يقرر إرنست ترولش أن الفكرة الدينية المسيحية تواصلت عبر أشخاص خاضعين لحتميات التاريخ والمجتمعات بخلق "محتويات ثقافية" متغيرة، ذلك أن بإمكان الظروف الاجتماعية والاقتصادية أن تحدث تحويرا في بعض نقاط "الفكرة المسيحية" التي لا تمثل الأساس(1)[1]؛ إننا نجد في هذا إقرارا صريحا بخضوع الديانة المسيحية إلى التحوير بفعل ما سمّاه ترولش بالخضوع إلى ظروف ثقافية ومادية، بمعنى أن تصبح الوقائع قاضية على النصوص المقدّسة مما يضطر الأشخاص لإعادة إنتاجها بالتصرف فيها فتتحول إلى مجرد اجتهادات بشرية سعى فيها رجال الدين لتكييف الدين مع مقتضيات المراحل التاريخية(2)[2].
وبالرغم ورود إشكاليات كثيرة بخصوص كيفية جمع القرآن وتوحيده تاريخيا، إلا أن النص الإسلامي المقدّس يحتفظ بإجماع شبه تام على نصه الأصلي، فلا أحد يقر بخضوعه للتاريخية إلا فيما يتعلق بالاجتهادات المصاحبة له والتي سعت وتسعى لتفسيره وتأويله حسب الظروف، ذلك أنها لم تضف على النص "محتويات ثقافية" جديدة، وأنه كان دائما انعكاسا ثقافيا وماديا لظرف تاريخي وجغرافي واحد تعين في لحظة انتقال مجتمع شبه الجزيرة العربية من الجاهلية إلى الإسلام بكونه "المحتوى الثقافي" الأوحد وبصفته مرجعية مثلى سواء بالنفي أو بالإيجاب(3)[3].
فعلى القرآن اليوم اتفاق شبه تام على وحدته النصية، إذ وبعكس تعدد الإصحاحات الإنجيلية والعهود التوراتية يحمل القرآن تعدّدا في القراءات لا يتجاوز نطق بعض الحروف والكلمات، وبشكل مقنّن وفقا لما يعرف بالقراءات، وهي روايات مثبتة ومتفق عليها، لا يتعدّاه إلى الاختلاف في ترتيب الكلمات فضلا عن ترتيب الآيات أو الإضافة إليها، ذلك أن الاختلاف لم يحصل إلا في التفاسير، فهل سيكون من الوثوق السلبي اليقين بما هو استقرائي محض؟ أعني كيف يكون الاعتقاد بسلامة نص القرآن وثوقية سلبية بينما هي حقيقة تبرهن عليها الوقائع التي تؤكدها تجريبيا المصاحف والتلاوات التي يردّدها يوميا ملايين المؤمنين من كل الأجناس والطبقات بما فيها النخب العالمة سواء بالدين أو بغيره؟ أفلا يكون هنا معنى "إجماع الأمة" مدخلا إلى التجريبية المحرّرة من كل وهم عقائدي ومحرّرا من المراوحة في النصوص لاتهامها بالضعف حينا وحينا آخر بعدم التناسب مع الظرف؟ ألا يصبح إنكار ثبوت النصوص هنا نصوصية معكوسة تحاصر نفسها بالتشبث بالرواية بينما الواقع التجريبي يثبت وبشكل مستمر عكس تقوّلاتها الصادرة عن أشخاص لا تثبت أهليتهم العلمية، لا بالمعنى التراثي ولا بالمعنى الحديث، لكونهم لا يقرّون بحقائق النص ولا بالحقائق التجريبية؟ ألا تكون مدرسية اليوم هي عين تلك العقائدية التي تحتكم إلى إنكار ثبوت النصوص ورواياتها والتي تفضي إلى العقم الروحي والعلمي معا؟
ذلك أنها وعوضا عن أن تدفع إلى استثمار أرقى تجارب البشر الروحية المدونة في القرآن والسنة نجدها تنكُص وتُنكّص بالمراوحة في إشكالات ليست مطروحة إلا في أذهان أصحابها ممن أصيبوا بإعاقات ذهنية مزمنة ظانين أنهم يحققون مناط العقل، بينما مناط العقل أن يشتغل على مضامين النصوص قرآنا كان أو أحاديث نبوية؛ فلنعرّج الآن إلى بحث إمكان الاستقراء في علوم الشريعة.
