تمهيد:
حددت ورقة الندوة المطلوب من علاج مسألة العولمة. ففصلته إلى تحرير المفهوم واستعراض الآراء السائدة ومتابعة تاريخها في الأذهان وتاريخ موضوعها في الأعيان سواء سلم الباحث بجدتهما
أو بعدم جدتهما مع الموازنة بين وجهيها الخير والشرير. وهذا من جوهر العلاج الوصفي لكل تدرج معرفي حول أي ظاهرة ومنطق المدارس التي حاولت تأويلها وتعليلها مع شيء من تاريخها الفعلي
ومحاولة ترتيب المقومات الواقعية التي مثلت موضوع التأويل والتعليل. والمعلوم أنه لا يختلف اثنان في ضرورة هذا التمشي. لكن العلاج ينبغي أن يتجاوز الوصف المجرد لما يقال في الظاهرة ولما
فيها فيطلب المبدأ العام الذي يمكن من إرجاع مقوماتها وأعراضها إلى بنية عميقة تبرز العلاقات المنطقية بينها لئلا تبدو مجرد صدف تاريخية فيكتشف منها النظام الباطن:
فإذا أطلقنا على المستوى الأول من العلاج اسم العلاج التحليلي لظاهرة العولمة كما ترد في الأدبيات "السياسية-الاقتصادية" أو "الاجتماعية-الثقافية" أو فيهما معا وأطلقنا على المستوى الثاني من العلاج اسم العلاج التأويلي لما وراءها الذي تعد العولمة من مفاعيله السطحية في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين (=كيف يتصور الإنسان نفسه وعلاقته بالمطلق؟) أصبح من البديهي أن نقدم عليهما مدخلا تمهيديا نعلل فيه التمييز بين مستويي العلاج والحاجة إلى عدم الاقتصار على أحدهما دون الآخر. ذلك أننا ما كنا لنحتاج إلى النوع الثاني من العلاج لو لم يكن مستوى الكلام الأول في العولمة يؤول في الغاية إلى طريق مسدودة ما لم نحسم مسألة مجراها ما الحتمي فيه وما الاختياري منه.
فإذا كانت العولمة مشروعا قصديا وإراديا آل مرجعها إلى الإرادي من أفعال البشر ومن ثم فهي تنتج عن صفات خلقية فيهم خيرة أو شريرة فتكفي الموازنة بين الوجهين والتسوق لنشتري ما نشتهي منها ويغدو الجميع بما لديهم فرحين. والكلام عندئذ يكون كله ذا سجل خلقي يدور حول كيفيات تنمية الوجوه الخيرة منها بتنميتها وتطويرها ومعارضة الشر فيها بأفعال من جنس الثورة الرومانسية على شرور العولمة. ومثاله دون شك الاحتجاج الموازي لقمم البلاد التي ينسب إليها شرورها (اجتماع الثمانية الكبار) على أهميته من حيث الدلالة على الوعي الخلقي لبعض أهل العصر.
أما إذا كان الغالب على العولمة هو طابع المجرى Process الحتمي فلا يكاد الاختياري فيها يذكر لم يكن للاحتجاج الخلقي عليه من سبيل فضلا عن قابلية الاحتجاج إلى الانقلاب ردَّ فعلٍ إرهابيٍ عند فراغ الصبر. وقد يبين التأويل الفلسفي أنها في غياب الفهم الاستراتيجي لكيفيات العلاج كما هي الحال عندنا نحن العرب والمسلمينتبقى العولمة آلية جهنمية تسحق أصحاب المواقف الرومانسية فتؤول بهم في الغاية إلى اليأس من الفهم فضلا عن الحل ليصبحوا من القائلين ب"داوني بالتي هي الداء" كما عبر عن ذلك أبو القاسم الشابي في صرخته الشهيرة:
لا عدل إلا إذا تعادلت القوى ***** وتصادم الإرهاب بالإرهاب
المسألة الأولى
تعليل الحاجة إلى مستوى العلاج الثاني
قل أن تجد ظاهرة إنسانية لا يتلازم فيها الوجهان اللذان يتجلي فيهما ازدواج الوجود الإنساني من حيث هو إنساني: تجليه من حيث هو حدث بخصائص الطبائع وتجليه من حيث هو حديث بخصائص الرموز.فقد يتوالى الوجهان وقد يتساوقان في مجرى الحِدْثان. لكنهما متلازمان دائما ولا ينفصلان. فما أن يحصل أحدُهما حتى نطلب الثاني. ذلك أن الإنسان يبدع الحضارة الرمزية إذ ينسج الحدثَ بهندام فني يُؤَسْطِرُهُ. وهو يصنع الحضارة المادية إذ يزرد الحديثَ بنسق علمي يُتَقْنِنُهُ. فتتساوق عنده الترجمةُ المتبادلة أو تتوالى بين الفعل المتعين في الأحداث والأفعال والوعي المتعين في الأحاديث والأقوال إلى غير غاية مادتين أحدهما للآخر وصورتين بالتناوب:وتلك هي الدورة الحضارية المبدعة لذاتها فعلاً يتوعَّى ووعياً يتفعَّل.
