آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

حوارات وشخصيات  .  

  •     

التراث شكّل معضلة في سياق البحث عن النهوض والتجديد

معتز الخطيب



حاوره محمد بوشيخي


 


  • الأستاذ معتز الخطيب، لقد اشتغلتم في عدد من أبحاثكم على دراسة قضايا الإصلاح والتجديد، وهي قضايا استحدث الكلام فيها تحت وقع صدمة الحداثة الغربية، فكانت تروم عموما تجاوز معوقات التراث واستلهام عناصر القوة الفكرية والمادية كما تبدت في الحضارة الغربية، فكيف تقرؤون تفاعلات الفكر العربي في هذا المسار منذ عصر النهضة إلى اليوم؟

     


بدأت جهود البحث عن "الإصلاح والنهضة" منذ القرن التاسع عشر، ثم تحولت منذ خمسينيات القرن العشرين إلى بحث عن "التجديد"، وأمكن لي في عملٍ سابق قراءة تلك التحولات من خلال صيغ الأسئلة التي كانت تُطرَح؛ فقد تم الانتقال من سؤال "لماذا تقدم الغرب؟" إلى سؤال "لماذا تأخر المسلمون؟" ثم سؤال "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"، ثم سؤال "لماذا أخفقت النهضة؟"، وهي صيغ تختزل زوايا النظر وأولويات التفكير، كما تظهر أن الغرب الناهض هو محور التفكير والمقايسة من جهة، ومن جهة أخرى شكّل التراثُ محورًا لإعادة التفكير تحت أهداف ومقاصد متعددة لتحقيق النهوض المنشود.


وقد حفل تاريخنا الفكري والثقافي الحديث بالعديد من الاتجاهات والمشاريع في هذا الخصوص ولا يمكن اختزالها في أسطر قليلة هنا، ولاسيما أن ثمة قراءات ومداخل مختلفة، لكن شاع تقسيم رضوان السيد لذلك إلى مرحلتين: الإصلاحية (الأفغاني وعبده) وإشكاليتُها كيف نتقدم؟، والإحيائية (رشيد رضا في مرحلته الثانية وحسن البنا وحركته) وإشكاليتُها كيف نصون هويتنا؟، إلا أن المتتبع للتاريخ الفكري والثقافي الحديث يجد أنه موّارٌ وحافلٌ بالفعالية والإنتاج ما يجعله أوسع من تلك الثنائية الطاغية والمهيمنة، ولا نزال نفتقر إلى تأريخ فكري رصين ومستوعب بعيدًا عن التنميطات السائدة.


وفي الجملة يمكن القول إنه وُجدَ طيفٌ واسع من التوجهات تبدأ بالنهضوي التغريبي الذي يعمل على شاكلة الغرب حذو القُذة بالقُذة مرورًا بالنهضوي العصريّ الذي رأى في فكرة المنافع العمومية والتنظيمات وإقامة الدولة العصرية مخرجًا دون حاجة إلى قطيعة مع الإرث الثقافي والديني (كالطهطاوي وخير الدين التونسي)، ثم الإصلاحي الإسلاميّ (كمحمد عبده ومدرسته) الذي رأى ضرورة إصلاح مناهج التربية والتعليم للنهوض بالمجتمعات وضرورة الإصلاح الديني للنهوض المدني، ولو تجاوزنا القرن التاسع عشر إلى العشرين سنجد مشاريع صون الهوية واستعادة الخلافة أو الدولة الإسلامية (البنّا وحركته)، وحركة الإصلاح الفكري وأسلمة المعرفة، وأطروحة مشكلات الحضارة وأن الإصلاح يبدأ بإصلاح الإنسان نفسه مع موقف سلبي من العمل السياسي (مالك بن نبي)، إلى غير ذلك من المشاريع والأطروحات.


في المقابل شكّل التراث معضلة في سياق البحث عن النهوض والتجديد، فقد تَحَول منذ ستينيات القرن العشرين إلى "إشكالية" بعد أن كان في القرن التاسع عشر عنوانًا لنهوض ثقافيّ عام لا يجد أيّ حرج أو إشكال في العودة إليه، أو في إعادة نشره وتحويله إلى فن علمي له تقاليده وقواعده، أو في تعميق الوعي به وبناء معارف جديدة على أساسٍ منه. وإشكالية التراث هنا لم تقتصر على فكرة العودة ودلالاتها فقط، بل تعدَّته إلى إعادة التساؤل عن جدوى التراث نفسه، وعلاقته بالحداثة وسؤال النهضة، بل أبعد من ذلك برزت مشاريع تهدف إلى فَكْفكته للتخلص من سلطته التي نُظر إليها على أنها من معوقات الحداثة المنشودة.


