-1- على شاكلة ما قيل عن ميكافيلى في أنه كان يكتب نصيحته ظاهريا للملوك في حين كان في الحقيقة يعطي دروسا للشعوب، يمكن أن نفترض أن لكتاب محمد الحاج سالم عن الميسر الجاهلي، هو الآخر، ظاهرا وحقيقة. ذلك جانب مما تثيره قراءة كتاب: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى الصادر سنة 2014 عن المدار الإسلامي ببيروت.
ندرك جانبا من هذا المعنى من مقدمة هذا الكتاب الضخم( 797 صفحة دون احتساب المصادر والمراجع والملاحق والفهارس والمفاهيم) حيث نقرأ أن الدرس الفلسفي المعاصر " يعلمنا أنه ما من شأن سياسي في تاريخ الإنسانية إلا وهو مدموغ بطابع ديني وما من حدث سياسي إلاّ ويحمل في أصله أو في هدفه أو خلال مساره فكرة دينية، حتى تلك الأحداث التي يدّعي الفاعلون فيها أو يريدون إظهارها بمظهر مضاد للشأن الديني نفسه". هذا الإعلان يشي ابتداءً بأن المؤلف له رؤية مميزة ومنهجية خاصة لمعالجة انبثاق الانتظام السياسي الأول للمسلمين.
لهذه المقاربة أكثر من معنى:
هي دالة أولا على حتمية تجاوز المنهج الشمولي التجريدي الذي يتعاطى مع الظاهرة التاريخية في كليتها وضمن إطار نظري جامع مُعرضا عن الواقع الاجتماعي بمؤسساته وآلياته.
من جهة ثانية فإن هذا المسعى الإناسي الحريص على رصد البُنى والمؤسسات العربية القديمة في حراكها وغاياتها الاجتماعية-السياسية ومعرفة ما واكب ذلك من تصورات واعتقادات وطقوس تشخيصا لطبيعتها ومآلاتها هو الأقدر على فهم ما وقع فعلا في لحظة مفصلية مؤسسة من التاريخ العربي وفي غياب لافت للمستندات الأركيولوجية والكتابات والنقوش.
-2- من جهة ثالثة فإن المقاربة الأنتروبولوجية، لمسار جزئي خاص بالميسر وبالزكاة وما قام به الإسلام من تحريم للأول وتركيز للثاني تساهم بصورة نوعية في رفع جزء لا يستهان به من الغموض المتصل بمعنى الميسر والزكاة وأثرهما في تكوين الدولة الإسلامية الأولى. ذلك أن تحريم الميسر، إذا ما أدركنا طبيعة هذا الأخير الدينية والاجتماعية والسياسية يتيح الكشف عن جانب من الآليات والمسالك التي اتخذتها حركة الواقع والتي يسّرت التحوّل من وضعها " الجاهلي" إلى انتظامها "الإسلامي".
ما لا يخفيه الحاج سالم هو الإسهام في الإجابة عن الحدث الإسلامي السياسي المؤسس: هل كان من خلال نشوء الدين الجديد وأنه أدى إلى ازدواجية بين النظام القبلي ومنظومة الدولة الناشئة أم أن الرسالة الدينية أحدثت تحولا جذريا للحياة الاجتماعية-السياسية بما أنهى النظام القبلي في أخص مقوماته وأرسى دولة قادها الرسول بنفسه أم أن الأمر يعني شيئا آخر؟
لمواكبة هذا الهمّ المعرفي ينطلق الفصل الأول من الكتاب من تحديد معنى الميسر والقمار ورفع الغموض المحيط بالأول ولما لحقه من تشويه باقترانه بالثاني. بحفريات شيقة وموثقة ينتقل بنا البحث عن طبيعة الميسر بسعي تحليلي للشعر الجاهلي والأمثال والقصص والمقارنات اللغوية لضبط الدلالات الخاصة بالاستقسام والأزلام والأنواء والأسواق ومجالس الخمر مع ما يقاربها خارج فضاء الجزيرة العربية لدى الهنود الحمر وجزر المحيط الهادي. إلى هذا اهتم المؤلف بالجانب الديني القديم، آلهته ونجومه وأنصابه وذبائحه وما تحيل عليه من معتقدات ورموز وتصورات وما تعنيه من احتياجات اجتماعية واقتصادية وروحية معززا ذلك بالتحرّي في وقائع تاريخية وما يرتبط بهذا النسيج من دلالات سياسية.
