في القرآن "فارق أنطولوجي" يجعل من الإسلام يفارق الأديان الأخرى ويفارق العالم ذاته، وهذا الفارق تحققه "ظاهرة الخلود" التي ميّز بها الوحي القرآني نفسه عن بقية الوحي في كل الأديان السماوية السابقة، فضلا عمّا ينتج عن الخلود من تفاصُل عن العالمين الطبيعي والتاريخي الخاضعان للتاريخية، بينما الخلود هنا يستثني القرآن من التاريخية، فبأي معنى هو القرآن لا تاريخي؟
واضح أن بعض آي القرآن نزل وفقا لحوادث معيّنة وذات تحديد زماني ومكاني دقيق، وبالتالي خضوع القرآن -في بعض أجزائه على الأقل- للتحيز التاريخي، فضلا عن أن أي قارئ للقرآن بإمكانه إدراك المجال الثقافي الذي نزل فيه فضلا عن نزوله بلغة قوم معلومة، لغة لم يعد لها وجود في سليقة أحد من الخلق، أعني أن لغة القرآن لم تعد حاليا لغة أصلية لأحد من الناس تتواشج مع تكوينه النفسي والذهني، فاللغة العربية الفصيحة اليوم تكتسب اليوم اكتسابا عبر المؤسسات التعليمية بعكس ما كان حاصلا آن نزولها على عرب الجزيرة حيث يرضع الناشئة لغتهم منذ يوم ولادتهم(1).
فإذن الانفصال مضاعف بين القرآن وهذا العصر، انفصال تاريخي حيث أسباب النزول وانفصال لغوي حيث تعذّر اللغة الفصيحة كلغة أمّ بالمعنى الفعلي لكلمة أمّ، فيكون ممكنا التسليم بتاريخية القرآن المطلقة بمجرّد إدراك حقيقة الانفصال تلك، إلا أن استنطاق مجموع دلالات عدد من آيات القرآن يمكن أن يكشف عن معنى الخلود الذي يشير إليه، فعن طريق الواسطة الإلهية يقول {إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون} أو بطريق مباشر {إنه لقرآن مجيد في كتاب مكنون}، فضلا عن سمة الإحاطة {ما فرّطنا في الكتاب من شيء}.
فإذا أخذنا الآية الأخيرة، فإن المنطق البسيط يكشف عن أن التعميم الوارد بخصوص "عدم التفريط" هو المعاني الكُلّية العامة لا الجزئيات التفصيلية التي يستحيل انسحابها على نص محدود الحجم ومحدود في الزمان والمكان أن يحيط به، فالخلود لا يرتبط بالجزئيات وإنما بالكليات التي عالجها، لذلك فإن القرآن هنا بوصفه حالة فريدة في الإحاطة أو "عدم التفريط" في "الأشياء" بالمعنى الوجودي، أعني الحقائق الوجودية الصامدة أمام أي تحيين أو تبديل، وذلك بوصفه الموضوع الرئيس الذي يحوم حوله القرآن(2).
فهو يقتحم بخلوده الأزمنة المتتابعة دون أن يمسه تحريف بـ"الفعل" في نصه، في ذات الوقت الذي يحمل فيه الهداية بـ"القوة" في معناه، فهو نص لا يطاله التحريف إلا بالفهم الذي ينتج عنه "نص ثانٍ"(3)، وأنه يحوي في جوهره توجيها {للتي هي أقْوَم} في كل زمان، بما يعني أن عدم خضوع القرآن للتاريخية يأتي من وجهين مترابطين لا يصح الفصل بينهما إلا نظريا ومن أجل الإثبات، الوجه الأول هو شكله الذي لم يتحرّف وذلك الذي يدل عليه مجرد الاتفاق العام حول نصّه الموحّد إلى غاية اللحظة الراهنة، والوجه الثاني هو أنه ونتيجة لحفظ نصه يكون فهمه متاحا للجميع في كل زمان ومكان، وذلك وجه من أوجه العدالة الإلهية من جهة ومن جهة أخرى وجه من أوجه إثبات حاجة الإنسان لعامل توجيه برّاني يكون خالدا بعد تجارب التحريف التي مرّت من قبل.
