نشر د. عبد الصبور شاهين منذ ما يقرب من العقْدين من الزمان بحثا حاول فيه التوفيق بين بعض النصوص القرآنية وبعض الاكتشافات العلمية المتعلقة بكائنات عاشت في أزمان سحيقة تسبق التاريخ المعروف. سعى د. شاهين للتفريق بين "البشر" و"الإنسان"، على اعتبار أن الأول اسم لجنس يزيد في عموميته على الإنسان الذي هو (أي الإنسان) أبو "السلالة البشرية" التي ننتمي إليها.
على الرغم من وعي د. شاهين الواضح بطبيعة العلم الحديث، إلا أنه لم يحسن عرض طرحه، ولم يستطع تأصيل أفكاره تأصيلا علميا بقدر ما يمكن لذلك التأصيل أن يتحقق. كما حوّل تركيزه على قضية التفريق بين دلالة كلمتي "البشر" و"الإنسان" في القرآن طرْحَه إلى قضية لفظية وصرف النظر عن مضمونها الأصلي. والواقع أن افتراض د. شاهين أن القرآن يدعم طرحه افتراض غير لازم، فقد كان الأحرى أن يسعى للتثبت من أن طرحه لا يصطدم بالضرورة بأي نص قرآني، بدلا من السعي لإثبات دعم النص القرآني لطرحه من خلال تفسيرات ظنّية لا دليل عليها وإطلاقِ الخيال لعنانه في مقام يحتاج فيه الخيال أن يظل محكوما بمعطيات العلم.
ولم تتسم الردود على طرح د. شاهين في مجملها بالعلمّية، بل قامت على نظرة تقليدية من اليقين الزائف، سواء في قراءة النصوص الدينية، أو في الإشارة إلى "الحقائق" العلمية المختارة بانتقائية لخدمة الغرض منها، أي توصيد الباب الذي حاول د. شاهين طرقه، بزعم التعارض المطلق لنظريته مع نصوص دينية يراها البعض قطعية الدلالة كما هي قطعية الثبوت.
كُشف في الأسابيع الماضية عن تطورات هامة تتعلق بقضية أصل الإنسان (أو البشر)، حيث نشر فريق من علماء الآثار والحفريات قبيل نهاية عام 2015 النتائج الأولية للبحث في هياكل عظمية لكائن أًسْمَوه "إنسان ناليدي" (Homo Naledi)، نسبة إلى المنطقة التي اكتشفت فيها الحفريات في دولة جنوب أفريقيا عام 2013. عُدَّ هذا الاكتشاف ضمن أهم الاكتشافات في مجال البحث عن أصل الإنسان الحديث (الإنسان الحالي، أو Homo Sapiens)، حيث أنه يمثل حلقة وصل هامة بين هذا الإنسان و"الرئيسيات" (primates) التي يشترك الإنسان مع بعض منها في ما يقرب من 99 في المائة من حامضه النووي (DNA).
ينطلق العلماء هنا بالطبع من افتراض صحة نظرية التطور التي قال بها العالم تشارلز داروين (ت. 1882) في القرن التاسع عشر، حيث دأب علماء الأحياء، منذ ظهور تلك نظرية، على البحث في الكيفية التي تطور بها الإنسان جسديا وعقليا ليصبح الكائن الذي نعرفه اليوم. وقد اكتشفوا في هذا الإطار مجموعة من الكائنات التي عدوها دلائل على ذلك التطور باعتبارها تنتمي إلى جنس البشر في مرحلة مبكرة لتطور الإنسان الحالي، حيث تشترك مع الإنسان في شكل الجسم وبنيته العامة، أو في قدرته على الانتصاب واستخدام يده في القبض على الأشياء والتحكم فيها.
وجدت أغلب هذه الحفريات البسيطة في دول أفريقية كأثيوبيا وتنزانيا وكينيا. نبه هذا العلماء إلى أهمية أفريقيا في مجال البحث عن أصل البشر (ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن المكان الذي حدث فيه الاكتشاف موضوع هذا المقال يطلق عليه "مهد البشرية")، وإن كانت بقايا الكائن الذي اعتبر الأهم في فهم تطور الإنسان الحديث وجدت في ألمانيا، وهو الكائن الذي أطلق عليه "إنسان ناندرتال" (Homo Neanderthals) وتشابه مع الإنسان في كثير من صفاته الفسيولوجية والأنثروبولوجية وعاش حتى ما يقرب من خمسين ألف عام مضت فقط.
