجب جاءت سعة الآفاق وتبوأ يوسف من الأرض حيث يشاء ؟ إن تجربة المستقبل تبرز هنا وكأنها التعويض والمقابل الضروري الذي يلغي نقص وحرمان وضيق تجربة الماضي. وما بين نقص الماضي وكمال المستقبل، يبدو وكأن الوجود يعيد من جديد تركيب إحداثياته بحيث يعيد التوازن إلى الطاقة الموزعة فيه والتي ألقيت بصفة عشوائية في لحظة أولى، أو قل في لحظة غفلة أولى

ب – امرأة العزيز : الحياة الدنيا : تجلي الزمن الأول " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلّمه من تــــــأويل الأحــــاديث والله غـــــالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولما بلغ أشــــده آتيناه حـــــكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين. وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك. قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين. واستبقا الباب وقدّت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدَّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين. وقال نسوة في المدينة امراة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملَك كريم. قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجننّ وليكونا من الصاغرين. قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم." ( ). كان على يوسف الصديق الذي أخرجه الله تعالى من غيابات الجب بعد أن زهد فيه كل شيء ،أن يخوض أولى تجاربه وأخطرها، تلك تجربة الحياة الدنيا بكل ما وُظِّف فيها من شهوات ومخاطر وفتن. ولكي يمكّن الله تعالى هذا النبي من الوصول إلى ما أَهِّل له من إرث التأويل وعلمه، اختزل تجربة الحياة الدنيا في موقف. وفي تجربة مغلقة ثم البلاء المبين، وأقبلت امرأة العزيز على الفتى اليافع وغلقت الأبواب وقالت هيت لك. وكان على يوسف أن يواجه هذا الجسد الناضج المتبرج المستولي بحق الرعاية والإيواء، المستقطِب بقوة الأنوثة الجميلة الحارقة. ولقد حاول الشاب أن يقاوم ما استطاع، فواجه العاطفة الملتهبة بنور القانون والنظام" قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون". إلا أن هذا الستار رغم قيمته ورغم مقدار الحقيقة التي فيه، لم يكن ليصمد أمام أهواء عاطفة وشهوة عاصفة بكل شيء " ولقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين". ماذا رأى يوسف الصديق بالضبط ؟ وكيف استطاع أن ينجو من زمن الغفلة والنسيان لا بل زمن الضياع والتيه والضلال، زمن الاستقطاب المطلق الذي أَخضعت له الدنيا جلّ مريديها، واستهلكت فيه هوية طالبيها ؟. ليس من السهل تأويل معنى قوله تعالى " لولا أن رأى برهان ربه " إلا أننا نجازف بالـتأويل والحديث عنه يــــدور، فنقول إن يوسف قد استطاع وبتأييد إلهي خارق، أن يخترق ظاهر المرأة (الجسد) المغوي المثير المتبرج بكل زينة، إلى باطنها المظلم القبيح الناطق بالضلال والانحلال والضعف والانكسار. فلما رأى الظلمة الشديدة وشاهد النار الملتهبة التي انطوت عليها الأضلع، لم يكن منه إلا أن هرب من أتون لا مقدرة له عليه ولا رغبة له فيه. هل كان يوسف وامرأة العزيز هما المتقابلان المتواجهان ؟ أم كان العقل يواجه النفس يصد ظلمانيتها بنورانيته ؟ وبنجاحه الباهر في مواجهة امراة العزيز رغم ضعف ناصره وقلة حيلته وغربته عن الأهل والديار، استطاع يوسف أن يحظى بشهادة شاهد من أهلها، من أهل امراة العزيز التي بدا ضلالها في حين ظهرت آيات عفته وبدت أنوار منعته وعزته. تلك الشهادة تحوي في مضمونها كل معنى التاريخ أو الزمن الدنيوي المحدود. ذلك أن الحياة الدنيا ما جعلت إلا من أجل أن يكتسب فيها الإنسان شهادة تعلن عن عفته وتؤكد تجاوزه لضعفه وغفلته. فإذا ما حصلت هذه الشهادة ولا تكون إلا من خلال خوض غمار تجربة لا مجال فيها للادعاء والنفاق، استحق الإنسان استحسان الرب الذي سوف يهيئه لمرتبة أخرى ولزمن آخر غير زمنه الأول. إن زمن الإنسان أزمان، كما أن حقيقته حقائق. فلقد حكم على هذا المخلوق بان يجمع أشلاء ذاته المبعثرة هنا وهناك؛ لذلك كان من صميم مأساته أن يرى زمانه وهو عين وجوده، ينقسم ويتوزع ما بين ماض وحاضر ومستقبل، وكلها أوهام. باختراقه بالوعي لجسد امراة العزيز، لم يعد جسد مهما بدا من قوته وتبرجه وسلطته بقادر على أن يصمد أمام سلطة العقل اليوسفي المستنير. لقد أصبحت الأجساد بالنسبة إليه نصوصا مفتوحة تدل على باطنها عوض أن تخفيه، لا بل لم تعد جدلية الظاهر والباطن ذات موضوع بالنسبة إليه، لقد أصبح الظاهر عين الباطن والباطن عين الظاهر، وتحطمت سلطة النص بانكشاف المنصوص لا خفاء فيه ولا زيغ ولا ضلال. عندئذ أصبح يوسف صاحب فنّ التأويل وعِلْمه بدون منازع، وذلك سر ربط الآيات القرآنية بين الحديث عن دخول يوسف قصر العزيز، وبين إرادة السماء في تمكينه من علم التأويل " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلّمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون". ولكي يتأكد هذا المعنى وتظهر آثار الاستنارة العقلية اليوسفية بدون لبس، تداعت النصوص على الشاب الذي نطق ظاهره بباطنه بل الذي ظاهره عين باطنه. فلأول مرة تقريبا والعلم لله طبعا، يتوحد الظاهر بالباطن توحدا يجعل منهما حقيقة واحدة الأمر الذي ذهلت له الأنفس وانهدت له الأراضي فأقبلت تلك الأنفس على شرفها ورفعة مقاماتها تسعى كل واحدة منها لنيل الأوطار والظفر بالنور الخارق. إن نسوة المدينة وقبلهن امرأة العزيز، ما كن قـــــادرات على الصمود أمام نور عقل باهر جذاب تحطمت أمامه كل أركان النفس فأصبحت هباء منثورا. " وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم." ( ) وبتهافت النسوة على يوسف واعتصامه، تبين أنه نور لا يقهر، وأن النصوص أصبحت بالنسبة له نصا واحدا مستهلك المعنى.إذ ذاك تربع على عرش المعنى، وأنهى بالاختيار مرحلة الحياة الدنيا بكل نزوعاتها وأهوائها وترّهاتها ونطق بالحق فقال " رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين.فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم" ( ). هل معنى طلب الموت وهو عين السجن، أن الحياة الدنيا هي أيضا وهم وأن زمنها عرض زائل وظل حائل ؟ لا شك أن يوسف الصديق كان له من الأسباب العميقة ما يجعله لا يجد في الدنيا موئلا لوعيه ولا مستقرا لعقله وموطنا أمينا لذاته. ومن هنا خاف بالبقاء فيها من الطمس والردّة "أصب إليهن وأكن من الجاهلين." لابد من زمن آخر إذن، زمن هو تجربة أخرى، إنه الموت.