فالخلود القرآني إذن ليس خلودا مباشرا وذلك ما أثبتناه وتثبته أبسط الأدلة المنطقية، إنما خلوده خلود المعنى المناط بالبشر من ذوي التفاعل مع النص تفاعلا بالمعنى لا بالمبنى، فالتفاعل بالمبنى كان فعلا حاصلا ومؤثرا عندما اتحدت اللغة الفُصحى بالسليقة، لكن الآن الأمر مختلف تماما حيث التفاعل وجب أن يكون بالمعنى وما يمكن أن توحي به الكلمات والنصوص القرآنية بوصفها إشارات إلى حقائق كامنة في الوعي البشري فيحصل التفاعل بشكل مضاعف، أعني أنه إدراكٌ لمعنى ما كان يعرفه/يتحسسه الوعي سابقا فيعرف قيمته الذاتية ومكانته قياسا إلى بقية الوجود.
فيستحيل القرآن من حالة نص سكوني إلى حالة وعي حركي لا تتبدّى قيمته إلا عند لحظات التفاعل بين النص والوعي، بل إن شرط حضور النص قد ينتفي في حالة تفاعل الوعي بالحقيقة الكونية مباشرة، وبرهان ذلك حضور المعنى في الفاهمة آن غياب النص عن الذاكرة، ومن ثم فإن الارتباط بالنص في سبيل فهم المعنى يكون عائقا إلى الوصول إلى المعنى، لأن حضور النص يكون تالٍ للحظة إدراك المعنى(4).
وطبعا فإن إدراك المعنى لا يكون إلا عن سابق جهد يؤديه الإنسان من محاولة في الربط بين المعنى والنص، ولكن لحظات حضور المعنى غالبا ما تكون منفصلة عن لحظات التعامل مع النص، فالأمر يقتضي جهدا في ملاحقة المعاني، ليس معاني القرآن، لكن المعاني الغائبة عن الأذهان، أي تلك التي تشكل مصدر حيرة ومبعث قلق وسؤال في الآن ذاته، وذلك تسليما بأن المسائل التي يعالجها القرآن مسائل وجودية، أعني أنها لا ترتبط بإدراكات خاضعة للظروف النفسية أو أنها مجرد خيارات أيديولوجية، إنما الأمر متعلّق بأصالة وجودية يصدر عنها القرآن.
لذلك ينتفي أن يكون القرآن مجرد كتاب ناتج عن حالة نفسية اكتنفت النبي ذات زمن غابر، فضلا عن تكون سحبا لتلك الحالة النفسية المدّعاة للنبي على أتباعه فتستحيل إلى "أيديولوجيا جمهورية" نجحت في تحقيق تماثل مشترك على مستوى الجموع البشرية، وبه فلعلّنا بحاجة إلى إثبات تضمّن القرآن لحقائق وجودية لا حقائق سيكولوجية أو أيديولوجية؟ ولعلّنا بحاجة قبل ذلك إلى إثبات أن القرآن فعلا لم يخضع للتاريخية في نصه؟
لكني الآن فعلا لست مهتمّا بالإجابة عن السؤالين اللذان قد يعترضان بحق قارئ هذا النص، وذلك لأنني مسلّم بأن أي برهان على ذلك قد تخونه العبارة فلا تكفيه الإشارة، ولا بأس أن يكون الأمر كلّه افتراضا، وأن طبيعة الجواب هي التي ستنفي أو تؤكّد ذلك ضمنا، أقول طبيعة الجواب لأن الجواب عن السؤالين قد لا يأتي إلا عَرَضاً...
