الكتاب: الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية.
المؤلف: د نصر حامد أبو زيد.
الناشر: المركز الثقافي العربي، 2007.
الصفحات: 192.
يأتي كتاب الدكتور نصر حامد أبو زيد "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" كحلقة تكميلية لجزء مهم من مجمل طرحه الفكري، وللوقوف على المرامي البعيدة لهذا الكتاب لابد من الرجوع قليلاً إلى الإطار العام الذي يتحرك فيه أبو زيد.
مدخل إلى المشروع الفكري عند نصر حامد أبو زيد
يرى أبو زيد أن مشروع النهضة الذي انطلق منذ منتصف القرن التاسع عشر قد وصل مع محمد عبده إلى مفترق بالغ الأهمية، فبالرغم من أن محمد عبده "كان منحازاً إلى الموقف الاعتزالي والطريقة الرشدية"[1] كما نطقت بها كتبه ومقالاته، إلا أن هذا التوجه ما لبث أن أخفق لاحقاً بعد أن استولى عليه الفكر السلفي وحَرَفه عن مساره ليرتكس فيما فرَّ منه أول أمره.
وفي تحليله لعوامل إخفاق خطاب النهضة واستيلاء التيار "السلفي" عليه يعترف أبو زيد بأن خطاب النهضة كان حاملاً لبذور إخفاقه بسبب سكوته عن تراثه الديني ومحاولة تبريره بدلاً من طرح الأسئلة الحقيقية عليه ونقده، فقد رأى رواد النهضة في تقدم الأوربيين مسلمين بدون إسلام ورأوا في واقعهم المتخلف مسلمين بلا إسلام، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مراجعة الخلفيات الثاوية وراء تقدم أولئك وتخلف هؤلاء، بل انحصرت جهودهم في القيام بعملية "التوفيق" التي هي مجرد إعادة تأويل للإسلام من أجل أن يتسع لقيم الحضارة والمدنية، وبما أن خطاب النهضة في بواكيره قد "عجز عن إنتاج وعي علمي بالدين والتراث" فأبقى على الإسلام كإطار مرجعي جاهز دون أية مراجعة نقدية له وانحصر عمله في "التأويل" لأجل "التوفيق والتقبل للآخر"، فإن "السلفية" سرعان ما استعادت "إسلامها" من أيدي شيوخ النهضة لتقوم بالتأويل لأجل "الرفض" والمنابذة للآخر، ويرى أبو زيد أن كلا الفريقين قد تعامل مع الغرب بـ"نفعية"، أما النهضويون فنفعيتهم كانت على مستوى تقبل الفكرة والقيم، وأما السلفيون فنفعيتهم جاءت على مستوى تقبل المدنية المادية والتكنولوجيا، ويعيب أبو زيد على كلا الفريقين تغييبهم "للوعي باللحظة التاريخية" تراثية كانت أو أوربية، ما أدى إلى إنتاج وعي زائف بالتراث والحضارة الأوربية معاً[2].
ومن جهة أخرى يؤطر أبو زيد المسألة في إطارها التاريخي، إطار الصراع بين تيارَي أصحاب الحديث "أنصار سلطة النص" وأهل الرأي "أنصار سلطة العقل"، ويرى في الحاضر استمراراً للماضي، ويقرر أن مشروع المعتزلة الفكري القائم على تحرير العقل من سلطة النص وتحرير الفعل الإنساني من سلطة الجبر والاستبداد قد غُلِب على أمره في لحظة تاريخية من عصر التدوين وأزيح إلى الهامش بعد أن استطاع الإمام الشافعي أن يؤصل لمشروعه الفكري –يسِمُه أبو زيد بالوسطية التلفيقية- القائم على تقديم سلطة النص وتقييد العقل بها، وهو المشروع الذي حظي لاحقاً بمن يستكمله ويوسع حدوده من مجال الفقه والشريعة إلى مجال العقيدة وعلم الكلام وهو أبو الحسن الأشعري، ثم استكمله الغزالي في مجال الفكر والفلسفة[3].