يتمثل الجديد في الاكتشاف الحديث والضخم في حجمه (حوالي 1500 عظمة لذكور وإناث في أعمار مختلفة) في أن الكائن المكتشف له نفس شكل قدم الإنسان تقريبا، وهو ما يرجح أنه كان يستطيع الوقوف منتصبا والمشي مثل الإنسان، وإن كان أقصر قليلا من الإنسان متوسط الطول (إذ بلغ متوسط طوله متر ونصف المتر) وأقل وزنا (45 كيلو جرام في المتوسط). الأهم من ذلك هو أن ذلك الكائن كان حريصا، فيما يبدو، على دفن موتاه، حيث وجدت رفات الموتى مرصوصة بصورة منظمة ومقصودة على الأرجح، حيث لا تظهر آثار لحيوانات متوحشة قد تكون حملتها إلى داخل الكهف الذي تقع المقبرة في نهايته، أو مياه يحتمل أن تكون قد جرفت تلك الرفات إلى داخل المقبرة. ومن المعروف أن عملية الدفن طالما اعتبرت خصيصة إنسانية ترتبط بممارسات شعائرية وتقوم على الاعتقاد بوجود حياة أخرى بعد الموت. كما يعتقد العلماء أيضا أن ذلك الكائن استخدم النار كي يضيء الطريق خلال الممرات الضيقة التي تصل إلى المقبرة على بعد 90 متر من فتحة الكهف وعلى عمق 30 متر من سطح الأرض تقريبا. تظل هذه الأمور تكهنات أولية لفريق البحث تحتاج إلى دراسات طويلة لعلماء ينتمون لتخصصات مختلفة حتي يمكن الوصول إلى نتائج ترجحها أدلة مختلفة.
في ما عدا هذا، فإن الكائن المكتشف لا تزال أصابعه طويلة نوعا ما ومعقوفة، ما يدل على أنه كان يتسلق الأشجار كالقردة العليا اليوم (كالغوريلا وإنسان الغابة والشمبانزي وغيرها). الأهم من ذلك كله هو أن حجم جمجمته، وبالتالي مخه، لا يزال أصغر كثيرا من مخ الإنسان (يقارب حجم مخ الغوريلا). ومن المعروف اليوم أن حجم المخ يرتبط بالذكاء وبالتالي القدرة على تغيير البيئة المحيطة بدلا من مجرد التكيف معها، وهو ما يقوم به الإنسان بصورة شبه حصرية. وأخيرا، يجد العلماء حتى الآن صعوبة في تحديد الوقت الذي ربما عاش فيه هذا الكائن (وهذه أضعف جوانب هذا الكشف)، فبين ملايين أو مئات الآلاف أو ربما عشرات الآلاف من السنوات (أي أثناء وجود الإنسان الحديث نفسه)، تظل كل الاحتمالات مفتوحة، تماما كما تظل كل احتمالات دلالات وتوابع هذا الاكتشاف مفتوحة.
يتمثل الكشف الثاني في ظهور أدلة جديدة (تضاف على أدلة قديمة) على حدوث تزاوج بين الإنسان والناندرتال منذ ما يقرب من مائة ألف عام مضت. أثمر ذلك الزواج ذرية تمثل جذور أغلب البشر الذين يعيشون خارج قارة إفريقيا اليوم. تشتمل الأدلة الجديدة أساسا على بقايا جماجم يدل تحليل الحامض النووي لها وشكل الفكّ فيها على انحدارها من الكائنيْن معا بعد خروج الإنسان من موطنه الأصلي في قارة إفريقيا ووصوله إلى سهول أوروبا وآسيا حيث عاش الناندرتال. الخطير هنا هو عدم اقتصار هذه الاكتشافات والنظريات المفسرة لها على مجرد طرح احتمال أن الإنسان الحديث ليس الكائن البشري الوحيد (حسب استخدام د. شاهين للكلمتين)، ولكن في الاتجاه إلى قبول احتمال أن الإنسان الحديث نفسه قد يكون حاملا لأحماضها النووية ولو بنسب صغيرة.
قد تكون لهذه الاكتشافات الجديدة نتائج جد خطيرة للمشتغلين ليس في مجالات الأحياء والحفريات فحسب، ولكن في مجالات التاريخ والأنثروبولوجيا بل وعلم النفس والأديان أيضا. كما أنها تحيل مرة أخرى إلى طرح د. شاهين، ليس بهدف هدم نظريته أو الدفاع عنها، ولكن بهدف التفكير في قضية ستفرض نفسها حتما علينا. فلا يمكن أن تسير النظريات العلمية، على احتماليتها، في جهة، ونظل ننكر الحاجة إلى إعادة التفكير في فهمنا للنصوص. والواقع أن الاكتشافات الجديدة، حتى لو صحت النظريات التي تسعى إلى تفسيرها، لا تتناقض بالضرورة حتى مع الفهم التقليدي لبعض النصوص الدينية، ولكنها تفتح النقاش حول علاقة تلك الكائنات بالإنسان وما يستتبعه ذلك من إعادة النظر في تصورنا لمعنى "التكريم" الذي حظي به الإنسان وميزه عن غيره من الكائنات، و"الأمانة" التي عُرضت عليه فقبلها بظلمه وجهله. وربما لا تتجلى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" إلا باكتشافات لا تقدم بالضرورة إجابات بقدر ما تولّد لدينا مزيدا من الأسئلة.
تاريخ النشر : 03-04-2016
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.