فما ميز قراءة التراث والعودة إليه في مرحلة الستينيات وما بعدها هو كثافة التأويل مع اختلاط المعرفة بالأيديولوجيا، ولذلك وجدنا قراءات عديدة ومتنوعة تعيد إنتاج جملة من المواقف من التراث، ما بين مواقف انتقائية ونفعية تَقضي بإبراز الجوانب التقدمية للتراث بما ينسجم مع التوجهات الثورية السائدة في السبعينيات مثلاً (كما لدى حسين مروة وطيب تيزيني ومحمد عمارة في مرحلته الأولى)، ومواقف تَقضي بتفكيك نص التراث وسلطته لتحرير العقل الإسلامي من سلطة الماضي وأوهامه؛ كخطوة ضرورية للتحديث المطلوب والمنشود (كمحمد أركون)، ومواقف تسعى لعقلنة التراث؛ لأنها ترى أن العقلانية هي البداية الفعلية لتشييد مشروع النهضة وتحديث العقل العربي (كمحمد عابد الجابري)، إلى غير ذلك من المشاريع الكثيرة.


 


  •  انطلقت خلال العقود الأخيرة سلسلة من النقد الذاتي دشنها عدد من مثقفي التيار الإسلامي مثل جمال البنا وحسن الترابي وراشد الغنوشي وكان لها أثر واضح في المقاربات الفكرية والسياسية لعدد من تيارات الإسلام السياسي، بل وصل الأمر إلى إطلاق إشارات نقدية قوية في اتجاه العلوم الشرعية خصوصاً علمي الحديث والأصول، كما حاول بعضهم تأسيس فهم جديد للقرآن على معطيات العلم الحديث كما جاء في كتاب "أبي آدم" مع العالم الأزهري عبد الصبور شاهين، كما يلاحظ انفتاح قطاع واسع من النخبة الإسلامية على الكتابات النقدية للجابري وأركون وحامد أبو زيد وغيرهم مع محاججتها عبر الحوار النقدي وليس بلغة الفتاوي كما كان الأمر سابقا. ألا يؤشر كل هذا على تحول يجري على مستوى المقاربات المنهجية لذوي الطروحات الإسلامية؟ وهل يمكن توقع استمرار عمليات النقد والمراجعة لتطال "الانفتاح" على المقاربات الحداثية كما تبلورت في التجربة الغربية؟


 


لا يمكن وضع كل هذه الأسماء والكتابات في سلة واحدة؛ على ما بينها من اختلاف، فالجهود النقدية داخل التفكير السياسي الإسلامي لم تنقطع عامةً؛ لعوامل عدة، بعضها يعود إلى الممارسة السياسية وإكراهاتها، وبعضها يعود إلى حيوية هذا المفكر أو ذاك وتقلباته كما نجد لدى حسن الترابي والغنوشي مثلاً، وبعضها يعود إلى أثر الصراعات والسجالات الفكرية والأيديولوجية التي دفعت إلى بعض التقارب ما بعد الثمانينيات.


أما بخصوص الحالة النقدية تجاه بعض العلوم الإسلامية فهي قد بدأت منذ زمن الإصلاحيين في القرن التاسع عشر في مصر وتونس والشام وقد شرحتُ هذا في دراسة لي عن "مشكلة العلوم عند الإصلاحيين"، وقد اتسع هذا النقدُ بعد خفوت النزعات الأيديولوجية وصراعاتها بين الإسلاميين والقوميين واليساريين وغيرهم، وقد تراكم لدينا نقدٌ معرفيٌّ جيدٌ مع تطور الدراسات في مجال القرآن والحديث والفقه بأثرِ من التفاعل مع الواقع ومشكلاته من جهة، وبأثر من تطور حقول الدراسات الإسلامية وفق منهجيات حديثة من جهة أخرى ومع بروز عقليات نقدية خصوصًا من قبل العقليات الأكاديمية الشابة من أبناء جيلنا في العقدين الأخيرين، رغم استمرار كتابات نقدية غير علمية كحديث البعض عن "جناية البخاري على الحديث" و"جناية سيبويه على اللغة" ونحوها من المحاولات المبتذلة من خارج الحقل العلمي، أما محاولات جمال البنا فهي لا تحظى باحترام علمي في الأكاديميا؛ لافتقارها إلى المنهجية وكثرة اضطراباتها.