وباستحضار هذا النزاع بين التيارين من ساحات الماضي إلى أرض الحاضر فإن الفكر الاعتزالي في حال استئنافه وتطويره اليوم -بحسب أبي زيد- هو وحده القادر على الإفادة من معطيات التنوير الأوربي وحداثته، وهو المؤهل لأن يمارس "التوفيق" دون أي ارتباك، وهو أمر لا يمكن أن يتم من جديد إلا بالتغلب على الفكر "التلفيقي" المضاد الذي ما يزال مستحوذاً على كثير من الأذهان[4].
لا حاجة للتأكيد على أن أبا زيد يتخذ موقعه في خط استئناف الفكر التنويري "العقلاني" الذي أسسه المعتزلة واستعاده رواد النهضة على نحو متردد، إنه لا يرى في نفسه مجرد امتداد لذلك الفكر أو يؤسس عليه أهم طروحاته فحسب[5]، بل يسعى لتحريكه إلى الأمام بعد أن بقي يراوح في المكان ردحاً من الزمن بفعل تجاذبه مع الخطاب السلفي المسيطر، من هنا كان على أبي زيد أن يقوم بعمل مزدوج الغاية، عمل ينتج وعياً علمياً بالتراث لم ينتجه خطاب النهضة الأولى، وبذلك يحقق غايتين معاً، أولاهما: تفكيك الأسس المعرفية والبنى التاريخية التي يتكئ عليها الخطاب السلفي الذي لم تكفه الجولة الأولى في "نقد الخطاب الديني"[6]، وثانيتهما: تعبيد الطريق نحو ممارسة العقلانية التنويرية القادرة على بناء النهضة، لا بد إذن من الحديث عن "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" لاستكمال تلكما الغايتين.
الشافعي مؤسساً للإيديولوجية الوسطية
يتوفر أبو زيد على دراسة نصوصٍ للإمام الشافعي معتمداً على ما يسميه "منهج تحليل الخطاب"، وهو منهج يقوم على قاعدتين اثنتين أولاهما أن كل خطابٍ منتَجٍ في سياقٍ ما لا يمكن أن يكون خطاباً مغلقاً على ذاته، بل لابد أن يضمر هذا الخطاب على نحوٍ ما الخطاب المضاد له محاولاً إقصاءه والرد عليه، فالخطاب المضاد حاضر في ثنايا المنطوق المشتغل بالبرهنة على ذاته، فالشافعي –مثلاً- عندما يورد أدلة حجية السنة إنما يستبطن في خطاب حجيته هذا مقولات من ينفي السنة أو يتحفظ في تلقيها وإن لم يصرح بذلك، فظاهر خطاب الشافعي التأصيل ابتداءاً، لكن باطنه الرد سجالاً.
أما القاعدة الثانية في "منهج تحليل الخطاب" فتقضي بأن انتشار خطابٍ ما وذيوعه لا يستلزم صحته كما لا يستلزم بطلان كل خطاب سواه، بل المطلوب تخليص الخطابات "المهمشة" من التزييف والتشويه الذي نالها على يد الخطاب المهيمن المدعوم من السياسي والمذهبي[7].
ويركز الدكتور أبو زيد على الأهمية الفائقة لعصر التدوين باعتباره لحظة تحول ثقافة الأمة من الثقافة الشفاهية إلى الكتابية (التدوين)، ويؤكد وجود صراع متعدد الأبعاد في تلك المرحلة، ويختزل أطرافه في فئتين، إحداهما –بتسميته- قوى التغيير والتقدم، والأخرى قوى التثبيت والهيمنة[8]، ويرى أن هذا الصراع كان يتم التعبير عنه من خلال اللغة الدينية[9] بين فريقي أهل الحديث وأهل الرأي، وقد تم حسم هذا الصراع أخيراً لصالح قوى التثبيت والهيمنة بعد أن استطاع الإمام الشافعي أن يصوغ "نظرية معرفة"[10] في مجال الفقه والتشريع كُتب لها الذيوع والبقاء بل والهيمنة بسبب عوامل تاريخية[11]، والآفة العظمى التي ترتبت على ذلك –برأيه- هي أن ثقافة الأمة و"ذاكرتها الجمعية" قد صيغت وفقاً لمرجعية النصوص حفظاً وتكراراً واستدعاءً بدلاً من مرجعية العقل بقوته المفكرة المبدعة الحرة استدلالاً واستنباطاً[12].
