آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  إتجاهات الإصلاح

فلسفة التجديد    |    قضايا التجديد    |    التعليم و المناهج

  •     

المسيري.. رحيل مفكر عميق

جمال باروت


اشتهر عبد الوهاب المسيري بعمله الموسوعي التفكيكي الكبير للفكر الصهيوني، ومحاولته بناء نموذج تفسيري جديد للمسألة الصهيونية. ورغم أنه -في إطار مراجعته النقدية الجذرية للتفكيكية- فكر بإعادة بناء النموذج التفسيري الذي بلوره لتلك المسألة باتجاه مقاربة رؤية تأسيسية بديلة، تتخطى التفكيكي إلى المعياري، فإنه ظل في العمق تفكيكياً، أي يفكر تفكيكياً في عملية تفكيك التفكيكية نفسها، ومحاولة الوصول من خلال «منهجها» إلى تفكيك الرؤية المعرفية الإمبريالية، والأساسيات المعرفية لما وصفه بالنظام العالمي الجديد.

لقد طغت شهرة ذلك العمل الموسوعي الكبير على عمل المسيري الدؤوب في مراجعة المفاهيم الكبرى، ومساءلتها نقدياً ومعرفياً، والذي وضعه في سياق تشكل ما نصطلح على تسميته باتجاهات «نقد الحداثة» في الفكر العربي، وفي هذا الإطار، كان للمسيري جهد كبير في إعادة طرح مفهوم العلمانية ومساءلته، وقد اندرجت مساهمته في سياق لجّة الجدل المستعر حول هذه المسألة في الفكر العربي، إلا أنه قاربها بعقل نقدي تجاوز الطريقة المبسطة لمقارباتها السياسوية والتعبوية والمعتقدية السائدة في «الأدب» الفكري-السياسي إلى مقاربات المفكر العميق.

وما لم يتحه الوقت للمسيري في تأسيس رؤية بديلة للنموذج التفسيري للمسألة الصهيونية أتيح له بشكل مرنٍ في إعادة مقاربة مسألة العلمانية ومساءلتها، ولقد اختار للتفكير بالمسألة العلمانية إعادة صياغة التمييز بين ما سماه بالعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ولم «يخترع» المسيري هذا التمييز، بل أعاد صياغته على أسس فكرية - معرفية معمقة وجديدة، ولقد طرح بطريقة المفكر ما يقع اليوم في «الأدب» السجالي حول العلمانية تحت إطار التمييز بين العلمانية «المتطرفة» والعلمانية «المعتدلة»، واعترف هو نفسه بأن العلمانية «المعتدلة» تندرج في إطار «العلمانية الجزئية»، بينما تندرج العلمانية «المتطرفة» في إطار «العلمانية الشاملة». نظر المسيري إلى الفرق بين الاعتدال والتطرف ليس على مستوى الدرجة، بل على مستوى النوع، ونقل الجدل بين الموقفين العلمانيين المعتدل والمتطرف من حدود المواقف إلى الحدود المعرفية، وبشكل يمكن فيه تكثيف رؤيته وبمصطلحاته نفسها في أن العلمانية الجزئية ليست درجة من درجات العلمانية الشاملة تتم لأسباب وظيفية، بقدر ما هي مقابلة لها. وبالتالي، فالعلمانية الجزئية تختلف عن العلمانية الشاملة في النوع وليس في الدرجة. يرتد مفهوما المسيري إلى التمييز بين العلمانية بمعنى Laicite والعلمانية المعتقدية أو المذهبية بمعنى Laicisme ، والعلمانية بالمعنى الأول أقرب إلى «دنيوة العالم»، بينما هي في المعنى الثاني عقيدة ترتبط بالمستوى المعتقدي، وتغدو فيه المعتقدية العلمانية من نوع ما يسميه مؤرخو الأديان بـ «الأديان البديلة».

ولهذا، لم يكن مفارقة إزاء ثقل الحمولة «الفكروية» في مصطلح العلمانية أن يقترح البعض، مثل كمال أبوديب، التفكير بالمصطلح الإنجليزي المعادل لها، وهو Secularite باعتباره يحيل إلى الزمن والعالم وإلى الدنيوة أو الزمنية، إذ إن مفهوم العلمانية بمعنى العقيدة العلمانية قد بات قاصراً عن تشكل أنماط من نوع ما بات يمكن أن نطلق عليه العلمانية المؤمنة، والتي تندرج في مفهوم العلمانية الجزئية لدى المسيري. لقد استأنف المسيري تبني أصول التمييز، ولا تكمن أهمية فعاليته الفكرية في تبنيه أبداً، بقدر ما تكمن في طريقة معالجتها، وإعادة طرحها نقدياً ومعرفياً في ضوء مفاهيم الحركة الإبستمولوجية الجديدة في الفكر العالمي، وتقويضها للعقلانية التاريخانية، فلقد كان المسيري متمرساً رفيعاً بهذه المفاهيم، ومتشرباً لها بشكل عميق. وقد أسهمت التفكيكية نفسها في تقويض أسس النموذج التاريخاني، وجعل عاليه سافله، لكن لولا تمرس المسيري بهذه التفكيكية لما تمكن من تمثل تقويض الحركة الإبستمولوجية الجديدة للتاريخانية.

وجديد مقاربة المسيري هو وضع أصول التمييز بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة في إطار تطور مفاهيم الحركة الإبستمولوجية تلك، ومحاولة بنائها في مقاربته الجديدة للتمييز بين العلمانيتين، المقابلتين لبعضهما، وربط العلمانية الشاملة بالإمبريالية بالمعنى الذي يجب أن يعاد فيها الاعتبار لمفهومها في نظام المفاهيم المعرفي وليس كما ساد في الأدبيات السياسية والاقتصادية والنقابية.

رحل المسيري وهو يفكر حتى اللحظة الأخيرة. وكانت نوعية تفكيره النقدي محط التقاء بين بعض شباب الوسط في جماعة الإخوان المسلمين بمصر وشباب الحركة اليسارية والتروتسكية وحركة الشباب عموماً، وحاول أن يستبق زائره الأخير بإعطاء قيمة لإيمانه الجدي بالأفكار بشكل ملموس عبر انغماسه بحركة الفعل، فتصدر حركة «كفاية»، وتلقى حصته من الهراوات، وكان يقول في ذلك بطريقة عملية رسالة فكره المتألق والشجاع، وهي رسالة التغيير.

 

تاريخ النشر : 13-07-2008

6305 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com