وفي الجملة أفرزت كتابات الجابري ونصر أبو زيد وغيرهما تفاعلات نقدية وساهمت في تطور المعرفة، رغم أن الجابري مثلاً في العقل العربي يختلف عنه في تفسير القرآن وفهمه، ورغم أن الدراسات القرآنية الحديثة تجاوزت بمراحل كتابات نصر أبو زيد، ولكنها كانت مهمة في حينها، فهذا شأن المعرفة نامية ومتطورة، وباب النقد يتسع بالتراكم واتساع أفق النقد وأدواته.


 


  • هناك من ظل يراهن لعقود على دمقرطة الأنظمة السياسية والإدماج السياسي للقوى الإسلامية من أجل دفعها إلى إعادة قراءة المفاهيم الشائعة حول الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة وغيرها، فهل هذا الرهان لازال قائما بعد انبعاث الفكر الجهادي من ركام القراءات الحرفية للإسلام؟ وهل من شأن الاحتدام السياسي بين القوى الإسلامية والعلمانية في دول الربيع العربي أن يفرز توافقات سياسية تنعكس على الرؤى الفكرية من خلال مباشرة وتعميق التأصيل في الحقوق والحريات ذات المصدر الليبرالي وكذا تجديد النظر في قضايا المرأة والمواطنة والمجتمع المدني وغيرها من منتجات الثقافة الحديثة؟


الفكر الجهاديّ لم ينبعث من فراغ، وكان قد شهد خفوتًا مع ما بدا أنه نجاحٌ للأدوات السلمية والتظاهرات الشعبية في عملية التغيير، فحين تُثبت السلمية نجاعتها يفقد الخطاب الجهاديّ مشروعيته وجاذبيته، ولكن ما جرى من إقصاء لتيار الإسلام السياسي بأدوات غير ديمقراطية - وهي تجربة متكررة -  أعطى زخمًا كبيرًا لصعود المشاريع الجهادية والعنيفة، وخصوصًا مع تصاعد وتيرة عنف الأنظمة السياسية كما سوريا، فالفكر الجهادي يتمدد ويجد بيئته في ظل فشل الدول من جهة، وفي سياق القمع السلطوي وفشل الأدوات السلمية في إحداث التغيير المنشود.


وما جرى في مصر من تأييد ما سمي بالقوى المدنية للحكم العسكري والخروج على العملية السياسية وأدواتها سيترك أثره السلبي في المستقبل على مسار الديمقراطية وقيمها ومسائل الحريات والحقوق في المجال العام، أما على المستوى النظري فقد راكم الفكر الإسلامي الكثير من الأدبيات والتنظيرات الفكرية والفقهية حول الحقوق والحريات، ولكن يبقى الإشكال الحقيقي في تحويلها إلى ممارسة حقيقية في ظل ظروف معقدة من الاستبداد السياسي السلطوي ومع فشل كثير من النخب المدنية في أن تُظهر قناعة حقيقية بتلك القيم نفسها كما بدا جليًّا في مصر مثلاً.


 


  • أدى ظهور تنظيم الدولة "داعش" إلى انبثاق رؤى نقدية من داخل المنظومة السنية تفسر مسؤولية ما يقع بعوامل ذاتية، أي ترجعها إلى مضامين النصوص التراثية؛ ألا يعني هذا أن مشكلة تسييس الدين، والإنتقال به من السياق الثقافي إلى التوظيف الايديولوجي، يعود لقابلية الثقافة الإسلامية للأدلجة ما دامت تبيح للدين حق التدخل في السياسة ومراقبتها؟