ج – تجربة السجن: الموت أو الزمن الثاني " قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم . ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين." ( ). دخل يوسف الصديق السجن دخولا اختياريا بعد أن استحبه على الوقوع في ظلمات الغواية والضلال. فتبين بذلك أنه ينتصر للنور على الظلمات وللحقيقة على الباطل وأنه مع الجوهر الباقي الخالد في الذات الإنسانية حتى ولو زال الجسد الظاهر الفاني. وكل عملية تجاوز لبعد من أبعاد الوجود والعدم تمثل تجاوزا لبعد من أبعاد الزمن. إن مرحلة السجن هي تجربة للموت على مستوى رمزي؛ ففيه يستكين الجسد وتخمد الحواس ويسترخي الكيان الحسي في الإنسان حتى كأنه ميت أو يكاد. وفي الوقت الذي سكن فيه جسده ، كان عقل يوسف يشهد قمة لحظات انعتاقه وتحرره. فلقد أصبح الآن يرى بدون أدنى لبس ولا شك مدى ما وصل إليه من استنارة قلبية داخلية، استنارة جعلته يرى النور في الظلمة والسعادة في الشقاء والحياة في الموت، أليس قد رأى النجاة في السجن ؟ وفي ظلمات السجن استفاد يوسف الوعي الثاني المطلوب لكمال العقل واستنارته، والذي لا غنى عنه للوصول إلى معرفة الحقيقة على سبيل الكمال. هذا الوعي الجديد هو وعي بالموت الذي لا إمكان لتحصيله إلا عبر خوض تجربة الموت. فبقدر ما كان الجسد اليوسفي يتخلص من آفات الاستقطاب ويأمن من مخاطر الاستلاب الدنيوي العجيب، كان روحه (عقله) يتحرر، وكان يتهيأ بذلك لتحقيق رؤية شاملة ووعي مكتمل. وكدليل على أنه قد أحاط خبرا بعلمي الموت والحياة معا، دخل معه السجن فتيان رأى كل واحد منهما رؤيا كان يوسف الصديق مستعدا تمام الاستعداد لتاويلها وكشف خفاياها. " ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين. قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وبالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شىء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن ، ءآرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم الا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان . وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين." ( ). أما الفتيان اللذان دخلا مع يوسف السجن فقد كانا رمزين للقوتين اللتين زُوِّد بهما قوة الحياة وقوة الموت، وللوعي الشمولي الذي اصبح يتحرك به وينظر من خلاله إلى الوجود: الوعي بالحياة والوعي بالموت، هذا الــــوعي الذي يعني أيضا الهيمنة المعرفية على الماضي وعلى المستقبل معا، على النص وعلى المعنى معا، على اللغة وعلى المضمون معا، على الرؤيا وعلى التأويل معا. لذلك خاطب يوسف الفتيين بكل ثقة ويقين مؤكدا أنه أحاط خُبْرا بخزائن الماضي والمستقبل، وأنه ضمن هذا المجال وفي حدود هذه التجربة التي جمعت ثلاثتهم في السجن، قادر على أن يجعل ليلهم نهارا ومستقبلهم حاضرا ماثلا بالوعي بين أيديهم. كان أحد الفتيين صندوقا وخزانة للزمن الأول وللوعي الأول الدنيوي العابث اللاهي " قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا"؛ فأجابه يوسف " أما أحدكما فيسقي ربه خمرا". إن الساقي الذي يملأ الاقداح في مجلس الأنس واللهو، هو رمز فاضح للدنيا المقبلة على روادها تسكرهم بوهم يزول لأنه رهين زمن يزول هو زمن بقاء أثر السكرة على العقل.