وعند هذه النقطة يراجع أبو زيد الفكرة السائدة عن الشافعي من كونه اتخذ منهجاً وسطاً بين أهل الرأي وأهل الحديث، ويقرر أن هذه "الوسطية" التي تضخَّم الحديث عنها حتى غدت لدى البعض إحدى أبرز خصائص التجربة العربية الإسلامية في التاريخ ما هي إلا منهجٌ تلفيقي ظاهره الجمع والتوفيق بين منهجي أهل الرأي وأهل الحديث وحقيقته التحيز لأصحاب الحديث على حساب أهل الرأي[13].
ويرصد أبو زيد ملامح هذا التحيز لمنهج أهل الحديث في أمرين اثنين قام بهما الشافعي لحظة تأصيله لعلم أصول الفقه، هما: أولاً: توسيع دائرة النقل بتحويل ما ليس بنص إلى نص ، وثانياً: تضييق دائرة إعمال العقل بتقييده بقيود النقل.
فأما توسيع دائرة النقل فتتمثل في أن الشافعي عزز أولاً الفكرة القائلة بتضمن القرآن الحلول لكل المشكلات والنوازل في كل زمان ومكان، وهي –برأي أبي زيد- فكرة خطيرة حولت العقل العربي إلى عقل تابع يقتصر دوره على تأويل النص واشتقاق الدلالات منه[14]؛ ثم -بخطوة ثانية- ألحق بالنص الأصلي (القرآن) نصاً ثانوياً شارحاً هو السنة، فسوى بينهما في المنزلة بأن جعل السنة "وحياً غير متلو"[15]، وترتب على هذا توسعة محتوى السنة ليشمل سنن الأقوال والأفعال والعادات متجاهلاً بشرية الرسول تحت ذريعة "العصمة"[16].
ثم أولى الشافعي السنة دوراً أكبر بمنحها حق الاستقلال بالتشريع بدلاً من مجرد كونها بياناً لمجملات القرآن[17]، هذا مع إدراجه تحت بند السنة كلاً من المتواتر والمشهور والمتصل والمرسل على الترتيب وبشروط معينة[18]، كما جعل "إجماع الصحابة" نوعاً من السنة[19]، ثم اجترح حلاً "داخلياً" لإشكالية اختلاف الروايات والسنن فيما بينها يتمثل في ترجيح بعضها على بعض بعد استقصاءها وإعادة بنائها وترتيبها[20].
واستطراداً يقارن أبو زيد بين موقف الشافعي من السنة وموقف الأحناف، فالأحناف يجعلون القياس العقلي حاكماً على صحة المرويات خصوصاً الآحاد، ويحدون من صلاحية نصوص السنة لتخصيص الكتاب، ولا يتيحون للسنة أن تنفرد بالتشريع بل يقصرون مهمتها على كونها مبينة شارحة[21].
ويوسع الشافعي دائرة النقل فيدخل فيها "الإجماع"، ومفهومه عنده ملتبس ومتداخل مع السنة المتواترة، لدرجة أن التفريق الممكن بين السنة وبين الإجماع عند الشافعي هو أن السنة مروية مسموعة وأن الإجماع سنة محكية غير مسموعة[22].