إحالة ظواهر العنف كلها - إسلامية وغير إسلامية - إلى النصوص نظرٌ شديد القصور، فمعنى ذلك أن النصوص الدينية أو الفقهية تولد - بذاتها – مثل تلك الظواهر وبشكل تقنيّ وهو غير حقيقي وخلاف الواقع، فظواهر العنف السياسي المنظم ظواهر حديثة فيما النصوص قديمة، ثم إن الإحالة إلى النص لا تفسر لماذا لم تُنتِج النصوص مثل هذه الظواهر في كل مكان وزمان ومع الجميع؟. هناك عوامل مركبة تشمل الفاعلين وتكوينهم الاجتماعي وبيئاتهم وتجاربهم وبناءهم النفسي، كما تشمل تعقيدات الفعل والانفعال، بمعنى هل هؤلاء الأشخاص هم نتاج البيئة أم مؤثرون فيها ومساهمون في صياغتها وصناعة ظروفهم، أو هما معًا؟. فالأفكار تتشكل في سياقات مركبة تؤثر فيها وتتأثر بها في عملية معقدة لا ينفك فيها النص عن الواقع، بغض النظر عن أيهما أسبق في ذهن الجهاديّ: النص أم الواقع؛ لأن هذه الأسبقية تؤثر في تحديد طبيعة ونوع العلاقة بالنص وبالواقع هل هي علاقة صدور عن النص أم هي عودة شعائرية إلى النص، وهل النص حاكم أم مجرد غطاء يُتَوسَّل به من أجل الشرعية الدينية، ولكنها - الأسبقية - لا تؤثر في أن الناتج هو مركّب منهما ونتاجُ تفاعل بينهما؛ وفق شروط خاصة بعضها نفسيّ.


 


  • كيف تفسر ظهور السلفية الجهادية؟ وكيف تفسر الهجومات العنيفة لرموز التيار السلفي كأبو قتادة وأبو محمد المقدسي على تنظيم الدولة؟


 


نشأت السلفية الجهادية في سياق مركّب لا يقر بشرعية ما نشأ بعد سقوط الخلافة ونشوء النظام الدولي، ولا يعترف بالأنظمة القائمة التي يرى أنها فرَضت قيمًا مغايرة لقيم المجتمعات خالفت العقيدة التي تحكمها، وضيّعت المقدّرات ونشرت المظالم، والمشروع الجهادي عامة سواءٌ في هذه الرؤية.


فمشروع الجهاد العالمي يقوم على "الحكم بما أنزل الله" وأن باقي المشاريع الأخرى التي تتوسل بالسياسة والسلمية على ضلال، وتبدأ المنظومة الجهادية بمسألة التكفير أولاً، وعنها يتفرع تكفير الحكام الذين يحكمون بالقوانين، وتكفير الراضين بذلك، وتكفير من لم يكفّر هؤلاء جميعًا، كما أن البلدان التي تحكم بالقوانين تصبح كلها دار كفر، فيعود الإسلام غريبًا وتعود "حروب الردة" سيرتها الأولى ويجب الجهاد الذي يتحول - معهم - إلى ركن من أركان الإسلام. في المرحلة الثانية من المنظومة يأتي السلوك الواجب على الطليعة الجهادية المؤمنة، وهو الخروج على الحكام الكفار وقتالهم بغض النظر عن القدرة، وفي المرحلة الثالثة يتم النظر إلى كل أحكام هؤلاء الحكام الكفار على أنها ساقطة وغير معتبَرة شرعًا، فلا تعود تنطبق عليهم أحكام "الإمامة" في الفقه الإسلامي، فتسقط كل أحكام الذمة ودار الإسلام والمعاهدات والقوانين وكل المنظومة السياسية المعاصرة، وفي المرحلة الرابعة يأتي إقامة الحكم الإسلام وتطبيق الشريعة ونَصْب الخليفة الشرعي.


هذه المنظومة لم تكن لتستقيم على هذه الصورة دون الطعن في عامة العلماء والمؤسسات ومصادر العلم الإسلامي والعودة المشوهة والانتقائية إلى الكتب، واتخاذ فقهاء مخصوصين من خارج النظام الفقهي، وبما أن المنظومة الفقهية الإسلامية لا تُسعفهم في هذا البناء تجدهم حريصين على الكتابة في فقه الجهاد بصورة مختلفة وبطريقة شديدة الانتقائية.