وهذان الوجهان هما علة ازدواج معنى "التاريخ-التأريخ" في جل اللغات كما نفعل إذ نترك الهمز للحدث أو نهمز للحديث: فهو حدث Geschichte وحديثHistorie . والعرب جمعت بينهما في أصل يوحد بينهما تسميه ديوانها أعني الأدب عامة والشعر خاصة حتى إن ابن خلدون الذي يدرك الأعماق جعله غاية نظريته التكوينية في الظاهرة العمرانية. ويشترك الأمران في الحدوث أو التجدد الدائم الذي هو علة التلازم بين تجربة الحال و معاناة الخيال. ولولاهما لما تعالى الإنسان ليصير وجوده عين السؤال حول مراحل النزول والترحال (بداية علم التاريخ) وحول رمز المبدأ والمآل (بداية علم الأساطير). ذلك أنه ليس لأي منهما معنى بمعزل عن ضدِيدِه الذي هو في الحقيقة نَدِيدُه. فحال الحدث وخيال الحديث يتجردان فيتعاليان ليسقط المضاف إليه منهما ويبقى التفاعل بين المضاف فيهما أعني جوهر الوعي التاريخي ومادته من حيث هما أفق السؤال الوجودي الذي يعبر عن التلاحم بين المضافين: ممكنُ الإنسان ومُحاله في واقعه ومخياله حول أفق تِسْآلِهِ: وتلك هي الصلة الجوهرية بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الصلة التي تُعد العولمةُ أحدَ أعراضها.
ومن هذا الأفق ينبغي أن تفهم العولمة إذا كنا نريد أن نكتشف علل تعثر العرب والمسلمين فيها إذا كان هذا هو القصد من إدراج المسألة بين محاور الندوة. ومعنى ذلك أن العولمة باتت الآن وقبل كل شيء-عند الجميع وليس عندنا وحدنا-توليفة تاريخية تلاحَمَ فيها معلومُ المسير ومجهولُ المصير فتقدم الافتراضيُ والرمزيُ منهما على الحقيقي والفعلي ليُخْفِيَ بما يشبه الدوار مفاعيل الاستعمار في كل الديار حيث زالت الحدود فاختلط الأهل والأغيار: مفاعيل العولمة ليست بين الدول والأمم فحسب بل هي في الدول والأمم كذلك.
وهي ليست من مجال العلاقات الدولية والأممية مقصورةً عليها بل هي تمتد من قلب أدنى جماعة محلية إلى أقصى الجماعة البشرية بل هي قد استقرت حتى في ضمائر الأفراد واستحوذت منها على الشوق والفؤاد. وهذه الخاصية التي تتميز بها الظاهرات الإنسانية هي جوهر العولمة لأن الإنسانية تبدو فيها قد بلغت تجربتُها غايةَ الكلية ومعاناتُها غايةَ العينية في كل خاصية وجزئية. فبات من الواجب أن نفهم:
1- حدث العولمة ما هو وكيف حصل؟
2- وحديث العولمة ما دلالته وكيف وصل؟
المسألة الثانية
عرض وتحليل وصفيين للظاهرة
من المعهود في هذا المستوى من العلاج عرض المعضلات التي ترتب على التعريف من منظور اللغة والحضارة التي تسميها إما بالتركيز على آثارها الجغرافية السياسية في وجهي علاقات الدول السياسة وأقوى أدواتها الدبلوماسية والعسكرية أو بالتركيز على آثارها الجغرافية الثقافية في وجهي علاقات الشعوب وأقوى أدواتها التواصلية والتعارفية أو بالجمع الجدلي بين المنظورين عند الربط بالرهان في كل هذه العلاقات أعني المحرك الأساسي في العولمة: العلاقات الاقتصادية بكل درجاتها المادية واللامادية وفيها تتحد الجغرافيا السياسية والجغرافيا الثقافية بل الجغرافيا عامة إذ إن الأرض هي معين الحياة والعلاقات من توابع سد الحاجات والسلطان عليه وبه.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.