بهذه المقاربة ووفق نظرية الصيغة البنيوية في علم النفس الإدراكي يتبدى لنا الميسر متجاوزا بصورة كاملة ونوعية ما أقرّه التعريف الفقهي المكتفي بظاهر التحريم والمراوح بين كونه قمارا أو ضربا من "المغالبات التي يكون فيها عوضٌ من الطرفين" أو " كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة".
ما ينتهي إليه الباب الأول بفصوله الأربعة يقطع مع هذا التبسيط الذي انحسر فيه الميسر في" ضرب بالقداح على الأموال والثمار" مصحوب بالشراب والصياح ومفضٍ إلى أكل أموال الناس بالباطل.
-3- قراءة الحاج سالم تعتبر أن الميسر استُهدِف قرآنيا لأسباب أخطر. إنه تصدٍ لطقس وثني استسقائي وممارسة اجتماعية تقوم على لعبة تنافسية ذات قواعد تُنحر فيها الإبل المتراهن عليها في زمن القحط لتقدم دماؤها إلى الآلهة وتوزع لحومها على الفقراء حماية للقبيلة بما يحفظ كيانها ويقيها من كل عدوان خارجي.
لمواصلة الحفر الاستقرائي يتجه اهتمام محمد الحاج سالم في الباب الثاني من كتابه بالأبعاد الدينية والاجتماعية للميسر من منظور ثلاث مسائل تاريخية ثقافية هي:
- مدى تديّن عرب الجزيرة، قبل الإسلام؛
- طبيعة الديانة العربية " الجاهلية"وخصائصها ومقوماتها؛
- تشكّلُ وظيفة الميسر ضمن المنظومة الاعتقادية والتصورية للعرب القدامى وتحقق فاعليتها المجتمعية.
من خلال هذا يتبيّن أن الميسر الجاهلي نظامٌ كامل مركّب: هو طقس ديني - سحري مرتبط زمنيا بغياب نجم الثريا يتطلب النحر وإسالة دماء الإبل استسقاء واسترضاء للقوى العلوية. هو في ذات الوقت وليمة جماعية تمليها كل مسغبة لإغاثة فقراء القبيلة إثباتا لمن تصحّ زعامته فيها. لكنه أيضا تحطيم فائض الإنتاج في الإبل الذي لا تتمكن الجماعة من إعادة إدخاله وتوظيفه ضمن الدورة الإنتاجية بما يمثّل خطرا على كيانها الاجتماعي الرافض للفوارق الطبقية.
على هذا يضحي الميسر مؤسسة تضامن مجتمعي ذات أساس صابئي يتنافس فيه وجهاء القبيلة بلعب له جملة من الضوابط التي أرساها الأسلاف إحكاما لقواعد الانتظام. هو في منتهاه ترياق يكرّس التلاحم العصبوي داخل القبيلة الواحدة بحمولة دينية تسترضي الآلهة طلبا للغيث وحرصا على الخصب.
في الباب الثالث يوغل الكتاب مع ما يحيل عليه موضوع الغيث والاستمطار من المنظور الإناسي للميسر من تمثلات قديمة للنسق المغلق الخاضع للآلهة ومقتضياتها المثالية في أوقات معلومة مع ما فيه من حمولة جنسية رمزية. عندها يبرز ما ينطوي عليه الميسر من دلالات و تمثلات تجعله أحد طقوس الخصب عند العرب الغابرة بما له من جذور اسطورية يُستذكر فيه الزواج البدئي وما يحيل عليه كل زواج من طلب للخصب والازدياد.
يتوسع الحاج سالم في هذا الحقل المزدحم بالرموز المقدسة ضمن اعتقاد دهري يعتبر أن الآلهة هي التي تصنع الأحداث. وفق هذا الاعتقاد تكون منظومة التماثل الرمزي دالة على أن ما يجري في السماء له أثر نظير في الأرض وأن كل خلل طارئ على الحياة يستلزم "علاجا" استرضائيا يرأب صدوع النسق المُختلّ. على هذا يكون الميسر أحد العلاجات الهامة التي تتلاقى فيها فحول الإبل بالنوق في موسم ضرابها وتزاوجها متساوقة مع ما تماثله التفاصيل العملية والجزئية للعبة "الميسر" سواء في أدواتها أو حركاتها أو نتائجها وأطرافها.
بؤرة هذا المشهد المكتض في زمن القيام بهذا الطقس تتعيّن في محورية المرأة وصلتها بالقمر، آلهة الخصب، والدورة الشهرية و العود الأبدي للتقويم. بذلك تلتقي المضامين الدينية والتصورية والاحتياجات الواقعية بما ينجم عن ذلك كله من فعل إخصابي هو ذروة هذا المشهد البانورامي لمسرحة الجنس لدى العرب الدهريين.