ويأتي تقييد عمل العقل بعد أن استنفد الشافعي كل إمكانات توسعة دائرة النقل وتثبيت حجيته، فعمد إلى "القياس" –وهو التجلي الأبرز لعمل العقل في النقل- فضيق من دائرته وقيد اللجوء إليه بحالة الاضطرار[23]، وقابل بينه وبين الخبر فجعل القياس من قبيل ما هو ذاتي وجعل الخبر من قبيل ما هو موضوعي[24]، واشترط ألا يتم إجراؤه إلا على أصل سابق ثابت بالخبر/النقل، حتى أصبح القياس مجرد اكتشاف لما هو موجود في النصوص لا أكثر[25]، وأصبحت كل محاولةٍ لإجراء القياس بخلاف الشروط التي حدها الشافعي –أي خارج دائرة النصوص ودلالتها الحرفية- تعد في نظره "استحساناً" وقولاً بالرأي والتشهي مرفوضاً[26] يؤول إلى التنازع والخلاف[27].
ويلاحظ أبو زيد أن الشافعي عندما جعل أصول فقهه أربعة: (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) فإنه في ترتيبه لهذه الأصول "كان دائماً يؤسس اللاحق منها على السابق، فالسنة تتأسس مشروعيتها على الكتاب وبأدلةٍ منتزَعةٍ منه، ثم الإجماع يكتسب حجيته من كلٍّ من الكتاب والسنة فيصبح نصاً تشريعياً، ويأتي القياس أخيراً ليصبح استنباطاً من النص المركب من الأصول الثلاثة قبله، وترتيبه -أي الشافعي- للأدلة على هذا النحو إنما يتم بآلية تحويل اللانص إلى نص، وهي آلية تؤدي إلى تضييق مساحة الاجتهاد"[28].
على صعيد آخر يرصد أبو زيد عدداً من التناقضات والمفارقات التي وقع فيها الشافعي في تأسيس منظومته الأصولية، ومن أبرزها أنه طرح فكرة اتساع اللسان العربي اتساعاً يجعل من المستحيل الإحاطة به إلا للأنبياء ما يجعل مهمة تفسير القرآن –بحسب أبي زيد- مهمة عسيرة إن لم تكن مستحيلة[29]، ثم زاد من إشكال الفكرة وتناقضها أن السنة -التي هي عند الشافعي بيان للقرآن- هي بدورها لا يمكن لأحد منفرداً من أهل العلم الإحاطة بها.
ومن التناقضات أيضاً أن الشافعي بالرغم من دمجه السنة في مفهوم الوحي فإنه ميز بين القرآن والسنة في مسألة الناسخ والمنسوخ، فلا يُنسخ شيء منهما عنده إلا بنصٍّ من نفس جنسه، ويفسر أبو زيد هذه المفارقة المنهجية بأن الشافعي أراد أن يسحب البساط من تحت أقدام الذين يردون الأحاديث إذا تعارضت مع القرآن[30].
وتناقض ثالث يرصده أبو زيد لدى الشافعي يتمثل في أنه قبِل القياس وردَّ الاستحسان لكونه قولاً بالرأي والهوى مفضياً إلى التنازع والخلاف، مع أن القياس نفسه قولٌ بالرأي ومفضٍ –ولابد- إلى الاختلاف، ويَعدُّ أبو زيد هذا أحد مظاهر التلفيق، ويقرر أن الشافعي برفضه للاستحسان وتأكيده للقياس المكبل دائماً بسلطة الفهم الحرفي للنصوص كان يناضل من أجل القضاء على التعددية الفكرية والفقهية، وهو نضال ذو أبعاد اجتماعية سياسية واضحة[31].