كما أن التجريبية لا تجرؤ على إنكار حقائق الطبيعة بل تجد أن من واجبها تلمّس جميع الوقائع التي بالكاد تُدرَك بالحواس في سبيل استكشاف نواميسها (قوانين الطبيعة) والعمل على إدراك مغازيها (فلسفة العلوم)، كان على التجريبية أيضا ألاّ تجرؤ على إنكار حقائق الشريعة بل أن يكون من واجبها تلمّس كل حقائق الشريعة في سبيل استكشاف نواميسها (قوانين الروح) والعمل على إدراك مغازيها (فلسفة التشريع)، وذلك على قاعدة أن منطلق الطبيعة والشريعة واحد هو الاستقراء، فما تفصيل أن تكون الشريعة استقرائية أو أن يكون الاستقراء تشريعيا؟
تقدّم القول بأن البرهان على حقيقة "محفوظية" نص القرآن برهان استقرائي حسي يقوم على الملاحظة المباشرة التي مفادها إجماع ملايين المؤمنين على وحدة النص(4)[4]، والمعلوم أن الملاحظة إن هي إلا بداية الطريق في المنهج العلمي، إذ بعد الملاحظة الخارجية يأتي الافتراض والتجريب؛ إذن فالملاحظة تنطلق من المتفق عليه مما هو بديهي لتنتهي إلى القانون العلمي الذي لا بداهة فيه، حيث الافتراض يكون مخالفا عموما للبداهة، لذلك كان الجواب هنا عن التشكك المطلق في إمكان البناء العلمي للحقائق، طبيعية كانت أو شريعية، بأن الملاحظة إنما تقوم على يقين الحس مباشرا كان أو غير مباشر، ومن ثمّ فمبدأ الملاحظة الإجماع أو قل "الحس المشترك" الذي سينتهي في الأخير إلى افتراض ونتيجة غير بديهيين، أي أن القانون العلمي الناتج عن التجربة لا يكون بديهيا، ولماّ كان القانون العلمي ضروريا لتحقيق المناط وهو تسخير الطبيعة فإنه يصير لا محالة أمرا بديهيا بعد تعميمه على الأقل عند المتخصصين، وبغض النظر عن هل أن تَبديه القانون العلمي يكون أبديا أم لا فإن المحور في كل القضية هنا هو البديهة، أعني أنها تكون المنطلق في البداية مع الملاحظة، وأيضا تكون هي الغاية في النهاية مع التعميم، إذن فلا نتخلّى عن البديهة إلا أن طرح الفرضيات فقط من أجل استبدال بديهة قديمة ببديهة جديدة، أو بتعبير أدق التخلّي عن البديهيات لبناء المسلّمات، ذلك أن البديهة معطى حدسي والمسلّمة معطى عقلي ناتج عن التجربة، ولنركّز هنا على قضية البناء، أي بناء المسلّمات.
المحصّلة أن المحفوظية قانون مستنتج من ملاحظة إجماع المؤمنين(5)[5]، وبه فإن المحفوظية تستنتج من الواقع الذي يثبتها لا غير، فلا عودة إلى النصوص وإنما وقائع ناطقة، هكذا لا يختلف قانون المحفوظية عن قانون ثبات المدارات الفلكية التي يكون خروج الحركة عنها شذوذا من قبيل الخسوف والكسوف أو علامة على فناء الكون، لذلك فلا يتصور إمكان نفي عالم الطبيعة لوجود مدارات فلكية حتى لو كانت غير مرئية، تماما كما لا يجوز نفي المحفوظية بوصفها أمرا لا يمكن إثباته نظريا، إذن فلابد من حدّ أدنى من المسلّمات يفرضه الكلام العلمي في شؤون الشريعة والطبيعة، على أن تكون مسلّمات ضرورية وتأسيسية في سبيل تحقيق بناء علمي مؤصَّل يسمح بتحقيق الكشوف التي هي عين التجديد سواء في العلمين الطبيعي أو الشرعي(6)[6].
والمحفوظية في النهاية ليست الغاية(7)[7]، بل هي مبدأ ضروري به تتبوأ الشريعة مكانة الطبيعة، فهما معا لا يتغيران، شكلهما بديهي ومضمونهما ليس كذلك، وأن غاية التعامل معهما من طرف الإنسان إنما هو استكشاف مجاهيلهما، وذلك معنى "المكنونية" الذي يصف النص القرآني به نفسه(8)[8].