لن أتوقف كثيرا هنا لأني مطالب بالسير إلى الأمام، واستكمال ما يجب استكماله، فأعرّج على القول بأن العائق الذي حدّ الكثير من التحليلات - التي تناولت الإسلام بالجوهر أم بالعرض- في فهم النقائص الحضارية التي اعترضت الإسلام لا يعود إلى عوائق ذاتية فيه، وإنما إلى خلل اعترى تلك التحليلات نفسها يتمثل في عدم إدراك أن الإسلام لم يستنفذ كل المعاني التي يختزنها، وأن عدم تمكُّن المسلمين في البلوغ إلى ما كانوا منه قاب قوسين أو أدنى(5) لم يرتبط بالحقيقة الوجودية للإسلام التي تتجسد في النص أساسا، وإنما إلى دورة حضارية شاملة اعترضت المسير الإسلامي إلى بلوغ نهاياته الوجودية، ذلك الذي يوجب علينا التمييز بين الإسلام التاريخي (الحضاري) والإسلام الوجودي (المعرفي)، فعولج الإسلام وكأنه قد قدّم كلما لديه من مكنونات هي موجودة في النص القرآني الذي قدّمنا عنه، فكيف يمكن البرهان على استمرار صلاحية القرآن لما بعد انهيار حضارته الأولى؟
طبعا لن يكون البرهان مجرد استدلال كلامي، بل لا بد أن يكون تعبيرا عن مكابدات فعلية، تنتهي بالإنسان إلى حالة مكاشفات تكون تعبيرا حقيقيا عن انصهار تام بين الذات البشرية والمعاني القرآنية، هذا الانصهار يكون المتمم الضروري لحالة المصاهرة بين الذات والعالَم، فنكون أمام حالة جديدة من "فك السحر"، فبعد فك السحر عن العالم نصل إلى حالة فك السحر عن القرآن، باعتبار بعض التماثلات بين العالمين الكوني والقرآني، وأول التماثلات الخضوع للقوانين.
ولعلنا قد قدّمنا الإشارة إلى طبيعة القوانين القرآنية وأنها ذات سمة (لحظية) و (غير متشيئة)، وأكثر من ذلك أنها من "طبيعة ذاتية" ناتجة عن تفاعل بين الذات الإنسانية والذات القرآنية، فعن أية قوانين نتحدث مادام الأمر متعلق بلحظات غير متشيئة وذات طبيعة ذاتية، فالمعلوم أن السمة الأساسية للقانون هو الثبات أولا والكونية ثانيا والموضوعية ثالثا؟
لا شك إذن أننا أمام حالة تقنين مفارق تماماً للمألوف، خطه العريض أن النص القرآني يتضمّن حقائق وجودية، لا سيكولوجية ولا أيديولوجية، إذ من هنا يمكن أن تستمد أحقية الكلام عن قوانين وجودية ذات طبيعة تعاكس طبيعة القانون الطبيعي، فالقوانين الوجودية هي على الغالب المثال غير المتشيء مثل الصبر والمصابرة والجهاد والمجاهدة، أو الماوراء الغائب مثل الإيمان بالغيب الدنيوي والغيب الأخروي، هذا الذي يتطلب مكاشفات واستقصاء حثيثا (6).
------------------
(1)- هذه الحقيقة لا تنفي الجمالية الشعرية والتصويرية التي يتضمنها القرآن والتي تشكل اللغة مظهره الرئيس، لذلك فانتفاء السليقة اللغوية هنا لا يعني انخرام الجانب الجمالي في القرآن، لكن الجمالية ستكون أكثر ارتباطا بالمعنى، لكونها تمر عبر المعنى من خلال أداة اللغة، لكن الذي انتفى هو التعامل المباشر مع القرآن، وبه فإننا نجد أن البديل الذي يتضمنه القرآن عن السليقة اللغوية هو تركيزه على المعرفة والحض عليها...