ويقف أبو زيد على الخلفيات "الأيديولوجية" الثاوية في خطاب الشافعي فيرى في حرص الشافعي على تأكيد عروبة القرآن رداً غير صريح على النزعة الشعوبية التي سادت في تلك المرحلة، ويؤكد أبو زيد أن الشافعي استبطن "نزعة قرشية" سياسية كانت قد هيمنت على المشروع الإسلامي منذ "واقعة السقيفة" واستمرت تتجلى في مظاهر عدة، وبها يفسر أبو زيد نفرة الشافعي من النظام العباسي خصوصاً بعد أن تولى المأمون –ذي الأصول الفارسية- مناصرة مذهب الاعتزال فتعزز بذلك موقفه الرافض لعلم الكلام وأهله، ورحل إلى مصر ذات الوالي القرشي الهاشمي آنئذ، وكان قبل ذلك قد تعاون مع السلطة السياسية في اليمن بوساطة قرشية، وأُشخِص إلى بغداد ليحاكَم بتهمة التعاون مع العلويين ضد العباسيين، وفي نفس المسار يفسر أبو زيد سبب سرد نسب الشافعي الممتد إلى هاشم بن عبد المطلب في أول كتبه وأنه "ابن عم رسول الله"، وكذلك رفضه قراءة الفاتحة بالفارسية في الصلاة، واحتفاؤه بالأحاديث "الموضوعة" في فضل قريش على الناس وإيراده لها في مسنده، ليقرر في النهاية أن الشافعي عندما دمج السنة في "الوحي" فإنما حول التقاليد والأعراف والعادات القرشية إلى "وحي"[32].
ويختم أبو زيد بحثه بأنه لا بد من إجراء المراجعة الصريحة للثقافة التي صنعتها أيديولوجية كرست الماضي فكبلت العقل وضيقت من فعالية الإنسان وأهدرت خبرته، وأنه قد آن الأوان للدخول في "مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها بل من كل سلطة تعيق مسيرة الإنسان في عالمنا"[33].
الإيديولوجية . . خصماً وحَكَماً!!
اضطر أبو زيد –بعد إخراج الطبعة الأولى من كتابه هذا- أن يكتب مقدمة ثانية بلغت نحواً من نصف الحجم الأصلي للكتاب، وبغض النظر عما حفلت به من سجال شخصي بين أبي زيد وخصومه من "التقليديين المقدِّسين للماضي" و"أصحاب ثقافة "التلقين" من "علماء السمت والزي والألقاب . . الذين يفسدون في الأرض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"[34] . . فإنها أكدت طابع الارتجال الذي تتسم به كثير من كتابات أبي زيد، ولهذا جاءت بمثابة استدراك أراد به أبو زيد شرح عدة جوانب من فكرته، وتوضيح كثير من مصطلحاته ومفاهيمه الفضفاضة أو الملتبسة التي زادت الطين بلة، منها على سبيل المثال مفهوم "النص" و"رؤية العالم" و"منهج تحليل الخطاب" و"صياغة الذاكرة" و"سلطة النص" و"الأيديولوجية"، ولعل من بديع ما صححه ووضحه أبو زيد –الذي عاب على الشافعي نزعته العروبية الزائدة- أنه زعم أن مصطلح "الأيديولوجية" قد تم تعريبه وأصبح "كلمة عربية"[35]، ثم أفرد له صفحة كاملة محاولاً تعريفه بلغة هلامية لا تستقر على حد مزرياً بمن التبس عليه فهم هذه "الكلمة العربية"!![36]