وهنا تأتي مسألة الحديث النبوي الذي لا يفترق عن القرآن إلا في كونه يتطلب تحقيق المبدأ في كل مرّة، أعني التحقق في كل مرة من محفوظية النص قبل الإندراج في تفقه مضامينه(9)[9]، كما أن في التحقق من الأحاديث المنسوبة للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم عين الاستقراء، ومحاولة التخلص من السند لصالح المنهج انحياز إلى مثالية خالية من المضمون، إنما المثالية الحقّة تكمن في تتبّع الأسانيد، فهي مثالية عملية ملخّصها إدراك أهمية النصوص الواردة والتصدي لتمحيصها، والمبعث على ذلك كله شعور المحقق أن عمله المضني سينتهي به إلى إقرار حقيقة دينية نفيا أو إثباتا حتى أنه لينتحل بعد جهده مكانة المشرّع!
وعلى ذلك فإن الدخول إلى الشريعة بذهنية استقرائية ينفي كل وثوق سابق إلا ما تقدّم من استقراء حقيقة الاجماع على النص الذي يمكن التحقق منه في كل مرّة(10)[10]، والمعلوم أن الاستقراء في الطبيعة كان أم في الشريعة لا ينافي المسلمات فحسب بل ينافي البداهة أيضا، أي أنه يخترق الحجب الظرفية (ثقافية اجتماعية) والحجب الذاتية (منطقية بديهية) (11)[11]، ومآل ذلك أنهما صادران من مشكاة واحدة بوصفهما الملكوت الإلهي الذي لا ينضب، هكذا يغدو الاستقراء الجامع بين الطبيعة والشريعة مانعا من احتكام الآراء إلى برهان نصي سواء أكانت غايته الإثبات أم النفي.
[1] 1- أنظر مقال: ميشال مسلان، علم الاجتماع الديني وبنية المؤسسة الدينية، ترجمة: عز الدين عناية، موقع عابد الجابري.نت، شوهد بتاريخ 24/06/2016.
[2] 2- طبعا الإشارة إلى قضية محاولات تكييف النصوص وفقا للظروف التاريخية يمكن أن يعتبرها العقل البشري اجتهادات، وهي فعلا كذلك عندما نحددها بالقول بأن اجتهادات لتكييف وضع المؤسسة الدينية إما للحفاظ على المنحى الكهنوتي للتحكم في رقاب الناس وإما من أجل تحصيل مصالح نفعية مباشرة لرجال المؤسسة الدينية، بينما يصف القرآن تغيير مضامين الكتب السماوية السابقة بالتحريف وإفساد الحقيقة الأصلية للدين {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين} النساء الآية 46.
[3] 3- نص القرآن يكشف بشكل صريح عن البيئة التي نزل ضمنها فهو أحيانا ينكر عليها أو يقرر ما فيها، كما أنه نفس النص الذي يتلى اليوم في عهد ناطحات السحاب والتقنية الفائقة، وفي نفس الوقت نجد ذات النص يؤكد صلاحيته لكل الأزمان وأنه لم يفرط فيه من شيء، ومن ثم فهو يطرح على الإنسان المعاصر تحديا جديدا لم يكن من قبل مفاده أنه عليه أن يستخلص منه الكليات التصورية والسلوكية بمعنى أن يعمل العقل في افتكاك حقائق الشريعة ويميز بين الثابت والمتغير فيها على أن يكون منهج الانتقاء مستقى من روح القرآن ذاته، ومن ثم يكون تعقّل الإنسان المعاصر للقرآن تعقّلا مضاعفا فمن جهة تمييز الثابت والمتغير فيه ومن جهة أخرى أن يكون ذات التمييز نابعا من روح القرآن ذاته، وذلك ما يعني أن يشترط في الإنسان التسليم التام له ذهنيا ونفسيا حتى يتمكّن من المتح منه، لذلك فإن دراسة القرآن بحواجز ذهنية ونفسية، أعني على خلفية التقابل بين القدسي والإنساني والندية بينهما سوف لن ينتج في النهاية إلا تشوهات للفكر الإنساني نفسه فضلا عن تشويه معاني النص القرآني، وذلك على أساس أن القرآن هو المعين الصافي لكل من الفكر الإنساني والمعاني التي ترده معا.
[4] 4- يمكن الإثبات نظريا أن المحفوظية هي الأصل في النصوص المقدّسة وأن الطارئ هو تحريفها عن أصلها، ذلك أن المحفوظية هي المسلمة الضمنية الرئيسة في المقدّس، وإلا فلن يغدو المقدّس مقدسا، المقدّس هو ما لا يخضع لصروف الزمن، لذلك كان تحريف النص أمرا طارئا وأن ثبات النص هو الأصل، ومن هنا كانت خصوصية الإسلام عن باقي الديانات في مسألة حفظ القرآن خصوصية طارئة، أو قل خصوصية شكلية ذلك أن الخصوصية المضمونية هي كونه الشريعة الأتم، أو بتعبير أبي يعرب المرزوقي أنه ليس مجرد وحي إنما هو وحي خاتم للوحي، لكن العناية بما هو شكلي في الشريعة هو تماما كالعناية بالمظهر الخارجي للطبيعة في سبيل استكشاف قوانينها.