إن الزمن الدنيوي هو الزمن الأول واللحظة الأولى التي ما إن تشتد وتتهيأ للبقاء حتى تصبح أياما خالية لا سبيل الى استعادتها بحال. أليس ذلك حال الزمان الأرضي الذي يتآكل بحسب قدر رهيب يجعل من كل لحظة فيه مدبرة إلى الماضي أكثر مما هي مجسدة للحاضر. إن الماضي لا يكاد يترك للحاضر معنى في حياتنا الأرضية الدنيوية هذه، بل إن الحاضر ليس بالنسبة له سوى وهم لا يكون. أما الفتى الثاني، فكان خزانة للزمن الثاني الذي يمثل انقلابا على الزمن الأول وصَلبا له علىأعتاب الحقيقة المطلقة الأبدية. "وقال الآخر إني أراني أحمل فوق راسي خبزا تأكل الطير منه ... الآية" أوّله يوسف بقوله " وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه... الآية ". إن الصلب علامة الانقلاب والتغير في الأحوال والأطوار، ولعل الطير أن تكون علامة على العالم الملكي الروحاني الذي سينفتح عليه الإنسان بإقباله على الموت وإدباره عن الحياة. إن الموت هو اللحظة الثانية في حياة الإنسان ولكنها ليست اللحظة النهائية فإن الطير ما أكلت إلا من رأسه ولم تأكل رأسه كله. إلا أن هذه اللحظة على نسبيتها قادرة على أن تصلب الزمن الأول على أعتاب النسيان وأن تجعل منه زمنا غابرا وأثرا دارسا ماضيا. إن الفتيين إذن، يمثلان مرآتين من مرائي الزمن ، مرآة تكشف عن الماضي ومرآة تكشف عن المستقبل. وكان يوسف عليه السلام بمثابة المرآة الثالثة الجامعة بين حقائق المرآتين معا أي بين الماضي والمستقبل معا. فالماضي والمستقبل يلتقيان في الوعي ( ) ليصنعا الحقيقة التي لا تشرق إلا ضمن زمن خاص وزمن الحقيقة كلي لا ماضي فيه ولا مستقبل. إن زمن الحقيقة هو أيضا زمن الذات ، فالذات الإنسانية لا تعطي كل أبعادها ولا تصرح بتمام معناها في ماضيها فقط ولا في مستقبلها فقط أي في حياتها وموتها بل هي فوق الحياة والموت. ذات خالدة باقية تخترق الحدود وتهتك كل الأستار( ). بم تم ليوسف الصدّيق الجمع بين الوقتين (الماضي والمستقبل) ؟ وبأي قوة استطاع دمج الوعيين (الحياة والموت) ؟ والجواب إنه قد تمكن من هذا الجمع والدمج والضم بقوة التوحيد التي انبنى عليها عقله والتي حملها عقيدة ثابتة لا يتزحزح عنها قيد أنملة. ولقد صرح بعقيدته هذه لصاحبي السجن" يا صاحبي السجن ءآرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون." ( ). إن توحيد الرب الواحد هو الذي يؤسس العقل الموحد الذي يقدر على تجاوز آفات انكسار الزمان إلى حاضر ومستقبل، وتشظّي الوعي وانفجار الكيان.

3– تجربة الماضي في المستقبل وتجربة المستقبل في الماضي : رؤيا النجاة واكتمال الوعي " وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون." ( ) بعد أن شهد يوسف الصديق تجربة الحياة الدنيا في زمن اللهو والعبث والنسيان والذي انتهى بفراره فرارا كشف عنه صراعه مع امرأة العزيز التي لم تجد بين يديها سوى قميصه الذي قدّته من دبر فكان شهادة على إدباره عنها وإقبالها في المقابل عليه، دخل تجربة السجن التي خمد فيها كيانه فانطوى ذكره وامّحى اسمه بانحجاب رسمه، وانهدّ كيانه، وانتهى زمن إمكانه، فلم يعد يقدر لنفسه على شيء حتى إنه لما أوصى أحد الناجين من الفتيين بذكره عند مولاه لم يذكره " وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين". وبالتجربتين معا، تجربة الحياة وتجربة الموت، انفتح السبيل أمام تجربة الحرية والانعتاق وذلك عبر اكتساب يوسف الصديق للحقيقة المتمثلة في الوعي الثالث التأليفي بين الوعيين الأولين، وعي هو فوق الحياة والموت، هو وعي النجاة. هذا الوعي الجديد التأليفي هو بعث للذات يمكنها من السيطرة الكلية على لعبة الحياة والموت، على الماضي والمستقبل، على حديث الجدب وحديث الخصب. لقد رأى الملك وهو صاحب الزمان، سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. واستفتى الملأ فقالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. كانت رؤيا عجيبة بل كانتا رؤيتين مندمجتين في رؤيا واحدة، وكانت ستصبح نصّا منسيا مهدور المعنى لولا أن المؤوّل القادر على عبور الأراضي السبع والسماوات السبع بوعيه ثم النفوذ من ورائها إلى ســدرة المنتهى وباب الخلاص كان موجودا أيضا وجاهزا لاستعمال قوته التي لا تقهر والتي لا يقف أمامهما ماض ولا مستقبل. إنها قوة الحقيقة المتجاوزة للزمان، وقوة الغيب المهيمن على الشهادة، وقوة التأويل