واستطراداً في هذه المسألة فإن لنا أن نستدرك على أبي زيد ارتجالاً آخر لم يتنبه له لا هو ولا خصومه، وهو –عند التدقيق – يتيح لنا رؤية جوانب أخرى من شخصية الإمام الشافعي التي لم يرَ فيها أبو زيد سوى "صانع إيديولوجية"، فقد أورد أكثر من مرة في كتابه أن الشافعي ملقَّبٌ بـ"ناصر السنة"[37]، والحقيقة أن الشافعي لم يحمل هذا اللقب يوماً وإنما حمل لقب "ناصر الحديث"[38]، ولم يلقب بهذا اللقب أحد قبل الشافعي فيما نعلم، والتفريق بينهما ضروري وذو دلالة، فأن يكون الشافعي ناصراً للسنة -وهذا يستعمل في مواجهة البدعة- فهذا لقب لا يخلو فعلاً من بعد إيديولوجي، أما أن يكون ناصراً للحديث -والمراد به: الرواية- فالموقف عندئذٍ سيكون موقفاً ذا بعدٍ معرفي بالدرجة الأولى، وهذه هي حال الشافعي في الواقع، وقد لُقب بـ"ناصر الحديث" حين كان في العراق حيث يغلب انتشار أهل الرأي وتتنوع الاتجاهات الفكرية على نحو كبير، فهو لا يستسهل التفريط بالأخبار -من حيث هي معلومة ذات قيمة معرفية- أو يتجاهلها كما فعل كثير من أهل الرأي، ولئن كان ثمة ما يشكل في الموقف من "الحديث" أو "الخبر" عموماً فليس هو ذات الخبر وإنما هو منهج تَلَقِّيه ومستوى التعامل معه، وعندئذٍ لن يكفينا المنهج المعتمد على نقد الرجال وحده كما فعل أهل الحديث، ولا المنهج المعتمد على نقد المتن وحده كما فعل أهل الرأي، بل لا بد من حل يستوعب هذه الثنائية ويتجاوزها.
ومثلما التف أبو زيد على البعد المعرفي لموقف الشافعي من الرواية نجده يفعل الشيء ذاته في حكمه على موقف الشافعي من "الاستحسان" . . تجاهلٌ ثم "تأويلٌ إيديولوجي" للمسألة، ولو دققنا النظر في تحفظات الشافعي من "الاستحسان" لوجدناها قائمة على أسس منهجية أكثر من تأثرها بالموقف الإيديولوجي كما ظن أبو زيد، ذلك أن الاستحسان الذي ابتكره الأحناف كمتمم للقياس ظل عصياً على الضبط المنهجي في الممارسة، بل هو في تعريفه النظري أقرب إلى "الحدس" و"التخمين" الذي يختلف باختلاف الأشخاص، إذ هو –بتعريف المتأخرين- مجرد قياس خفي، أو هو: دليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع التعبير عنه!![39] وحريٌّ بدليل من هذه المرتبة أن يكون –عند الشافعي المعني بالتأصيل والضبط المنهجي- محل تحفظ وأقرب إلى الحكم بالتشهي والهوى، ويكون اجتنابه نوعاً من الممارسة العقلانية المتزنة الرافضة للظنون والتخمينات أن تسوّى بالأدلة الثابتة والمؤصَّلة[40].
وبالانتقال إلى دائرة أكبر قليلاً فإن الشافعي لم يدَّعِ يوماً أنه صاحب منهج وسطي بين الفريقين كما تخيل أبو زيد ليصل إلى اتهامه بالتحيز الخفي لأهل الحديث، فالشافعي كان قد تتلمذ مبكراً على يد كبار محدثي عصره وأولهم مالك، وصلته بهم عريقة وعميقة، لكن لم تحجبه الرواية عن الإفادة من شتى المذاهب والمشارب الموجودة في زمانه، ولا نبالغ إن قلنا إنه كان في مقدمة فقهاء زمانه حراكاً ومرونةً وقدرة على التجديد، وليست رحلاته العلمية الكثيرة، واتصاله بأئمة العلم من شتى المذاهب والمشارب دون توجس، وتجديده مذهبه بعد تأسيسه، ومراجعته فتاويه أكثر من مرة، ثم تأصيله أصول الفقه في "الرسالة"؛ إلا شاهداً صريحاً على ذلك، وقد مثَّل الشافعي في لحظةٍ ما –بتنوعه المعرفي آنف الذكر- حاجةً ملحةً لكلٍّ من أهل الرأي وأهل الحديث، ويكفي أن نستشهد هنا بأن التلميذ الثاني لأبي حنيفة "محمد بن الحسن الشيباني" قد أفاد من علم الشافعي ما جعله يراجع الكثير من مسائل أبي حنيفة أو يتراجع عن آرائه فيها، وبالمقابل نجد الرمز التاريخي الأشهر لأهل الحديث "أحمد بن حنبل" قد تخلى عن كثير من مجالس الحديث لئلا يفوته "علم الشافعي".