[5] 5- ربما النقاش الوحيد والأهم الذي افتقده التقليد المسيحي-اليهودي في الغرب كان عن حقيقة "محفوظية النص" لأنه لو وجد لكان الحل الأوحد لكل التناقضات الفلسفية التي يمكن أن تظهر في مجال العلم، لكنه لم يكن مطروحا إطلاقا نظرا لعدم توفّر النصين الإنجيلي والتوراتي على الصفة المطلوبة.
[6] 6- التجديد هنا بمعنييه الأصغر الذي يكون ضمن المنظومة الفكرية السائدة في عصر من العصور أو بمعناه الأكبر الذي يكون بمثابة "ثورة علمية" تؤدي إلى قلب الأسس والمسلّمات السائدة التي تبنى عليها البحوث، وهنا نشير إلى نموذجين واحد من الطبيعة وآخر من الشريعة وإن كانا لا يفترقان من حيث الجوهر ويتمحوران حول أهم مسألة في العلم وهي مسألة السببية: الأولى هي ثورة أنشتاين في الفيزياء الحديثة التي قلبت أسس فيزياء نيوتن فقالت بعدم إطلاق السببية وأنها نسبية داخل الزمان والمكان، والثانية هي ثورة الغزالي التي أحدثت القطيعة مع الضرورة السببية في علوم الطبيعة وقالت بالإمكان السببي في الطبيعة والشريعة معا انطلاقا من الشريعة، وإن كان المستغرب هو أنه وبقدر ذيوع الأولى واستثمار نتائجها بشكل نظري وعملي معا فإن الأولى لم تحقق الانتشار والاستثمار إلى غاية اللحظة رغم أنها أقدم من الأولى وأكثر ثورية وشمولا منها، ثورة الغزالي التي أشار إليها محمد إقبال في: تجديد التفكير الديني في الإسلام، واستفاض فيها وفصلها أستاذنا أبويعرب المرزوقي خاصة في أعماله: السببية عند الغزالي، إصلاح العقل في الفلسفة العربية، وتجليات الفلسفة العربية.
[7] 7- والمحفوظية هنا بمعناها العام الذي يشمل نصوص السنة النبوية أيضا ويتسع ليصل إلى مفهوم محفوظية العلم ذاته، ذلك أن العلم الشرعي بالنصوص وغيره إنما يقوم على التحصيل الفعلي لشروط العلم الصحيحة الممكّن من الاجتهاد.
[8] 8- الآيات 77، 78، 79 من سورة الواقعة {إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون}، ومعنى كلمة "كريم" يمكن أخذه من المصدرين الكرم والكرامة، الكرم: فهو معطاء لمن يطلب حق الفهم، والكرامة: فهو عزيز على من يتطاول عليه، وهذا استنادا إلى دلالة "الهيمنة" {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} المائدة 48، كإشارة إلى القوة الكامنة في النص القرآني بوصفه عالما فكريا شاهدا على مراحل التاريخ بمعنى "المجد" {بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ} البروج 21، 22.
[9] 9- دلالة إنكار ثبوت النص القرآني لا تختلف عن دلالة إنكار النص النبوي فهي تصدر عن نزعة نصية محجوبة عن الواقع التجريبي وحاجبة عنه، فإذا كان المتفق عليه أن القرآن أكثر ثبوتا من السنة من حيث الاتفاق على النص فإن الفارق أن المنكر للحديث يسعى لاستبدال منهج الجرح والتعديل القائم على الاستقراء بمنهج وضعي يحيل الحقائق إلى عقل محض يعفيه من جهد الاستقراء وتعبه تماما كما يسعى منكر ثبوت النص القرآني إلى ذات المنهج الوضعي الذي سينتهي بالضرورة إلى حمل شعار الأنسنة كمقابل حتمي للمقدّس الثابت.
[10] 10- هنا يغدو مبدأ الإجماع ذو حجية بالغة الأهمية لتماسه مع المنهج التجريبي في العلم ذلك أن لا دليل منطقي على الإجماع إلا كونه حقيقة تجريبية.
[11] 11- مثلا السعي للاحتكام إلى منهج كلي في الحديث إنما هو سعي خفي بقصد أو بدونه إلى تحكيم أحد العناصر الأربع الواردة وبالتالي هو سعي إلى أنسنة النص وتجريده من قدسيته.
تاريخ النشر : 01-08-2016
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.