المستولي على النص، القادر على رؤية آخره في أوله وأوله في آخره . كان على المصريين بمقتضى الرؤيا، أن يهيئوا وأن يعدّوا من بدئهم لمعادهم، ومن خصبهم لجدبهم، وأن يمارسوا واقعهم بروح مستقبلهم، وأن يبنوا مستقبلهم انطلاقا من حاضرهم. فلقد استدار زمانهم وقابلت سنوات جدبهم سنوات خصبهم ولم يعد لهم من سبيل للنجاة الا بالمزاوجة بين سبع سني الحياة (الخصب) وسبع سني الممات (الجدب) ، وإثر ذلك فقط سوف يأتيهم عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. وعبر التأويل الذي يستمد من خزانة الحقيقة، تحققت نجاة ثلاثية الأركان. فلقد نجا شعب مصر وما أحاط بها من قبائل البدو الرعاة من آفات المجاعة المهلكة. ونجت رؤيا الملك من الضياع والاندثار بحصولها على تأويلها، ونجا يوسف الصديق بخروجه من السجن واستيلائه المظفّر المشهود على خزائن الأرض: " وقال الملك ايتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " ( ). إن مرحلة التمكين في الأرض والتي تحققت بعد تجارب مضنية وجـــهاد مـــرير خاضت فيه الذات بكل وعيها وبكل كيانها تحديات مدمرة، وتجاوزت مهالك ومطبات قاتلة، هي حاضر يوسف الصديق، وهي حداثته التي لا تنتهي لأنها نصره الذي أنجزه وصنعه بتأييد وعون من ربه . إن الماضي والمستقبل كليهما يلتقيان عبر التجربة في زمن ثالث ممتد امتداد الأبدية هو الحاضر الذي يستوعب الذات استيعابا كاملا لأنه يظهرها بكلية وعيها وكلية وجودها. إن الزمن المطلق هو الذي يستوعب الإنسان المطلق (الكامل). وحديث الإنسان الكامل حديث بعث لن يتهيأ الا بعد خوض تجربتي الحياة والموت. لذلك كان الحاضر أبدا حداثة مفقودة، تماما مثل الذات الكاملة والوعي الكامل اللذين يبقيان بالنسبة للانسان أملا مطلوبا وحلما منشودا يضحي في سبيله بماضيه ومستقبله، بحياته وموته. أليس الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقذف بذاته على أعتاب الموت طالبا ما وراء الموت؛ تماما مثلما قذف يوسف الصديق بكيانه في السجن طلبا لزمن التمكين ورفضا لزمن الاستلاب وسعيا في سبيل تحقيق الوعي الجمعي ونفي الوعي النسبي المتشظي.

4 _ ختم التجربة : طمس الحروف وظهور المعنى أو: عود على بدء " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤيــاي من قبل قد جـــعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم " ( ). لقد آبت الرؤيا إلى تأويلها إذن مثلما آب يوسف الصديق إلى أهله أو آب أهله إليه، فآب الماضي إلى المستقبل، وآب المستقبل إلى الماضي، وظهر في الكهولة ما بطن في الطفولة. ذلك ما يوحى به لقاء يوسف بيعقوب عليهما السلام بعد التجارب العاصفة التي آلت على نفسها أن تطهّر قلب الصبي الصغير وأن تستصنع منه مخلوقا نورانيا بإخراجه من ظلمات الجب والغواية والسجن. ومن خلال مواجهة الظلمات كان يوسف عليه السلام يزداد استنارة ووعيا وطهارة وبراءة. وفي خضم التجارب فقد يعقوب نور عينيه وبقي مع ذلك يتحسس من أخبار يوسف ويأمل أن يلقاه. وكان أن بعث يوسف بقميصه إلى أبيه الذي وجد ريحه، فلما ألقي على وجهه ارتد بصيرا. إن القميص الذي حاكته التجارب هو الزمن الحقيقي، الزمن المؤثر الفاعل، زمن يصنعه الانسان بعرقه ودمائه واعتصامه واستشهاده " قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين. ولما فصلت العير قال ابوهم إني لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون. قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم. فلما جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم اقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون" ( ). إن القميص الذي لطخ أولا بدم كذب، ثم قدّ من دبر يصبح الآن علامة نورانية وأداة تنوير وبعث وإحياء وإنقاذ. إن الماضي والمستقبل يلتقيان معا في تجربة النور. إن الأزمان أنوار إذا جمعت ، وأسرار إذا اندمجت أعطت الحقيقة وألغت الباطل. وهي في المقابل، أوهام إذا تمزقت واستقلّ أولها عن آخرها. إلام كانت رؤيا الملك ستَؤول لو لم تجد مُؤوّلها؟ وقبل ذلك ماذا كانت رؤيا يوسف ستعني لو لم تقم تجاربها لتعطي تأويلها وتخرج مشهدها وتبرز حقيقتها. إن الماضي بذرة والمستقبل ثمرة ، والواصل بينهما التجربة. فما لم تقم التجربة فلا صلاح للبذرة ولا إمكان لنموها. والثمرة منطوية أصلا في بذرتها، فحبة الشعير لا تعطي إلا شعيرا. والبذرة لا معنى لوجودها إن لم تصبح ثمرة. تلك خلاصة علاقة يعقوب بيوسف ويوسف بيعقوب. فلا غنى ليوسف عن يعقوب لأنه حينئذ يفقد عقيدته التي حفظتها ملة آبائه، تلك العقيدة التي عصمته وحفظته من الاندثار عندما واجه وهو الوحيد الشريد الغريب، مجتمعا سعى إلى استقطابه والاستحواذ عليه وابتلاعه. ولا غنى لحياة يعقوب عن يوسف لأن مستقبله ومستقبل أبنائه (بنو اسرائيل) مرتبط بما سينجزه يوسف من غزو لمواطن الحضارة حيث سيهيىء موطن قدم لأهله في مصر، ويخرجهم بذلك من مرحلة البداوة إلى مرحلة الحضارة. هل يملك الإنسان ماضيه أم له مستقبله ؟ أم أنه لا يملك أي واحد منهما؟ الواضح من خـــلال هذه التـــجربة اليوسفية أن الانسان لا يملك ماضيه أو لحظة بدئه ومنشئه، إنه ينشأ ويتكون كما تكونت الرؤيا في ليلة طفل صغير. وهو أيضا لا يملك مستقبله إلا بما هو شاهد يرى بأم عينه تصاريف الدهر وعجائب القدر المكتوب " قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ". ماذا يملك الإنسان إذن في خضم الزمن المحكم الذي يتجلى كقدر محتوم وقضاء مبرم؟ والجواب، إنه يملك تجربته ، يملك شهادته، يملك أن يلعن الظلمات وأن يعشق النور. فاذا فعل ذلك كسب نفسه وطهّرها، وحافظ على معناه وعهده . إن الإنسان يواجه الزمن إذن في خضم التجربة، وحينئذ يتحداه الزمن، فإذا ما اشتغل به من حيث هو تصاريف وأقدار، تجارب وأخطار، ماض ومستقبل، تاه واندثر وانقرض. أما إذا ما وعى أنه لا يملك من الدهر وفي الدهر إلا نفسه ، فحينئذ يُحكم بنيانه ويؤسس أركانه. ذلك اْن الدهر وهْم بالنسبة لنا لا بالنسبة لنفسه. فإذا ما اشتغلنا بغير أنفسنا نسينا دهرنا وضيعنا زمننا. فما مُكّن الإنسان إلا في ذاته، وما تحكم إلا في كيانه، وما اكتسب إلا قميصه، وعلى قميصه يكتب ما يشاء. فاذا ما عنّ لنا أن نسأل عن الزمن، فإننا لن نجد إجابة أصدق من تلك الآثار المكتوبة على القميص. فإذا ما خلص القميص وطهر وأصبح نورانيا ، فإن زمننا النور. وإذا ما اسودّ ولم يتطهر بقي ظلمانيا. أليس هذا القميص هو عين الكتاب الذي يخرج يوم القيامة للإنسان فيلقاه أمامه منشورا ؟

إن الماضي والمستقبل عــلامتان على أن الإنــسان قد وضع بين الزمان والأبدية، بين النسبية والإطلاق، بين الموت والحياة ، بين الجسد والروح، بين الآخرة والأولى... والتجربة التي يخوضها الإنسان والتي تتمثل في المسافة الفاصلة ما بين موته وحياته، هي الكاشفة عن موقفه من الثنائية. فإذا ألغاها عبر رؤية توحيدية، خلص إلى النور الكامن وراء الثنائيات بل المستخفي في ثناياها وأطوائها، واهتدى إلى الوجود الواحد المتحد. وإذا ما أقام الثنائيات وعمّق الفروقات، ظهرت في كيانه الانشطارات وأصابت قميصه التمزقات. والتجربة تقول إن هذا القميص الإنساني لابد أن يتمزق ليظهر ما وراءه شاء الإنسان أم أبى؛ إلا أنه إذا تمزق من دبر كان شهادة للإنسان، أما إذا تمزق من قُبل فإنه يكون شاهدا عليه.إن لعبة الزمن هي في أعماقها لعبة السلطة. فالسلطة حيثما قامت وحيثما كانت، تنشىء زمنها وتخلق قانونها وتسعى إلى أن تجعلهما بديلين عن الأبدية وعن قانون الوجود العام. ومن هنا كان الاعتراف بالزمن أبدا شرخا لا يقبله الوجود ولا يرضاه من التحق به. فمن شهد الأبدية لا يرضى بالزمان، ومن عرف الحرية لا يرضخ للسلطان.