وليست قضيتنا هنا دفاعاً أعمى عن الشافعي وأصوله، وإنما القصد أن تُتناول هذه المسائل تناولاً مجرداً عن أسبقيتين فكريتين اثنتين: أسبقية العصمة التي ترفع الاجتهاد البشري إلى مرتبة القداسة، وأسبقية التهمة التي لا ترى في نفس ذلك الاجتهاد البشري وأصحابه سوى أدوات باعت نفسها للمصالح السياسية والاجتماعية السائدة في زمانها، وواقع الحال أن التمادي على إحدى الأسبقيتين لابد أن يَؤُول إلى استدعاء الأخرى حسب منطق رد الفعل، وعندئذٍ تبقى ممارسة الفعل الاجتهادي الناقد المتوازن تجاه المسألة نفسها أمراً مؤجلاً لأجلٍ غير مسمى.
ولا يخفى على أبي زيد أنه عندما يسبغ على منهج الشافعي وأصوله الثوب الإيديولوجي، فإنه هو نفسه سينزلق لا محالة إلى دوامة الأيديولوجيا والأيديولوجيا المضادة، وهو ما فعله بالضبط، إذ لم يزد على تبني الأيديولوجيا الاعتزالية المضادة محاولاً استعادتها من جديد بعد إجراء بعض التنقيحات الضرورية بدعوى العصرنة، وبذلك لا يكون أبو زيد عاكفاً في دائرة الثنائيات التبسيطية من "عقل ونقل" و"تقدمية ورجعية" فحسب، بل وما يزال يراوح في الصيغة القديمة لسؤال النهضة[41]، وبما أن مشروع النهضة عنده مختزلٌ في تحرير "التوفيق" من "التلفيق"، أو "تحرير العقل" من "سلطة النص" فإن منهجه المستأنف للحل المعتزلي –مهما كانت صيغته- لن يعدو أن يكون هو بدوره "تلفيقاً" لا يختلف عن تلفيق خصومه إلا في الجهة فحسب.
[1] نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة: الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، بيروت: المركز الثقافي العربي، ، ص9.
[2] المصدر السابق، ص25-26.
[3] نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص85.
[4] نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة، ص31.
[5] منها على سبيل المثال قوله بتاريخية النص القرآني أو كونه "منتَجاً ثقافياً"، أسسه أبو زيد على مبدأ المعتزلة القائل بـ"خلق القرآن".
[6] عنوان كتاب لأبي زيد صدر عن دار سينا للنشر عام 1992، وقد انصبت جهوده فيه على تفكيك الخطاب الديني "المعاصر" على نحو خاص.
[7] نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص19-20، و: النص السلطة الحقيقة، ص8-9.
[8] يرى أبو زيد نموذجين متباينين للإسلام كما هو في التاريخ والتراث، أحدهما "إسلام اعتزالي فلسفي لكنه مهمش" والآخر "إسلام أشعري رجعي" لكنه مسيطر، وهو امتداد لخط المنهج الذي رسمه الشافعي، انظر: النص، السلطة، الحقيقة، ص14.
[9] الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، ص19 و87.
[10] المصدر السابق، ص15-16.
[12] المصدر السابق، ص137، وص39، وص190.
[14] المصدر السابق، ص101-102.
[15] المصدر السابق، ص125.
[16] المصدر السابق، ص121، والسنة عند أبي زيد منها ما هو "بيان" ومنها ما هو "اجتهاد"، ص55.
[17] المصدر السابق، ص119.
[19] المصدر السابق، ص158.
[21] المصدر السابق، ص130، 135، 159.
[22] المصدر السابق، ص165.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.