 


  • أليست مرجعية داعش من صنع تلك الرموز نفسها؟ ثم أليس الخلاف في الحقيقة لا يمس المرجعية الفكرية بحد ذاتها بقدر ما يهم الاستراتيجية الجهادية على الأرض وسياساتها التكتيكية؟


 


أبو قتادة وأبو محمد المقدسي لا يجادلان في أصل مشروع الدولة الإسلامية وإنما في تفاصيله الإجرائية وكيفية تحقيق الخلافة، فهما يرون أن تنظيم الدولة انحرف وتَفَلّت من قيود العمل الجهادي وخرج على سلطة فقهاء القاعدة، ونحن نرى أن تنظيم الدولة هو تطور داخل العالم المفاهيمي للجهاد العالمي وانفلات من القيود المفروضة من القيادة المركزية؛ تجاوبًا مع الإمكانات التي يتيحها المشروع الجهادي نفسه وما تفرضه التطورات على الأرض، والاختلاف حول الوسائل الأجدى لتحقيق المشروع، بالإضافة إلى الصراع على الإمارة نفسها التي هي مركزية في المشاريع الحركية التنظيمية عامة. فلا يمكن لمسلسل الخروج عن "نظام الفقه الإسلامي" الذي بدأه فقهاء الجهاد العالمي أن يقف عند الحدّ الذي رسموه هم لأنفسهم وأتباعهم، فمنطق الخروج متسلسِل ويدفع إلى مزيد من التشظي، وهو ما عرفناه من تجارب هذه التنظيمات حيث تسيطر فيها الأفكار والتصورات دون القوالب التنظيمية وقيودها فتنفجر الحدود وفق شروط معينة.


 


  • تستمد السلفية الجهادية مقومات تصورها الايديولوجي من خليط غير متجانس يجمع بين الاجتهادات الفقهية لعلماء الدعوة النجدية، وتنظيرات سيد قطب الجهادية وتأصيلات ابن تيمية العقدية، ألا ترى أنه بناء نظري هجين؟ وأن نقد الفكر الجهادي لازال حبيس نتائجه السلوكية دون القدرة على التسرب إلى منطقه الداخلي وتفكيك مفاصله؟ 


 


لا يمكن تجاهل أن الإخوان المسلمين هم من بدؤوا تشكيل المذهبية السياسية للدين حين حاولوا أن يعوضوا غياب الخلافة التي سقطت بمشروع الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة تمهيدًا لاستعادة الخلافة، ثم سعَوا إلى بناء النظام الإسلامي الشامل الذي يَقطع مع الأنظمة السائدة في مختلف المجالات، إلا أن تلك الأفكار سَرَت وانزلقت إلى مشروع الجهاد العالمي؛ ولكن بأدوات وأساليب مناقضة لما رجاه الإخوان، وعبر وسيط إخوانيّ هو سيد قطب الذي طرح أفكار الجاهلية والحاكمية وتكفير المجتمعات؛ نظرًا لغياب المعنى الحقيقي لشهادة التوحيد التي لا تتضمن توحيد الله في التشريع الذي أضافه الجهاديون إلى أنواع التوحيد التي قررها ابن تيمية فأصبحت ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد التشريع، وسيدٌ شكّل مَعينًا لكل الفكر الجهاديّ بدءًا من عبد الله عزام والظواهري ووصولاً إلى جبهة النصرة وفقهاء تنظيم الدولة.


ولم أقرأ نقدًا متينًا للفكر الجهاديّ، فالنقد الذي قرأته محكومٌ إلى التفكير الفقهي التقليدي الذي يُغرق في النقاش الفقهي الجزئي دون أن ينفذ إلى تفكيك الرؤى والتصورات الكلية، فلا تزال أطروحات الجهاديين وردود بعض المشايخ عليهم يكتنفها الغموض والإشكال حتى ظن البعض أن المشكلة في النص الفقهي نفسه، دون وعيٍ بأن المشكلة تكمن في تحولات النظام بشكل مفارق للنظام الذي تَرَكّب عليه النظام الفقهي الموروث فافترقا مع نشأة الدولة الوطنية الحديثة، وكل هذه التشوهات القائمة ناتجة عن هذا الانفصام.


وحتى لو مشينا على النظام الفقهي الموروث فهو مُفارق لما تصوره الجهاديون كليةً، فـ"الحكم بما أنزل الله" ليس له حكم عامّ في الفقه، ولذلك قيل لابن عباس: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: "كفره ليس كمن كفر بالله واليوم الآخر"، وعن عطاء بن أبي رباح قال: "كفرٌ دون كفر، وفسقٌ دون فسق، وظلمٌ دون ظلم"، وقال طاووس: "كفرٌ لا يُخرج من الملة"، كما أنه لا ملازمة في الشريعة بين التكفير كشرط للإيمان وبين سلب الكافر حقوقَه. فالفقه الإسلامي يقرّ بشرعية الحكام إذا وصلوا إلى الحكم بواحد من ثلاث طرق: الاختيار، أو البيعة، أو التغلب (كإضفاء شرعية على أمر وقَع لا يمكن دفعه، لا كتشريع للقيام بالتغلب)، وأن الحاكم لا يكفر إلا إذا صدر عنه كفرٌ بَوَاحٌ لا يحتمل التأويل، وأما ما يصدر عنه من أحكام فإن وافق الشرع وجب الالتزام به، وإن خالف فلا طاعة له ويُنكَر عليه ذلك التشريع المخالف وفق قواعد الأمر والنهي في الفقه الإسلامي.