-4- مع الباب الأخير من الكتاب نصل إلى "مربط الفرس". هو الأطول مقارنة بما سبق من الأبواب والأهم منهجيةً ومضمونا لكونه يتوّج تركيبيا ما وقع عرضه وتحليله في الأبواب الثلاثة السابقة. كل ما قُدِّم من تفاصيل خاصة بحقيقة الميسر وما يتطلبه من لوازم وتقنيات ثم ما تلاه من رصد وتحليل لأبعاد الميسر الاجتماعية والدينية وما تبعه من أبعاد رمزية وجنسية، كل هذا كان تجسيدا لصيرورة الميسر سياسيا.
يستعيد الحاج سالم في ذلك مقولة الدرس الفلسفي الآنفة من "أنه ما من شأن سياسي في تاريخ الإنسانية إلا وهو مدموغ بطابع ديني" وهي المقولة التي تمكّن من تفهّم دينامية المنظومة العربية القديمة في تكامل جوانبها العقدية والاجتماعية والرمزية وفي تلاحمها بالسياسي. إناسيا، البعد السياسي للميسر هو الكُلّ الذي تتكيّف وفقه بقية الأجزاء والأبعاد وهو الذي يكشف المنطق الثاوي وراء كل ما سبق تناوله في أبواب الكتاب. إنه البعد الأقدر على تعقّل المجتمع القبلي وهو يشتغل ليرفض ظهور أي سلطة تهدد كيانه الذي لا يقرّ إلا بسلطة الأجداد.
على هذا تتركز الأبعاد السياسية للميسر في أنه إِوالِيَّة وبنية نموذجية ذات وظيفة وغاية محددتين تحول دون قيام "الدولة" لدى العرب في انتظامهم القبلي القديم. مؤدى ذلك أن الاجتماع العربي ظل رافضا لمبدأ قيام الدولة بما توفَّر لديه من "ميكانزمات" تفعّل ممانعته وقد كان طقس الميسر من أهم تلك الإواليات. ذلك تحديدا ما جاء الإسلام لنقضه وتحريمه لكون الميسر ظاهرة"لَقَاحيّة" تكرّس تفتّت المجتمع وتعزّز القبليّة، ولأنه تدمير للثّروة وتذرير لها مما يمنع بناء تكتلات اجتماعية- سياسية متعالية على القبيلة ومهددة لها.
مقاربة كتاب الحاج سالم في هذا تستفيد من عالم الأنثروبولوجيا السياسية "بيير كلاستر" (Pierre Clastres) في دراسته لمجتمعات ما قبل الدولة حيث يرى أن الدولة لا يمكن أن توجد إلا من خلال وجود تقسيم في المجتمع بين مهيمنين وخاضعين يفضي إلى حصول نصاب سلطوي مستقل عن المجتمع.
في ضوء ذلك يصبح لتحريم الميسر غايات أبرزها التمكين لقيام دولة ذات سلطة مركزيّة موحّدة ما فوق- قبلية مع استبدال النظام القديم بنظام الزكاة الذي ينمّي الثروة محققا تضامنا مجتمعيا. ضمن هذا المسار الجديد يمكن إنشاء نمط اقتصادي قابل للتطور وإرساء منظومة قيمية وثقافية يصبح فيها الإنسان، لا الآلهة، هو الذي يصنع الحدث ويفعل في التاريخ.
بهذا تتضح عناصر الأطروحة التي يشتغل عليها الحاج سالم في مسعاه الإناسي الخاص بعلاقة الميسر بالزكاة ولماذا كان تحريم الأول مفضيا بالضرورة إلى فرض الثانية؟:
1- ماكان لرسالة الإسلام أن تتجسد واقعا تاريخيا لا مردّ له إلا عند كسر كامل منظمومة النسق " الجاهلي"، عقديا واجتماعيا ورمزيا وخاصة سياسيا. هذا ما دفع المسلمين الأوائل للهجرة من مكة، حيث كانت الدعوة دينية خالصة، إلى المدينة، حيث الاقتدار الفعلي على مواجهة كامل المنظومة " الجاهلية" بمنظومة بديلة متكاملة.
2 – تَعتبر قراءةُ الحاج سالم للميسر أنه لم يكن هناك فكاك، في السياق العربي القديم، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية وأن هذا التلازم ظل مستمرا بعد ذلك لكن بصور ونِسَبٍ مختلفة من التمايز بين الحقلين الديني والسياسي.