يقول الشيخ محيي الدين بن عربي مؤكدا على وهمية الزمان: إن الزمان إذا حققت حاصله محقق فهو بالأوهام معلوم مثل الطبيعة في التأثير قوّته والعين منها ومنه فيه معدوم به تعينت الأشيا وليس له عين يكون عليه منه تحكيم ( ) إن الزمان ليس شيئا في ذاته إذن إلا بما هو مجال لإظهار تجربة الإنسان. إنه فرصتنا لتحقيق الأبدية والولوج إلى الوجود المطلق. فالزمان باب المطلق لذلك ما قام للزمان معنى إلا لما خلق الإنسان. وبخلق الانسان ظهر الشيطان، وهو رمز للبعد والانقطاع وانشطار الوجود. فلما أعلن العصيان أعطاه الله فرصته فأسس الزمان. لذلك كان " الصراع بين الله والشيطان محتدما في الإنسان " ( ) على حد قول علي شريعتي. إن تجربة الماضي والمستقبل بالنسبة للعارف تجربة استنارة أي اكتشاف للوحدة من وراء الضدّين، واختبار للذات بامتحانها في مجالي الموت والحياة، ورؤية واحدة للحقيقة سواء في الليل أو في النهار . ولذلك كان لابد من التأويل لأن الوجود نص لا ينكشف إلا عبر التأويل.

إن التأويل استعادة للعهد الأول وللمشهد الاول وللحقيقة الأولى، وهو الآلة التي تمكننا من اختراق الزمان وصولا إلى ما قبله وما بعده. إن الماضي والمستقبل استحالتان للحقيقة. تماما مثل الليل والنهار؛ فمن كان ليله كنهاره عرف نفسه، ومن انقطع في ليله عن النهار فقد نفسه، واستهلكتها ظلمات الليل والنهار معا. ويلتقي سر الليل والنهار في الوجود. فالوجود الواحد المتحد هو الذي ينبه إلى حقيقة هذه الأحوال عبر ثباته واستقراره لأن الحال لا يكون إلا لثابت أو وصفا لموصوف. أما المتحول فإنه يلتحق بالحال ويصبح رمزا له وعلامة عليه . لذلك طلب الإنسان العارف الوجـــود وتمسك بالخلود. والوجود بالنسبة للإنسان ارتباط واندماج .

يقول ابن عربي متحدثا عن موئل ومنتهى تجربة العارف " فارتبط آخر الأمر بأوله وانعطف أبده على أزله فليس إلا وجود مستمر وشهود ثابت مستقر" ( ). شهود ووجود، أو شهود للوجود. هذا مختصر القول في الزمان والوجود أو في الإنسان والله، أو في الجسد والروح...الوجود ثابت والزمان شاهده، والروح ثابت والجسد شاهده. والله ثابت والإنسان شاهده. والله والإنسان معا ثابتان وشاهداهما الماضي والمستقبل لكن لمن شهد الماضي ولمن شهد المستقبل ؟ عن هذا لا تسل بل جرّب.


تاريخ النشر : 08-11-2010

6179 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com