وأما الجهاد، ففي المذهب الشافعي - الذي يُعتبر الأكثر تشددًا؛ إذ يرى أن علة الجهاد هي الكفر - أن الجهاد واجب وجوب الوسائل لا المقاصد؛ وبخصوص تطبيق الشريعة فهي تختلف عن الفقه الإسلامي، فالشريعة هي أحكام الله المنصوصة القطعية الدلالة التي أجمع العلماء على أنها من أحكام الله التي لا تتغير، أما الفقه فهو نتاج بشري وهو تفسير للشريعة وخاضع للجهات الأربع: الزمان والمكان والأحوال والأشخاص. فالأحكام الشرعية إما أن تكون منصوصة بأدلة القرآن والسنة، سواء كانت دلالتها قطعية أو ظاهرة، وإما أن تكون من فهم المجتهدين للوقائع الجزئية عن طريق إدخالها في نصوص القرآن والسنة بالاستدلال، وهذا تختلف فيه أنظار المجتهدين ويسميه الفقهاء "تحقيق المناط"، وقد يُجمع الفقهاء في عصر على حكم مبني على واقعٍ معين ثم يُجمع غيرهم لاحقًا على حكم آخر؛ لتَغَير الواقع الذي بُني عليه الحكم الأول، فنقول: إن تحقيق المناط اختلف، وإنه اختلافُ عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.


 


  • هناك من يراهن على البعد الصوفي من أجل تطويق الفكر المتطرف، لكن ألا ترى أن مرجعيات التصوف رغم نهوضها على قيم التسامح والسلم والتعايش... فإنها متلبسة بأفهام لا تتلائم مع الثقافة الحديثة لقيامها على محورية الشيخ وكرامات الولي والايمان بالأقطاب...، وبالتالي فنجاعة التصوف في المعركة ضد التطرف ستكون على حساب معركة التنوير والعقلانية؟ أليس من الأجدى –في ظل هذه الظروف- تطوير مناهج التعليم الديني وتوسيع دائرة البحث وتعميقها في حقل الدراسات المصطلحية والمقاصدية مثلا؟


 


لا يمكن الخضوع لإكراهات الواقع السياسي في بناء سياسات تحكمية باختيار التصوف أو تعديل المناهج أو غير ذلك؛ لأن هذا من شأنه أن يُزكي التطرف نفسه؛ لأنه لا يتم في سياق معرفي بل سياسي، ثم إن حسابات الجدوى والنفع لا تشكل معيارًا في الاختيار والحكم في هذا السياق، فمشكلة التطرف أو العنف لا تُحل إلا بإزالة شروطها المركبة التي شرحناها هنا، ويأتي الشرط السياسي في المقدمة، فلا يمكن إيصاد الأبواب في وجه سبل التغيير السلمي ومراكمة الظلم والقمع ثم الحديث عن نشر فكر الاعتدال أو اللجوء إلى تعديل المناهج أو القول بالمقاصد، ولا يمكن استتباع المؤسسة الدينية وهدر حرية العلماء ثم ادعاء محاربة التطرف والدعوة إلى التسامح. فالواجب تجريد خطاب العنف من شروط إنتاجه السياسية والاجتماعية والدينية وتجريده من مشروعيته وجاذبيته التي توفرها حالاتُ القمع واليأس من التغيير.

وبالنسبة للتصوف فلا يمكن اختزاله بهذه الطريقة، فالتصوف تصوفات، يبدأ من التصوف الفلسفي وينتهي بالتصوف الطرقي وما بينهما، ولا تغني عقلانيةٌ عن روحانية ولا العكس، فالعقلانية بلا روحانية جفاء، والروحانية بلا عقلانية عَمَاء!.


حوار مع مجلة ذوات

نشر في العدد 6/ 2015


تاريخ النشر : 24-10-2015

6161 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com