3- يتبين، نتيجة ذلك، أن فرضية الحاج سالم الخاصة بتكوين الدولة الإسلامية الأولى تتحدد في أن رسالة الإسلام أحدثت ثورة جذرية في الحياة الاجتماعية-السياسية للعرب أنهت النظام القبلي، نظاما سائدا وشاملا، لتقيم مكانه نظاما جديدا مغايرا بالكلية.
-5- ما يستقر في وعي القارئ من كل فصول كتاب محمد الحاج سالم هو الأهمية البالغة لعلم الإناسة السياسية خصوصا في إسهامه النوعي ضمن أي جهد معرفي نقدي وبنائي. من هذه الناحية، جاء عمله البحثي، أقرب إلى رسم المنمنمات، إذ تضافرت فقراتُه ومقاطعه وفصوله لتلتحم فيما يشبه صورا تشكيلية إيضاحية تكثّف وقائع تاريخية وتتمثل نصوصا وعقائد وتصورات ورموزا لتصوغ منها ترسيمةً مركّبة تدعو للتأمل والمراجعة والتسديد. بذلك يفيدنا الحاج سالم، "رسّام المنمنمات"، أن الانثروبولوجيا ليست مقتصرة على متابعة الحركات الكبرى على السطح بقدر ما هي عمل استقرائي دقيق وجريء يلج إلى تشعبات حقائق الواقع بما يمكّن الباحث من اكتشاف التشابكات المعقدة والمتحركة التي تسمح ببناء فهم عميق وناظم لاختلاجات المجتمع وحراكه ودلالات كل مظاهر أدائه وإيقاعه.
لكن الكتاب، من ناحية ثانية ورغم انكبابه على الواقع العربي القديم وسعيه لفهم ما جرى آنذاك، فإن راهنيته لا تكاد تخفى. هو لذلك قريب من صاحب كتاب" الأمير" إذ أنه وإن اشتغل بالحدث الإسلامي السياسي المؤسس: طبيعته والتحولات التي انخرط فيها أو أنشأها لكنه شديد الانشغال بمعضلة الدولة العربية ومصاعبها الجمّة والمتفاقمة.
في هذا يتبدّى الحاج سالم مناهضا لصنفين من المشاريع المعاصرة الخاصة ببناء الدولة الوطنية. هو رافض بالأساس للمشروع الذي يتمحور فكره وعمله حول مقولة " الدولة الدينية أو الإسلامية". في تقديره هي مستحيلة لأنها تستحضر سلطة دينية دون اعتبار السلطة السياسية ومستلزمات سياقها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. في ذلك هي مُعرضة عن الـ"درس الأنتربولوجي" وعن كل قراءة علمية وتاريخية لما وقع في السياق التأسيسي للانتظام السياسي للمسلمين.
إزاء المشروع الثاني، أكثرُ من قرينة تدل على احتراز الحاج سالم من موقف المثقفين والسياسيين الذين يتمحور فكرهم ونشاطهم حول قضية "الدولة العلمانية" اليعقوبية. ذلك أن إرادتهم القطع بين الحقلين الديني والسياسي تجاهل للبحث الإناسي وإحجام عن بناء حداثة سياسية عربية فاعلة ومتحررة من الاتباع والتبعية. مؤدى ذلك ضرورة تجاوز الوعي المفوَّت الذي لا يبني وعيا جدليا مع التاريخ الخاص للحضارة العربية الإسلامية بما فيها من تلازم وتمايز متجددين بين الحقلين الديني والسياسي.
يمكن القول، ختاما، أن سعي محمد الحاج سالم لإعادة صياغة إشكالية الديني والسياسي في الإسلام الأول وفي إعادته طرح السؤال الأهم الذي لم تتم الإجابة عنه إلى اليوم يقترح أطروحة ومشروعا. وفق هذه الأطروحة ليس البحث في "لماذا كانت الدولة الإسلامية" بل هو: "كيف انبثقت تلك الدولة وكيف تطورت إشكالية الديني والسياسي عبر العصور"؟
مقتضى هذا الطرح اليوم يتعيّن في وعي بأن علاقة الديني بالسياسي لدى المسلمين ذات طبيعة إشكالية أي أنه ليس لها حلٌّ ناجز ونهائي بل إنها علاقة قابلة للتجدد الدائم فهي لا تعني القطيعة بل تقوم على قدر من التمايز المتغيّر. عماد ذلك تعاطٍ علمي للـ" الإسلاميات التطبيقية" التي طالما دعا إليه محمد أركون. في هذا يُعتبر كتاب "من الميسر الجاهلي" نموذجا جيدا لهذا المجال المنشود والواعد.
تاريخ النشر : 11-12-2015
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.