(2)- إن التسليم بهذا المعنى الإحاطي للقرآن يقتضي افتراض "إمكان تضمن الوجود لحقائق ثابتة" لا يمكن الامساك بتلابيبها إلا بواسطة نص القرآن، وأنها حقائق من طبيعية روحية لا مادية، هي تلك التي قال عنها نص القرآن {ما فرطنا في الكتاب من شيء}، فمن جهة أثبت تقدّم العلوم الفيزيائية المادية أن الحقيقة المادية ذاتها جعل منها في عداد العلوم التي لايقين فيها فضلا عن العقل الذي يتتبعها، هذا العقل الذي سيضني نفسه بالبحث عما يملأ ظمأه الوجودي والذي سيغدو باحثا عن حقيقة وجودية قابلة للتأقلم مع كل الظروف وأنها حقيقة لا يقين فيها إلا استمرار الوجود، ومن جهة أخرى ينتج عن ذلك أن النص القرآني قد جعل من الأشياء الماهوية (الروحية) أمورا ممكنة من خلال تجسيدها في معاني لغوية/لفظية، أي أنه أقحمها في عالم الطبيعة، وتلك هي الإضافة الناتجة للقرآن في الطبيعة، فهو ليس مجرد تفسير للكون المادي واللامادي وإنما إضافة نوعية فيه ذلك أنه جعل من المعاني الوجودية المتحركة مظهريا حقائق ثابتة، فيستحيل خلود النص بمجرده إلى جوهر، وإمكان ذلك يعود إلى الواسطة الأداة المستعملة بين الحقيقة الوجودية الثابتة ومعناها الذهني المتحيز وهي اللغة، فاللغة إذن بماهي ترميز تأخذ مع خلود النص القرآني تمايزا إضافيا بأنها تمنح الخلود للحقيقة الوجودية بينما المعنى المتوارد على الأذهان شديد التغاير.
(3)- ولعل أغلب الثقافة الإسلامية اليوم عبارة عن "نصّ ثان" للنص الأول المحفوظ المتضمّن للهداية، ولعل العامل الأهم الذي جعل من النص الثاني بمثابة النص الأصل هو تحوله إلى ثقافة شعورية تربوية تمرر من جيل إلى آخر، وتعتبر التعامل مع النص الأول مغامرة ومفتاحا للخروج عن النص ذاته، وهذا لِما يؤسسه النص الثاني من هالة على النص الأول قد يعود إلى سعي ولو مبطّن وغير موعى به لاحتكار الوصاية على الدين التي جاء الإسلام أساسا ثورة عليها.
(4)- لسنا ندرك كيف يمكن أن يتفاعل الفهم مع الذاكرة القوية التي يتميز بها بعض الناس، وذلك ما قد يحتاج إلى تجارب حدسية تختبر الأمر، فإما أن الأمر سيكون أكثر فاعلية في التفاعل بين الوعي والتذكر، وإما أن الأمر سيحتاج إلى نظرية متممة للرأي الذي ندلو به في هذه القضية.
(5) – أنظر الآراء الهيغلية حول الإسلام، فهو من رغم كونه حاضرا عنده في جميع أشكال الديانات التي عددها، إلا أنه لم يعتبره شكلا مستقلا لذاته، كذلك فيبر اعتبر عدم ظهور الحداثة في الإسلام لعلة ذاتية فيه، أيضا برترند راسل الذي فسر عدم تحقيق الثورة التجريبية بالعقل التجزيئي الذي ساد عند المسلمين، وأخيرا وليس آخرا توبي هاف اعتبر عدم تحقيق الفلك الإسلامي للثورة التي حصلت بعده مباشرة في الغرب لعلة ترتبط بطبيعة المؤسسات الإسلامية...
(6)- لعل أكثر المسائل حضورا في القرآن وأكثرها جدلا في الوقت ذاته هي مسألتان: الأولى هي الغيب والإيمان به، {الذين يخشون ربهم بالغيب} و{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} فضلا عن الآيات المتعلقة بالحياة الآخرة، والثانية هي الحث على الصبر والمجاهدة بوصفهما الطريق الأنسب إلى تحقيق المثل العليا، ومن المهم هنا محاولة استكشاف طبيعة المثل العليا في القرآن إذ أول اللحاظ يشير إلى كونها دائمة الوصل بين العالمين الدنيوي والأخروي، أعني أن المثل ذات غاية أُخروية أساساً ولا تأتي الغاية الدنيوية إلا عرَضياً ومن النوافل، وهذا يحيل إلى إمكان تأسيس ميتافيزيقا مفارقة نوعيا للسائد من الميتافيزيقيات.
تاريخ النشر : 15-05-2017
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.